فكر

متى يتكامل دور المثقف العضوي والمثقف العام؟

معظم الثورات والحراكات الشعبية تعيش حالةً من فقدان التوازن

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين
لم يتعرّض المثقف العربي لأي حالة نقدٍ أو هجومٍ عبر مسيرةٍ طويلة مرّت بها بلداننا العربية إلّا في حالاتٍ قليلة ونادرة، لكن مرحلة الحراكات الشعبية الكبيرة التي اجتاحت معظم بلداننا العربية وضعت المثقف العربي على المحك أكثر من أي وقتٍ مضى، ولم تتعرّض مقولة الثقافة والمثقف وقضاياها واستحقاقاتها واستطالاتها لاختبار المصداقية في المواقف كما تعرَّضت له في هذه المرحلة التي أطلق عليها مرحلة (الربيع العربي). فلو عدنا قليلاً إلى الوراء باتجاه قراءة مشروع التحرر القومي العربي من الاستعمار الكولونيالي في النصف الأوّل من القرن العشرين، لوجدنا أنّ مهمة المثقف العربي قد تبلورت وانصقلت مع نضال الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. مع العلم أنه تم إقصاء وتهميش الجماهير وحرمانها من تحقيق مكاسب نضالها الطويل ضد الاستعمار الكولونيالي والذي كان من أبرز نتائجه تحقيق الاستقلالات في العديد من بلداننا العربية.
وفي حقيقة الأمر فإنّ مشروع المثقف العربي ارتبط باستمرار بالنضال من أجل الوصول إلى الحقيقة المجرّدة، وتحقيق مشروعه التنويري، ومجابهة السلطات الحاكمة التي تسيطر وتجثم على صدور المواطنين ومقدراتهم. لكن حالة الحراك الشعبي العارمة التي فجّرت طاقات الجماهير العربية على أوسع نطاق في وطننا العربي والتي كانت من أهدافها الأولى الوقوف ضد الطغاة والمستبدين. هذه الجماهير لم يتم تحريكها من قبل المثقفين نتيجة غياب الحوار والتنظير والجدل الثوري الذي يسبق ظهور الثورات أو الحراكات الجماهيرية. وهنا مربط الفرس.لأننا وجدنا معظم الثورات والحراكات الشعبية تعيش حالةً من فقدان التوازن وتعاني من الإرباك أمام استحقاقات وتداعيات هذا المد الجماهيري العارم. وذلك لعدم جهوزية المثقفين العرب للتفاعل مع تلك اللحظة التاريخية الفاصلة في حياة الشعوب. تلك القضية أوقعت المثقف العربي في أزمة عنيفة لم يتوقعها، وتركت آثارها وتناقضاتها بشكلٍ متتابع ومتلاحق في الساحة الثقافية العربية. وتعرَّض كبار المثقفين العرب للنقد والمساءلة عن دورهم، أو عن صمتهم، وحالة ارتباكهم. بل تعرّضوا للتساؤلات اللامنتهية عن جدوى مشروعهم الثقافي في ظل الحراكات الجماهيرية الواسعة .وتم اتهامهم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بأنهم لم يخرجوا من دائرة التنظير المجرّد ليتعايشوا مع الجماهير وهمومها وطموحاتها، وهؤلاء لم يعودوا يقبلوا بأيّ دور للمثقف بعد تلك الكبوة.
إنَّ ما عاناه المثقف من حالات الإرتباك وعدم التوازن أو حالة فقدان دوره النضالي في تلك المرحلة النضالية الحاسمة من تاريخنا، دفعنا للبحث عن معرفة ماهية ودور المثقف العربي. بخاصة وأننا نقف أمام أحد أهم المفاهيم الإشكالية للمثقف وهي في الآن ذاته متعدّدة المعاني، بسبب النشأة الغربية للمفهوم. ففي تراثنا العربي لا نجد مفهوم المثقف بالمعنى الدلالي للكلمة لأنّه لم يتم استخدامه بمعناه الصريح المتداول في وقتنا الحاضر إلا بعد عمليات التلاقح الثقافي والمعرفي بين الشرق والغرب في عصرنا الحديث.على الرغم من أنَّ المثقفين كانوا متواجدين في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، والمتمثِّلون في طبقة الفقهاء والقضاة والعلماءوحتى الفلاسفة والمفكرين المسلمين. وكان لهم دور اجتماعي مهم من حيث حفاظ بعضهم على مسافة بينهم وبين السلطات السياسية الحاكمة وبين الجماهير المنتشرة على نطاق واسع في البلاد. وكانوا قد قدموا أنفسهم كطليعة اجتماعية واعية هدفها نشر المعرفة والوعي بين الناس. وكان الخطاب العربي في حقب متتالية من تاريخنا العربي يؤكّد على وجودهم بكثافة.
وعلى الرغم من أنّ هذا المفهوم هو مفهوم حديث إلا أنه أصبح مفهوماً محورياً يحظى باهتمام كبير في تاريخنا العربي المعاصر منذ بدء الاستعمار الكولونيالي، ودخول مجتمعاتنا العربية في ما يعرف بالحداثة والمعاصرة. وهذا سر وجود المثقف الذي بدأ يلعب دور المثقف السلطوي مدافعاً عن الحاكم وزبانيته، وما يميزه عن المثقف العام الحر، فقد أصبحت الأفكار والمفاهيم والآراء والثقافة العامة مع تشكّل الدولة في عصرنا الحديث تلعب أدواراً كبيرة وواضحة في علاقتها البنيوية بالسلطة أو بالجماهير من خلال هيمنة وسيطرة الدولة الحديثة. وأضحى المثقف يلعب دوراً أساسياً ومحورياً سواء في علاقته المباشرة مع السلطة الحاكمة أو بالجماهير. من خلال الحوارات والنقاشات الدائمة حول المجتمع ومتطلباته وطرق تحقيق أهدافه والدفاع عنه. وهكذا بدأنا نجد التناقضات والتمايزات بين المثقف العضوي والمثقف العام. من خلال العديد من الدراسات والأبحاث التي تبين الفروقات الواضحة بين أشكال المثقفين على المستوى العالمي بشكلٍ عام، وعلى المستوى العربي بشكلٍ خاص .
لقد كتب المناضل والمفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي عن المثقف العضوي الذي يمثله من خلال كتاباته الهامة (في السجن) وهو عضو مؤسس في الحزب الشيوعي الإيطالي، وقد أطلق على فكره اسم الغرامشية وهي فلسفة (البراكسيس) المهتمة بالنشاط النقدي والعملي والممارسة الإنسانية العملية المحسوسة. فقد قال عن المثقف أنه ليس صاحب مشروع ثقافي وأخلاقي مجرد وحسب، بل هو (مثقف الكتلة التاريخية المهمشمة) أي كعضو محوري وأساس فيها، ويسعى بكل ما يملك لإزاحة القوى التاريخية البالية والقديمة التي تسيطر على السلطة وكسر هيبتها وفضحها، لأنها تمارس تزييفاً مبرمجاً لوعي المهمشين. والمثقف العضوي هو الذي يرتبط بالجماهير بشكلٍ مباشر ويلتحم معها ويدافع عن قضاياها ويساهم معها في نضالها الاجتماعي والسياسي وحتى الاقتصادي.
كما يرى أنطونيو غرامشي أنَّ المثقف العضوي يمكنه من خلال نضاله مع الجماهير أن يشكِّل سلطة وقوة بديلة عن سلطة الرأسمالية العالمية وسيطرة السلطات السياسية .أما المثقف العام، فهو الذي ينطلق من فهم الأمور والقضايا ومتطلبات المجتمع وطموحاته، ويقدِّم رؤيته الواضحة والصريحة دون أي بُعد عضوي لأي حزب أو مجموعة بعينها، أو أي بُعد أيديولوجي مسبق، بمقدار ما تكون رؤاه ومنطلقاته نابعة من معرفته الدقيقة بالمصلحة العامة أو الشأن العام، لذا نجده ناقداً قوياً وداعماً للمشروع الوطني الجماهيري.
كل هذا لا يبعدنا عن التعبير عن وجود أنواع وأشكال مختلفة يتسم بها المثقف والذي يمكننا رؤيته في أروقة السلطة وينادي بالإصلاح، وتحسين النظام السياسي والاجتماعي القائم، وتحقيق مآربه وانحيازاته الأخلاقية وحتى الثقافية من داخل السلطة، ومن نسغ النظام القائم. والذي أطلق عليه اسم (المثقف الاصلاحي). كما نجد إلى جانب المثقف الإصلاحي مثقفون مدافعين عن السلطات القائمة وأشكالها المتعدّدة ضد محاولات التطوير والتحديث والتغيير أو القيام بعمليات إصلاحية توفيقية. مبررين ذلك لاحتمال حدوث فوضى عارمة أو غياب البديل .
في حقيقة الأمر يكون اكتمال دور المثقف من خلال التزامه بقضايا مجتمعه وطموحاته وأهدافه. ولا ينتهي دور المثقف بكونه خزان معلومات يصدح بها في كل الأوقات والأزمان والأماكن، وبالتالي يدخل المثقف في دائرة الخطاب المباشر مع مجتمعه. لكن هذا الدخول تواجهه العديد من الحواجز والمشاكل غير المحسوبة، وذلك لوجود فجوة عميقة بين أفراد المجتمع والمثقف وعدم تمكن المثقف من إرسال رسائله للجماهير وإيصالها له. وذلك لما يعانيه المثقف من أزمةٍ حادة جعلته في عزلةٍ عن مجتمعه، وإقدامه على استخدام مصطلحات ومفاهيم لا يفهما أبناءالمجتمع العاديين. لذا لا يستطيع الوصول بمعلوماته إلى المتلقي ويكون تأثيره ضعيفاً جداً على الرغم من التطور الهائل والسريع في نقل المعلومات الذي فرض على المثقف أن يبذل المزيد من الجهود من أجل مواكبة هذا التطور الفكري الهائل، وهذا عملياً يفصله عن الواقع ويبعده عن مجتمعه. ولوجود منابر النخب المثقفة في أماكن لا يرتادها عامة الشعب وتوجد في أماكن بعيدة عن المجتمع بغرض عرض ما لديهم من معلومات نظرية هائلة لا يستطيع تطبيقها في المجتمع أو حتى عرضها عليه. وأكثر العناصر قوة في التأثير بالمثقف هو السلطة التي تستغله بطريقة مذلّة ،مما دفع بأفراد المجتمع أن يفقدوا الثقة في هذه الفئة من المجتمع بشكلٍ مطلق .
ليس هذا فحسب بل نحن غير متناسين ما يعانيه المجتمع من أزماتٍ حادة وبنيوية شبه مستعصية على الحل، وذلك لعدم معرفته لذاته وعدم إدراكه لواقعه الحقيقي. فأضحى فاقداً لذاته وهويته وغير مدرك لقدراته وحجمه الحقيقي.وذلك يعود لعدة أسباب هامة منها الصراعات الداخلية، فعلى المستوى النفسي أو السيكولوجي نجد أنَّ المجتمع ينحى باتجاه البساطة والسهولة والليونة وعدم التعقيد لبساطة ويقين المعرفة الإنسانية، بينما المثقفون مشككون دائماً، وبالتالي نجد أنَّ المجتمع يتجه نحو فئة المثقفين الزائفين الذي يحملون ثقافةً زائفةً ويقدمونها للمجتمع على أنها ثقافية ناجية لكنها تودي بهم إلى الهاوية.
قضية أخرى لا بدّ من طرحها في هذا السياق وهي أنّ المجتمع ليس لديه رؤية واضحة وصائبة عن وضعه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي الحقيقي، وذلك لأنّ الفرد في المجتمع يرى مصالحه من خلال محور المجتمع بشكلٍ مباشر، بينما مصالح وطموحات الفرد تتعارض مع أفراد آخرين داخل المجتمع الواحد وهذا ما يجعل محصلة كل الجهود التي بذلوها تصل إلى مستوى الصفر. كما أنّ الحديث في هذا السياق يذكِّرنا بالمثقفين الصامتين الذين يعملون في مراكز بحثية وأكاديمية ويشعرون بالخوف من فقدانهم وظائفهم ومكتسباتهم الشخصية الضيّقة بمجرد أن عبّروا عن آرائهم برفضهم لبعض مواقف السلطة وهذا تعبير واضح وصريح عن تخاذلهم عن أداء مهمتهم ودورهم التاريخي. ويمكن أن نطلق على سلوكهم هذا بصراحة هي خيانه حقيقية لأمانة التفكير العقلاني الإنساني النقدي الذي مارس عملية التواطؤ مع السلطة والحاكم المستبد بشكلٍ عملي. وهذا يحدث كنتيجة مباشرة لحاجات المثقف الغريزية واعتماده على ثقافة زائفة، مع العلم أنَّ المثقف هو من يقف مع أبناء شعبه ضد كل أشكال التلاعب بالوعي وتغييب الحقيقة من أجل صون وحماية السلطة، والممثِّل لصوت وصدى العقل النقدي داخل المجتمع، والناطق الحقيقي باسم حرية الشعوب وانعتاقها من ربقة التخلف والجهل والاستبداد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى