سياسة

220 يوما من النعيم

رضا راشد|باحث مصري

طوال ما يقرب من ثمانية أشهر وأبطال غزة يتلظون بجحيم العدوان الصه/يو/أمريكي الذي تجرد من كل إنسانية. ولست أعني بأبطال غز ة هنا المقاتلين فقط، ولكني أعني كل من وطئت قدمه ثرى غز ة الطاهر: رجالها، ونساءها، وشيوخها، وأطفالها، ممن باتوا يتقلبون على جمر الأسى ويمشون على شوك الكيد والعدوان..ممن تمطر سماؤهم عليهم كل لحظة قنابل الغدر والفجور والطغيان، فما تركت لهم مكانا آمنا..هدمت عليهم بيوتُهم، وأُقضَّت عليهم مضاجعُهم، ونُفيتْ عنهم سبلُ الاطمئنان، فكلما آوَوْا منها إلى مكان طاردتهم قنابلهم وطائراتهم..وممن ابتلوا بالجوع حتى اضضطروا إلى أكل أوراق الشجر وعلف الحيوان.. طبقات من البلاء كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الإنسان يده فيها لم يكد يراها.

220 يوما، وأهل غز ة يحاربون عدوا طبع يوم طبع على اللؤم والخسة والخبث والغدر والفجور والطغيان، عدو لم يسلم من أذاه أحد حتى الأنبياء والمرسلون، عدو يعييك أن تجد له في كتب التاريخ سطرا من ثناء أو كلمة من مديح، بل ما هو إلا صفحات ملطخة بالكذب والغدر والفجور والخيانة. يسانده بكل قوته عالم صارت نفوس البشر فيه ذئابا وثعالب تردت برداء البشر، عالم من الحقد والفجور والطغيان رماهم عن قوس واحدة، يتابعه عالم آخر من العرب والمسلمين لم يكتف بالولوغ في مستنقع الخذلان حتى تدهدى(أي تدحرج) من درك الخذلان إلى هاوية التآمر عليهم وموالاة العدو دونهم.

ما يقرب من ثمانية شهور، وأبطال غزة قد هجروا الدنيا بكل ما فيها، وما لهم ألا يهجروها بقلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم، وهم في الأنفاق مرابطون، أو بين بيوتهم خائفون، أو في مراكز الإيواء لاجئون.. وفي كل هم مهددون في كل لحظة أن يكون منهم الشهيد أو الجريح، أو المطارد، وما بعضهم باحسن حالا من بعض.

ما يقرب من ثمانية شهور، وأبطال غزة المقاتلون ربما لا يعلمون عن أبنائهم ولا عن أزواجهم ولا عن آبائهم ولا عن أمهاتهم شيئا، فإن نما إلى أحدهم أثارة من علم عنهم كان ما علمه مما يترع القلب حزنا، ربما لا يجد المقاتل وقتا للسكون إليه والتنفيس عنه.

وهكذا يعيش أبطالنا منذ ما يقرب من ثمانية أشهر ألوانا من البلاء والعدوان لا تطيقها نفوس البشر، ولولا ما ربط الله به على قلوبهم ولولا ما ثبت الله به أفئدتهم لربما فتن أكثرهم؛ إذ البلاء عظيم والمصاب جم.
وأراك أيها القارئ العزيز بعدما قرأت ما سبق قد فغرت فاك (أي فتحت فمك)؛ تعجبا ودهشا، متسائلا والحيرة تلفك من كل جانب: إذن عن أي نعيم يا رجل تتحدث وانت نفسك قد أقررت بما هم فيه من جحيم البلاء؟! أحقا ما تقول: (أبطال غزة ينعمون)؟ أو تعي ما قلت؟ أم كان الأمر سبق لسان؟!

وأقول: بل أعي ما قلت جيدا؛ غاية الأمر أن للنعيم الذي قصدته في العنوان معيارا آخر غير الذي يسبق للأوهام ويتداعى إلى الأفهام؛ وذلك أن الله عز وجل من رحمته بعباده لا يجمع عليهم بلاءين ولا مصيبتين:بلاء الجسد وبلاء الروح، فلئن كانوا قد ابتلوا في دنياهم فولت عنهم الدنيا مدبرة ولم تعقب، فإن لهم مع النعيم الروحي والطمأنينة القلبية والسكن النفسي موعدا لا يخلف، ومالهم ألا ينعموا وقد طلقت الدنيا – بما ابتلوا به – من قلوبهم حتى بانت منها بينونة كبرى لا تحل لهم من بعد حتى ولو نكحت أزواجا غيرهم، فما عاد لها محل من قلوبهم ولا مكان في نفوسهم، فتراهم وهم في أشد البلاء والفقد قد أفرغ عليهم ربهم صبرا، فهم يرفلون في نعيم الرضا عن الله وبالله.

فلئن كان أبطال غزة قد ابتلوا بالعناء المادي والبلاء الجسدي فإنهم ينعمون بالنعيم الروحي، وهذا هو الذي يعوض الله به عباده المبتلين فتغشى قلوبهم من السكينه ونفوسهم من السعادة ما ينسيهم العذاب البدني : كما حدث لسحرة فرعون هؤلاء الذين قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبوا في جذوع النخل ومع ذلك قالوا: (لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون)؛ لأن ما غشي قلوبهم من اليقين بالله عز وجل فاق ما كابدته أبدانهم من لظى العذاب البدني= وكما كان من النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعلت قرة عينه في الصلاة وكان يقول: ( أرحنا بها يا بلال).. مع ما كان يناله من العناء في قيام الليل حتى تتفطر قدماه!!

ولا أدل على ذلك أيضا من قول أهل السلوك إلى الله (إن أهل الليل في ليلهم أشد لذة من أهل اللهو في لهوهم) أي أن عباد الليل أشد سرورا ولذة بعبادتهم – على ما ينالهم منها من مشقة – من اهل اللهو والخمر والنساء، ولا يخفى أن اللذة هنا ليست لذة البدن( الذي يعاني بلا شك في قيام الليل ما يعاني، والذي على الجانب الآخر يلتذ بالخمر والنساء ما يلتذ)، ولكنها لذة الروح التي تجد في القرب من الله عز وجل لذة لا يمكن وصفها.

بهذا المعيار قلت إن أبطال غزة ينعمون، وإن تلظت أبدانهم بسعير الابتلاء: نعيم روحي، ولذة قلبية تعددت أسبابها وتنوعت بواعثها.
(*) يستشعرونه من اجتباء الله لهم واصطفاء الله إياهم حيث إنهم الطائفة الوحيدة في الأرض الآن التي ترفع راية الجهاد في سبيل الله.
(*) ونعيم ما يستشعرون له من إساءة وجوه العدو؛ جراء ما ينالون منه: قتلا وجرحا.
(*) ونعيم يستشعرونه من لذة الثبات على دين الله في وقت زلت فيه أقدام بعد ثبوتها.
(*) ونعيم الفرح باصطفاء الله لبعضهم بالشهادة.
(*) ونعيم الفرح بما يفيء الله به عليهم من غنائم وأسلحة العدو التي سرعان ما ترتد مصوبة إلى نحورهم ..وهكذا يخربون بيوتهم بأيديهم ويقتلون نفوسهم بأسلحتهم حين يفرون تاركين أسلحتهم غنيمة للمسلمين.
(*) ونعيم ما يستشعرونه – بل ما يتيقنونه – من القوة بمعية الله لهم وتأييده ونصره لهم.
(*) ونعيم ما يرونه من آيات الله فيهم بالنصر والتأييد وفي عدوهم بالخذلان..حتى مضى ما يقرب من ثمانية أشهر دون أن يهزموا أو يحقق عدوهم مظهرا واحدا من مظاهر النصر .

إن الفرحة التى تغمر قلب المقاتل بتسديد الله رميه فإذا هي بعد ثوان شعلة من نار تحرق كل من فيها.. فرحة لا توصف، ولعلكم رأيتم بعض مظاهرها في أحد إخواننا المجاهدين وهو يتقافز فرحا وطربا – بعدما صوب قذيفته نحو دبابة (الميركفاه) – قائلا :ولعت ولعت.

ولعمر الله إن هذا لهو النعيم الحقيقي والسكينة الروحية والطمأنينة القلبية وما عداها من مظاهر للسعادة سراب ووهم.

وما الحرمان أن تحرم الدنيا بلهوها ولعبها ولذتها وغرائزها . ولكن الحرمان كل الحرمان أن تحرم لذة القرب من الله، وأن تحول المعاصي بينك وبين عطاء الله، وأن تجد وحشة في الطاعة وأنسا بالمعصية.

إن الحرمان كل الحرمان أن تثقل عليك الطاعة اليسيرة، وأن تهون عليك المعصية . فليس محروما من آنسه الله بقربه وإن أدبرت عنه الدنيا بكل ما فيها، وليس منعما من حيزت لهم الدنيا بحذافيرها حتى أنستهم ربهم، فعاشوا فيها يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم…فلهذا كله قلت: #أبطال_غزة_ينعمون

فاللهم لا تحرمنا بذنوبنا من لذة قربك وأنس مناجاتك، وارزقنا يارب من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقبن ما تهون به علينا مصائب الدنيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى