أدب

د. زينب أبو سنة على موائد العرفاء

دراسة: د. عبد الحكم العلامي

 

كتاب نقدي للشاعر والناقد د. عبد الحكم العلامي صدر حديثا عن دار أفاتار للطباعة والنشر بالقاهرة يتناول فيه المؤلف التجربة الشعرية للدكتورة «زينب أبو سنة» من خلال عدة مباحث بإلقاء الضوء على أهم المداخل والمتكآت العرفانية والصوفية والاجتماعية والعاطفية الواردة بدواوينها الشعرية القيمة «حقيقة الأسماء» و«من دفتر القلب» و«رباعيات طائر الشوك» و«شوق المسافر» و«البردة الزينبية في مدح خير البرية» إلخ...ونتناول هنا (متكأ الطائر) لديوان «رباعيات طائر الشوك».

      على ما درجنا فإنه إذا كان مقترح الرائية/ الذات الشاعرة لهذا المتكأ هو “طائر الشوك”(1)، فإن اقتراح الرائي يتمثل فيما أسماه/ متكأ الطائر وهو، ثالث اثنين مما سبق: متكأ الشوق، ومتكأ القلب، وهنا ونحن على وفاق مع متكأ الطائر، سيكون بمقدورنا إجراء عملية إحلال وإبدال: نستبدل فيها القاف بالكاف، فيصبح مقترح الرائية المفترض “طائر الشوق” عوضًا عن مقترحها الحق “طائر الشوك” الشوك والشوق جناس ناقص حلَّت فيه القاف بديلًا عن الكاف -كما هو باد- حسب المنظور البلاغي المتوارث، ولكن للشوك عرفان، وللشوق عرفان آخر مغاير تمامًا، فالشوك في دلالته البادية يعني الإعاقة والحيلولة، ويُشير إلى طريق من الآلام والمكابدات، وإذا تأملنا هذه الدوال -دوال الآلام والمكابدات- سنجدها محطات مهمة وفارقة في رحلة السالك حتى يظفر بمقام الشوق، الشوك إذن مداد للشوق، وللشوق في العرفانية الصوفية ماله من مقال ومآل فــ “الإنسان له أن يشعر بالمحبة لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى كريم رؤوف رحيم بصفاته وأفعاله لأحبابه، ولما كان يعقوب مملوءًا بحب يوسف عندما كان بعيدًا عنه، فإن بصره ارتد له بعد ما شم قميص يوسف، أما زليخا التي كانت على وشك الموت من عشقها ليوسف فإن عينها لم تفتح إلا بعد ما اتصلت به”(2).

     وهكذا فإن في المحبة والشوق اتصال قريب بعيد، يمثله حب سيدنا يعقوب لابنه يوسف عليه السلام، واتصال قريب قريب تمثله زليخا في عشقها لسيدنا يوسف عليه السلام أيضًا، وبين الاتصالين مسافة شاسعة، فاتصال سيدنا يعقوب بابنه روحي معنوي تحدوه معانٍ إنسانية ذات منزع أبوي، أما اتصال زليخا به، فاتصال نفعي جسداني تحدوه رغبة شيطانية قاهرة، ولذا فإن اتصال يعقوب عليه السلام قد تحقق، أما الاتصال المبتغى من قبل زليخا فلم يكتب له هذا التحقق إلا بعد حين، فقد تحرقت به، وكان وبالًا عليها! تقول د. زينب أبو سِنَّة:

ديارٌ

قد سَكنَّاهَا

ألِفْنا

كُلَّ مَا فيها

….

وَحفَّ الحُبُّ

حائطَها

وَحلَّقَ

في نواحيها

…..

وَذابتْ روحُنا

شوقًا

إليها.. هَلْ نُلاقيها؟

….

سَقيناها

فُراتَ الحُبِّ

عُمرًا

مَنْ سيُسقيها؟!

    كان من الممكن أن تكون هذه الديار أثرًا بعد عين، وهي إن كانت كذلك يحق للشاعر أن يبكيها مثلما فعَل الأقدمون بالوقوف على أطلال أمثال هذه الديار، وتذكُّر مواضيها، والحنين إلى من سكنها من الأهل والأحبة، غير أن الديار هنا ليست كغيرها، هي ديار مفترضة يتم تحققها فقط في الحلم بها، وإن كنا: “قد سكناها، ألفنا كل ما فيها…” غير أن سؤال: هل نلاقيها؟ الذي افترضه الموقف هنا يحيل كل هذه الحقائق إلى مجرد أوهام لا تتحقق إلا في الأحلام وإن كنَّا قد: “سقيناها فراتَ الحُبِّ عُمرًا”.. هي نزوة عاجلة من الأحلام بالمدائن الفاضلة، والفراديس المفقودة، وقولها: “من سيسقيها؟” يحيل السائل والمسئول إلى العماء، فلا سائل هنا ولا مسئول، ولا دار ولا ديَّار، لكن هل هذه الديار كانت متحققة على أرض الواقع فعلا؟ ثم تمَّ افتقادها، ومن ثم الحنين إليها، ربما نعم، وربما لا! الموقف مربك ولا يقود إلى إجابة شافية، وبالتالي فإن افتراض وجود هذه الديار هو الأقرب إلى ما ذهبنا إليه من تأويل! 

   وما نحن بصدده فيما يلي من مواقف سيدعم -على ما يبدو- ما ذهبنا إليه في الموقف السابق، تقول الشاعرة: 

وجيرانٌ

عرفناهم

يُحبِّونَ الحياةَ

حياةْ

…..

قلوبٌ

ثمَّ عامرةٌ

بإخلاصٍ

يعزُّ مَداهْ

…..

ذكرناهم

بصدقِ الحُبِّ

فيَّاضًا

وطيبِ شذاهْ

…..

فأين الحُبُّ

في زمنٍ

جَحيميٍّ

يَشيخُ صِباهْ؟!

….

     الجار والدار مكونان أساسيان للفعل البشري في أفقه الإنساني على هذه الأرض، وهما عماد موداتها وقيامها وعلائقها التي تنبني على بينة منها الأسر والمجتمعات، وتُشيّد بتحققها الحضارات، وبهما يتحقق مراد الله تعالى في الإنسان، ذلك المراد الذي كان الوازع الأول فيه استخلاف الإنسان على هذه الأرض بقصد إعمارها، وإشاعة العدل فيها: “يُحبون الحياةَ حياةْ” هي نفرة الذات الشاعرة -على ما يبدو- وصوتها العالي في أن تستعاد هذه القيم، وتلك المعاني/ معاني الجيرة التي تنبني على التعارف والمحبة، معاني القلوب العامرة بالإيمان بالله تعالى، وفي قولها: “يعز مداه”.. ما يؤكد رغبة الذات الشاعرة في أن تشيع هذه المعاني وتلك القيم ذات الأبعاد الإنسانية التي لا غنى عنها في عملية الإعمار المنشودة على هذه الأرض! لكن السؤال الذي يحيل كل هذه الرغبات -من قبل الذات الشاعرة- إلى مجرد افتراض، إلى مجر أحلام لا تتحقق إلا في اللحظة النادرة من لحظات الوجود الإنساني يتبدى في قولها: “فأينَ الحُبُّ فِي زَمَنٍ جَحِيميٍّ يَشيخُ صِباه”.. ذلك السؤال الذي يهز كيان الذات الإنسانية، ويُعمِّق من آلامها، ويُكثِّف من عذاباتها، ويُفجر أحزانها التي تنسال من مآقيها دموعًا لا يفتر لها وقع، ولا ينتهي إليها دليل، مما يعزز من إحساسها بالاغتراب، ويُصعِّد من رغبتها في الفرار على وقع هذا الزمن الجحيمي الذي يشيخ صباه، على حد قول الذات الشاعرة! وعلى حد قولها سنكون بإزاء هذا الموقف الذي تُرى فيه هكذا:

أنا…

مسكونةٌ شوقًا

أحلِّقُ خارجَ الأسوارْ

وأستهدي

صدى الأمواجِ

حتى تُكشف

الأسرارْ

…..

وحيثُ

الحيرةُ الكُبرى

فلا هي جنةٌ

أو نارْ

يتوه الناسُ

في الدُّنيا

إذا ما شاءَت

الأقدارْ

….

    الذي يتابع ما تسوقه لنا الذات الشاعرة المتمثلة في “د. زينب أبو سِنَّة” هنا من عرفان شعري تارة، وعرفان شعري ذي طبيعة صوفية تارة أخرى، سيقف قطعًا متأملًا لهذه الأنا “أنا” التي تتصدر الموقف النصِّي على نحو ما رأينا، فهذه الأنا -على ما يبدو- ستحلُّ مادة فعلها الرؤيوي على شبكة الدوال النصية الأخرى المتضمنة في هذا الموقف! ستقف الأنا هنا بوصفها العارفة ببواطن الأمور، وبحسبانها الرائية التي تستكشف، وتقدم المزيد من الوعي الذي تسبق به غيرها من الرائين، باعتبارها تحمل بذرة التنبؤ بما هو قادم من أحداث. 

     إننا بصدد “زرقاء يمامة” أخرى -على ما يبدو- تراقب من بعيد، وتحذِّر وتنذر وتقيم الحجج على ما ترى فيصدقها من يصدقها، ويتغافل عنها مَن يتغافل، وهي في كلٍ صاحبة رسالة تؤديها على أكمل وجه: “أحلق خارج الأسوار، وأستهدي صدى الأمواج، حتى تكشف الأسرار” فلهذه الرائية قدارت ذاتية خاصة لا تتوفر فيمن عداها: إنها تعبر الأسوار، ولها ما لها من فكِّ رموز صدى الأمواج، ومعها مفاتيح الكشف لما يتضمنه هذا المدى الفسيح من أسرار! ولكن ما طبيعة تلك الأسرار التي تُمسك بمفاتيحها؟ إنها ببساطة وعمق فى الآن نفسه: الحيرة الكبرى، فلا هي إلى جنة، ولا هي إلى نار! فالأسرار هنا -حسب هذا المنظور الرؤيوي من قبل الذات الشاعرة- تكمن في تلك المنطقة البرزخية التي تفصل بين عالمين: عالم عين اليقين، وعالم حق اليقين! منطقة “أعرافية” فلا هي جنة، ولا هي نار، هكذا، وهكذا كما هو حادث بالفعل تلك الحقيقة التي يتفارق الناس في ملاحقة كنهها، وتعيينها! 

    على أية حال هي منطقة ساخنة وجادة بين الأقدار، وبين مشيئة هذه الأقدار: إذا ما شاءت الأقدار! والحال -على ما يبدو- هي الحال الحال في مثل هذه الأجواء الماثلة بين احتمالين/ احتمال حال، واحتمال آخر سيجيء: 

قلوبٌ 

لا تنامَ الليلَ..

تائهةٌ

تموتُ عناءْ

…..

وعمرٌ

مِن فقاقيعٍ

تلاشتْ

فوقَ سطحِ الماءْ 

…..

لماذا

لا يكون الحُبُّ 

ماءً سائغًا

وهواءْ؟!

…..

وشمسًا

تُدفئ الدُّنيا

ونجمًا

يُرشد الأحياءْ.

     يجيء هذا الموقف بوصفه انعكاسًا باديًا لأحوال الناس في هذا العالم: “قلوبٌ لا تنامَ الليلَ.. وعمرٌ من فقاقيع” هي قلوب مُعذبة إذن، وتائهة كذلك، وما مِن دليل يقودها في مثل هذه الأجواء الموحشة والطاردة/ أجواء مسكونة بالعناء تبتلع أحزانها التي أصبحت طعامها اليومي، وآلامها التي أصبحت شرابها الآسن، وأعمار أتى عليها الزمن فنال من بهائها بفعله فيها فأحدث بها شروخًا وندوبًا على وجوهها الشقية المتداعية! وما من سبيل إذن لرؤية ضوء ما في نهاية هذ المسار/ السبيل الذي تفترض وجوده الذات الشاعرة -على ما يبدو- ضامنة حدوثه إذا ما كانت الإجابة على سؤالها بنعم: “لماذا لا يكون الحب؟” وإذا ما افترضنا وجود هذا الحب مع تلك الذات الحالمة، فأي نوع من الحب ذلك الذي سيتدخل في حلِّ معضلة وجودية بهذا الحجم؟ إنه الحب الذي يسري في الأجواء سائغًا كالماء والهواء/ الحب للكل وبالكل وفي الكل، لم لا ونحن على مرأى من شمسه التي تُدفئ الدنيا، ونجمه الذي يُرشد الأحياء، ذلك الحب الذي يُخلي النفس والروح والبدن من العوالق المادية عن طريق هدمها، وإعادة بنائها على نحو آخر أفضل، ذلك الحب الذي يحل مادة فعله في الأشياء من أحياء البشر، وفي الجمادات: حقولها وزروعها، جبالها وسهولها، صغيرها وكبيرها، وهنا، ومن هنا فقط يمكننا أن نتساوق مع فرضية رؤية هذا الضوء في نهاية هذا المسار/ مسار الإنسان على هذه الأرض! 

   ولكن هل لهذا الحال الحال على إنسان هذا الزمان من مبررات لحدوثه؟ ربما يبدو لي هذا الأمر كذلك، حينما نعاين هذا الموقف معًا:

فُطِمنَا

عَنْ مَشاعرِنا

وَتُهنَا

في أراضينا

…..

طَريقٌ

فرَّ مَذعورًا

ليَهرُبَ مِن

مَآقينا

…..

زمانٌ

مِنْ قَواريرٍ

تَكَسَّرَ

بينَ أيدينا

…..

طريقُ الشَّوكِ

مَفروشٌ

لكي تُدْمَى

أمانينا!

    سيكون علي -وأنا أجري مقابلة مع هذا الموقف- أن أستعصم باللغة؛ فهي السبيل الوحيد -على ما يبدو- لقيادتي بحكمة صوب مسارات هذا الطرح الشعري المواتي، والمتساوق مع المواقف الأخرى سالفة الذكر، فقد جاء الفعل الممثل للحدث النصي الأول في هذا الموقف مبنيًا للمجهول “فُطمنا”.. ما يُنذر بوجود أثر غائب له صلة مباشرة في عملية الفَطم التي عرضنا لها، والذي يبدو لي أن هذا الأثر الغائب يتمثل في الآخر، في الغير الذي يريد أن يفرض قانونه، ويحكِّم مشيئته قي ذواتنا فلا نتحرك إلا وفق تعليماته، ولا نقوم ولا نقعد إلا على بيِّنة إشارية منه، وهذا ما جعل ذواتنا تسقط في شراك هذا الغير سقوطًا مأساويًا، سقوطًا ذا مأذق وجودي بالمعنى الذي يسوقه لنا فلاسفة الوجود في مثل هذه الأجواء: “فُطمنا عن مشاعرنا”.. الفطام هنا فطام مكلف لا يتعلق بجوارح الجسد المادية المتعلقة بالمأكل والمشرب من زاد وماء، بل هو فطام معنوي يُعمل سهامه في أدقِّ منحة منحها الله تعالى لنا، وهي منحة المشاعر تلك التي تآكلت بفعل المغريات العاجلة، والنذوات المؤقتة، والنوال اللحظي الذي تنتهي متعة حدوثه مع نهاية تحققه التي لا تستغرق سوى دقائق أو لحظات من عمر هذا الزمن، فتصبح المحصلة النهائية -وقتها- المتاهة والتخبط والسعي في المكان والزمان بلا هدف يحفّذ، ولا دليل يهدي ويرشد! وفي قولها: “طَريقٌ فرَّ مَذعورًا ليهرُب من مآقينا”.. ما يؤسس لهذه المتاهة، ولهذا التخبط، ولذلك السعي بلا دليل أو هدف؛ وذلك لأن الطريق هو نفسه الذي سيفر مذعورًا، ليهرب من مآقينا، تلك المآقي التي لا ترى أبعد من مواطئ أقدامها، مما يجعلها عرضة للسقوط في أقل عمق، وأمام أقرب حائل!

     ترون معي من خلال هذا الموقف، والمواقف المماثلة، كيف أن الهم هنا هم إنساني في المقام الأول، وهذا ما دفع بي منذ بداية هذه الرحلة مع تجربة د. زينب أبو سِنَّة، إلى الاحتراز عند توصيف هذه التجربة، هل هي تجربة عرفانية ذات منزع صوفي خالص، أم أنها تجربة عرفانية شعرية تسترشد بخطى التجربة الصوفية في عملية بث رسائلها؟ وخلصنا بالفعل إلى أن هذه التجربة همها إنساني خالص، أو إلهي بالمعنى العام والأشمل، أي تأخذ في طريقها كل ما هو منسوب إلى الله تعالى، تلك حقيقتها، وجوهر رسالتها.

     سنكون على وفاق إذن مع لعبتي الطريق والزمن في حياة الإنسان، الطريق الذي يمثل رحلته منذ أن وطأت أقدامه على أديم هذه الأرض، والزمن الذي ما فتأ يلاحق آثار أقدامه بقصد محوها، وهتك بهائها حتى يأتي عليها في نهاية الرحلة عن طريق وكيله المتمثل في الموت: “طريقُ الشوكِ مَفروشٌ لكي تُدمى أمانينا”.. الموت الذي يتمثل في تلك اللحظة الفاتكة التي يواجهها الإنسان وحده، فلا يمكن لإنسان ما أن ينيب غيره عنه في تلقي وقعها المدمر على نفسه وروحه وجسده الذي سيتحول بفعل هذه اللحظة إلى تراب/ سيتحول إلى العدم، وعندها -أي عند مواجهة هذه اللحظة- لا يتبقى للذات الإنسانية سوى الحسرة على ما كانت عليه من بهاء وما ستصير إليه من بدد: “زمانٌ من قواريرٍ تكسَّر بين أيدينا” هكذا، وهكذا، وعلى هذا النحو سنكون على بينة من مصائرنا، ومآلاتنا المحتومة، وصيرورتنا التي لا فكاك منها، التي تتمثل في تجربة الموت. “إذ إن الذات حينما تقترب من وجودها الحق تشعر بكل معاني هذا الوجود: تشعر بأن وجودها “وجود للموت”، وجود للعدم ففي تجربة الموت مثلا تشعر الذات بكل معاني وجودها: بأنها مفردة؛ لأن الفرد يموت وحده، ولا يمكن لإنسان أن يحمل عن غيره عبء الموت، أو أن ينوب عنه فيه، ومن هنا تدرك الذات أنها مفردة وحيدة مع مسئولياتها الهائلة، وتشعر أنها للفناء، وأن الفناء يحاصرها من كل جانب”(3)، وعندها، أي عند هذا المصير المحتوم الذي تُرى فيه الذات الإنسانية وحالها أنها للفناء، وكيف أن هذا الفناء يحاصرها من كل جانب، أقول عندها لايسمع لهذا الذات سوى الأنين الممض، والآلام المكلفة، لينطلق لسان حالها بمآلها هكذا:

سوادٌ 

حلَّ بالدُّنيا 

سَمَاءٌ 

لٌفِّعَتْ بِغُيومْ

…..

نهارٌ 

فرَّ صاحبُه 

ليَشْكو حَظَّه

وَيَلومْ 

…..

ليعرف 

أننا كنا 

وما زلنا

حطام همومْ

…..

أنينُ الريحِ

في الصحراءِ

يعزف 

لحننا المكلومْ

     الشاعر لا يواجه الحياه بالتخلي عنها ورفضها والعمل بعيدا عنها؛ لأنه منخرط فيها، يستقبل واقعها بكل تناقضاته، خيره وشره، يدافع عن الخير ويحضُّ عليه، ويواجه الشر ويفضح ادعاءاته، وهو ابن مخلص وأصيل لهذا الواقع/ جزء من مكوناته ودليل على صلاحه وفساده في اللحظة نفسها، يقول صلاح عبد الصبور: “إن الفلاسفة والأنبياء والشعراء ينظرون إلى الحياة في وجهها لا في قفاها، وينظرون إليها ككل لا كشذرات متفرقة في أيام وساعات، ومن هنا فإن همومهم يختلط فيها الميتافيزيقا والواقع والموت والحياة والفكر والحلم”(4)

     فالإنسان الرائي هنا -أي في هذا الموقف- يقدم مانيفستو لهذا الواقع ويُعرِّف به: “سوادٌ حلَّ بالدُّنيا، سَماءٌ لُفِّعت بغيوم”.. فبين السواد الذي حلَّ بالدنيا والسماء التي لُفِّعت بالغيوم، هناك نهار، غير أن هذا النهار لا يزال في المنطقة العماء من هذا الواقع، فهو ما يزال في حالة من الكرِّ والفرِّ فيما بينه وبين صاحبه الذي انخرط في نوبات من الشكوى، وندب الحظ، إضافة إلى ما يمكن أن نطلق عليه جلدًا للذات الذي يتمثل هنا في معاتبة النفس ولومها، فلا ندري أهو الصاحب الذي فرَّ من النهار، أم النهار الذي فرَّ من ذلك الصاحب! 

     إنها حالة سرمدية -على ما يبدو- ستظل سادرة على حالها حتى يتمكن أي منهما: الصاحب الذي يمثله الإنسان، والزمن الذي يمثله النهار من اللحاق بالآخر من أجل إفنائه والقضاء على أثره حتى لا يتبقى منه إلا ما أسماه الموقف: حطام هموم، فبين أنين الريح في تلك الصحارى التي خلت أو كادت تخلو من آثار أقدام ذلك الإنسان، وبين حطام الهموم الذي شوهد عليه، تتولد الأحزان التي يتمُّ التعبير عنها هنا بوصفها ألحانا مكلومة، يعزفها ذلك الإنسان في خبايا نفسه منعزلا بها عن ملاحقة هذا العالم الموبوء! 

     هل يرثي الإنسان نفسه؟ نعم يرثي الإنسان نفسه، كل أشعارنا في الرثاء على حد قول نزار قباني، وجل مآتمنا رثاء لذواتنا، وقصائد الرثاء جميعها تصب في بوتقة رثاء الذات أولًا، قبل أن تتوجه لرثاء الآخرين من المفارقين لهذه الحياة، فوداعا: 

وَدَاعًا

يا مُنى الأحلامِ 

يا دارَ الهَوَى 

المُلهمْ 

…..

وأجراسُ السُّكوتِ 

تَدُقُّ 

يَصرخُ صَمتُها 

المُؤلِمْ 

…..

هوَاجِسُنا 

تراودُنا 

لِنَهزِم

ليْلَنا المُظلمْ

…..

فياليتَ 

الزمانَ يَشي 

بسرِّ نهارِه 

المُعتمْ! 

     الملهم، في مواجهة المؤلم، والمظلم والمعتم وجهان لسواد واحد، هكذا وعلى هذا النحو تصبح الأحلام ودار الهوى الملهم في قبضة الوداع ذلك الطقس الذي أبتدعه الإنسان ليبقي على لحظة هنائه مدة أطول مع من يحب، وهو بينه وبين نفسه مدرك بأنه مفارق، أقول بين هذه الهناءة العاجلة الموقوتة التي يمثلها طقس الوداع، وبين لحظات أخرى مريرة: مؤلمة، ومظلمة، ومعتمة، يبقى الحال والمآل على ما هو عليه كرُّ وفرُّ يأخذان مكانهما بين أجراس السكوت التي تدق، فللسكوت أجراسٌ تدق هكذا يخبرنا الموقف الذي لا ينسى أنه يقدم لنا رسالة شعرية في المقام الأول يبرزها الخيال الجامح الذي يرى للصمت أجراسًا على سبيل المجاز الاستعاري، وعلى سبيل المجاز الاستعاري أيضًا يصرخ الصمت على أثر وقع تلك الهواجس التي تنتاب خطا الإنسان على هذه الأرض، تلك الهواجس التي ستظل تراوده عن نفسه حتى يقع فريسة بين أنيابها متألمًا صارخًا من شدة أثر هذا الألم على جسده وروحه: “فياليتَ الزَّمانَ يَشي، بِسِرِّ نهارِه المُعتم”.. هي رحلة شاقة ومضنية يكابدها الإنسان باحثًا عن ذلك السر الذي يكمن وراء هذه العذابات وتلك الآلام، على الرغم من إقراره المثبت الذي يتمثل هنا في إنه حتى لو عثر على هذا السر فإنه -أي هذا السرـ سيظل مسرفًا في النأي مسربلًا بالعماء، لا يشي بشيء، ولا يُشير إلى شيء! تقول الذات الشاعرة: 

أرَى 

شَيْخُوخَةَ الطِّفلِ

الذي لا يُشبه

الأطفالْ 

…..

وقد ملأتْ

شجونُ البؤسِ

قلبًا 

دمعه سيَّالْ 

…..

وأبصِر 

حلمَه الموؤود

في قبرٍ 

من الإذلالْ

…..

تُرى

أينام يومًا ما 

قريرًا 

مشرق الآمال؟! 

    يسفر الموقف هنا عن انحياز الذات الشاعرة لقضايا الإنسان، في رحلة عراكه مع الزمن على هذا الكوكب، فهي هنا بلا طقوس، وبلا شعائر، وبلا أوراد كحال الصوفي الذي يحمل هذه الأثقال في رحلة سعيه إلى الحظوة، وبلوغ النوال الذات الشاعرة هنا خالية تمامًا إلا من ثقل واحد لا تفارقه ولا يفارقها يتمثل في الهم الإنساني، وفي مصادقات هذا الهم الحياتي المعيشي منها، والوجودي الذي يتعلق بقضايا الحال والمآل، ونظيريهما الذين يتمثلان في الغاية والمصير لهذا الإنسان صاحب الإقامة المؤقتة على هذه الأرض: “أرى شيخوخةَ الطفلِ، الذي لا يُشبه الأطفال”، في إهابات ذات تأزم وجودي يخطف بهاء الإنسان محيلا نضارة الطفولة إلى هرم الشيخوخة/ إلى مسوخ من طفولة شائهة وكريهة، صادمة ومنفرة! إنها أجواء يلفها الموات، ويظلها الاستيحاش الذي يقود إلى الإحساس بالوحدة والشعور بالاغتراب: الإحساس بالوحدة والشعور بالاغتراب اللذين يتولدان: “وقد ملأت شجونُ البؤسِ، قلبًا دمعه سيال”.. على حد توصيف الذات الشاعرة له هنا، وبقولها: “وأبصر حلمها الموؤود في قبرٍ من الإذلال”.. تكون قد وضعت نفسها في قلب الحدث الإنساني عاكسة لآلامه وعذاباته، وكذا لطموحاته ونزوعه إلى التحرر/ وضعت نفسها بحسبانها محورًا لتناقضات هذا الكون، وفساد أشيائه “ينفعل بها تأثرًا وتأثيرًا، ويقيم معها علاقات متشابكة وحميمة، تلك رسالته، وهذا دوره تجاه واقعه الذي يحمل بين جوانحه الرغبة في إصلاحه وتغييره. من هنا يكون الشاعر أكثر التحامًا بالواقع والحياة والناس والكون وما يحويه، ويكون كذلك أكثر مواجهة له، فهو مقبل على الحياة، ملتحم بناسها لا يستطيع الانفصال عنهم، ولا يمكنه اتخاذ مقام أعلى، أو درجة أرقى، ذلك لأن الناس همه الأول، وقضيته الأولى، وواقعه كذلك”(5)

     لتخلص -أي الذات الشاعرة هنا- إلى سؤالها القديم والمتجدد: “تُرى، أينام يومًا ما قريرًا، مشرق الآمال؟”.. تساؤل مصحوب بآمال وأماني تتمحور كلها في الحلم بهناءة مرجوة من قبل إنسان هذا الزمان لنفسه يسعى من خلالها إلى اقتناص لحظات يراها نادرة في أن يقرَّ يومًا ما بها فيما يشبه الحلم بمشرق الآمال التي طال انتظاره لمجاورتها، والائتناس بظلها من وقدة الهجير الذي ينال من خطاه، ومن وقع أقدامه وهي تدبُّ على هذه اليابسة! ثم تواصل الذات الشاعرة وضع كاميرات عالية الجودة على واقع إنسان هذا الزمان؛ بغية إظهاره في صورة أوضح من تلك التي كانت تعمل بها في مواقف سابقة، فتقول:

أرَى..

امْرَأةً تُزاحم

عالمًا مِنْ أجلِ 

نِصفِ رَغيفْ

…..

وتقطع

شارعَ الأوجاعِ

والقلبُ المُضيءُ

أسيفْ

تجرُّ وراءَها

طفلًا عليلًا

مُنهكًا وَضَعيفْ

وتلعن حَظَّها

نكدًا

بِصَمْتٍ مُوجعٍ

وَرَهيفْ. 

    سنكون إذن مع تلك الكاميرات عالية الجودة التي استحدثتها الذات الشاعرة هنا؛ من أجل تقريب الصورة، ووضعها على شاشات الزوم، فنشاهد تلك المرأة وهي تزاحم من أجل نصف رغيف، هكذا من أجل نصف رغيف! ثم تتابع تلك الكاميرات عالية الجودة حركة هذه المرأة، وهي تقطع الشوارع ذهابًا وإيابًا من أجل الحصول على شيء ما وسط هذا الزحام الذي يأتي في طريقه على كل شيء، تُرى هكذا: كمّا من الأوجاع يقود قلبًا متعبًا، ونفسًا منكسرة على الرغم من صفاء تلك النفس، وطهارة هذا القلب الذي لا يحلم لنفسه ولغيره بغير الكفاية والهداية، فهي -أي هذه الإنسانة المعذبة- قلبٌ مُضيء، ونفسٌ مشرقة، ثم تعاود هذه الكاميرات عملها مكثفة منه هذه المرة لتطلعنا على المشاهد المتضمنة التي لم تأخذها في الحسبان في المرات السابقة، فها هي ذي -أي تلك الكاميرات- تعمل على كشف الجانب الآخر من الصورة، حيث تُرى هذه المرأة، وقد جرت وراءها طفلها العليل وهو على هذه الحال من الضعف والإنهاك بعد أن قطع كلَّ هذه الطرق وراء أمه التي تلهث من أجل الحصول على نصف رغيف مما يعني هنا القليل من الزاد من أجل إقامة الأود، ومواصلة هذا الكفاح المؤلم والمرير! تُرى هذه المرأة، وقد اقتربت منها هذه الكاميرات عالية الجودة متحدثة بلسان حالها لاعنة حظها العاثر هذا والنكد، ثم تقترب هذه الكاميرات أكثر حتى تصبح مسفرة عن صمتها الذي تبدو فيه متوجعة/ صمتها هذا الرهيف! 

    ثم تخرج هذه الذات عن صمتها ذاك مرة أخرى بعد أن أرهقتها هذه المشاهد/ آلمت روحها، وقطَّعت نياط قلبها، تخرج بكاميراتها تلك عالية الجودة لترصد المشهد على هذا النحو:

 أرَى

بالأفق ثوَّارًا

بلا خوفٍ

أمامَ الموتْ

وصرختهم 

مدوية

تُجلجل

في مجالِ الصوتْ

…..

تهزُّ الكونَ

إبهارًا

ولا ترضَى

قبور الصَّمتْ

…..

هنالك..

حيث يبدو العمر

أكبر مِن

حدودِ الوقتْ! 

   المشهد يضعنا مباشرة في مواجهة حشود لثوار ما، يضعنا مباشرة في مواجهة همهماتهم وهتافاتهم وهي تخترق الأفق، ويضعنا كذلك بإزاء صيحاتهم المتعالية، وراياتهم المتسامقة، ولافتاتهم التي تحمل مطالبهم، ومطالب أمثال هذه المرأة التى تجرُّ طفلها المنهك المريض، تلك المطالب التي تتمثل في العيش والحرية والكرامة الإنسانية التي تجيء بحسبانها الحد الأدنى للحفاظ على آدمية الإنسان التي كرمها الله تعالى، ووضع لها مواثيقها الناجزة التي تتمثل في أن الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار، تلك المواثيق التي ضمَّنها الله تعالى حدوده، ومحارمه التي تختل بتجاوزها الموازين، وتنقلب الحقائق: “أرى بالأفق ثوَّارًا، بلا خوف، أمام الموت”.. وعندما تنقلب هذه الحقائق، وتختل تلك الموازين، عندها، وعندها فقط تدوي صرخة إنسان هذا الزمان مجلجلة: “تهز الكون إبهارًا”.. وبقولها: “هنالك.. حيث يبدو العمر أكبر من حدود الوقت”.. تكون هذه الذات الإنسانية التي تمثلها الشاعرة هنا قد رسخت لهذه الحدود، وتلك المواثيق التي وضعها الله تعالى خدمة لهذا الإنسان وإعمارًا لهذا الكون الذي اختاره لأن يكون سيدًا عليه! 

*مراجعات:

1- يراجع: د. زينب أبو سنة، ديوان “رباعيات طائر الشوك”، أفاتار للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، القاهرة 2021م.

2- يراجع: “كشف المحجوب للهجويري”، ترجمة: محمود أحمد ماضي أبو العزايم، تحقيق: د. أحمد عبد الرحيم السايح، وم. توفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة 2007م.

3- يراجع: د. عبدالرحمن بدوي، “دراسات في الفلسفة الوجودية”، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1966م.

4- يراجع: صلاح عبد الصبور، “حياتي في الشعر”، دار أبو قرط، بيروت،  لبنان 1981م.

5- يراجع: د. عبد الحكم العلامي، “الولاء والولاء المجاور بين التصوف والشعر”، كتابات نقدية، العدد 132، الهيئة العامة لقصور الثقافة،  القاهرة 2003م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى