بين نظريات القراءة وفلسفة التأصيل الدرامي عند المبدع عبد الكريم برشيد

د. الغزيوي بوعلي | فاس – المغرب

إذا كان كل فكر وليد واقعه ومساهم في تأطيره الىأي حد يمكن اعتبار نقد النقد عبارة عن منهج علمي؟ وكيف يتم تطبيقه على المسرح بكل أركانه؟ وهل هو نزعة إيديولوجية أم عبارة عن مقاربات متعددة المشارب والدلالات؟ وهل هذه العملية قادرة على إيصالنا إلى الحقيقة؟ وهل نقد النقد هو مقاربة قراءة أم هو قراءة فوق قراءة؟ وهل نقد النقد قادر على تفكيك القارة البرشيدية؟ 

إن المتأمل في هذه الأسئلة، سيجد نفسه مشدود أمام مجموعة من العوامل التي يمكن اعتبارها صيغة منهجية، تعرفنا أولا بنقد النقد، وثانيا تقربنا إلى قراءة مفتوحة باعتبارها نفي في السابق حيث يبقى هذا التقديم عبارة عن وسيلة تضبطها خطة وقواعد السير في طريق البحث عن الحقيقة التي تساعد على الوصول إلى نتائج متنوعة، أو باعتباره أيضا منظومة تبدأ بالوعي والرؤيا المشكلتين لروح هذه المقاربة وكنهها، وتنتهي بالعناصر المساعدة لتحقيق الرؤية المختلفة، إذن فالنقد ممارسة إيقاعية، وثقافية مبنية على الفكر والخيال والإبداع، فالإقترابمنه لا يكون إلا اقتراب ابستمولوجيا في صورة نقد جديد بوصفه فعلا إجرائيا بدرس الموضوع ولا يؤكد تطابقه، لذا فهو مشروع برشيديصعب تعريفه أو تحديده كبعد نهائي وكتعريف مطلق، ومع ذلك فوجوده ينم عن قوة معرفية تعتمد التفكير أولا والممارسة ثانيا، لذا بقي مشروعا ينتقل من حقل إلى حقل، ومن أرضية إلى أخرى، وهذا الإنتقاليدعمه الطابع الإبستمولوجيالمشكل من العناصر (الموضوعية والقيمية والأثر)، مما خلق عدة أسئلة منها: ما هو نقد النقد؟ هل هو قراءة ثانية للمتن الرشيدي؟ 

أسئلة كثيرة ومتنوعة تجعلنا نحس بالامتداد النظري، وبالوعي المجسد في اختيار كل النظم المعرفية والفنية حسب تعبير “نبيل سليمان”. بالبحث في مرجعيته، يقربنا إلى فضاءات مفتوحة ومتنوعة، سواء في بعدها الفلسفي (الفينومينولوجيا)، أو في بعدها المتعلق بالسيميولوجيا. وهناك ما يرتبط باللسانياتوبالفعل التجربي، حسب تعبير “شكري عياد“. لذا بات من المألوف تسمية هذه الإتجاهات بالتكاملية، نظرا لعدة تداخلات وتشعبات ذاتية وموضوعية وتاريخية واجتماعية، حيث أعطى الرغبة الناقدة أن تؤسس قواعد محاكاتية لكل نظام مقروء، حتى تغدو تفكيكا جديدا وإبرازا للعملية الإبداعيةالإبداعية ” التي أنشئ من خلالها في محاولة جادة لتحديد الذهنية التي أنتجته”.

من هنا نتسأل، كيف يوظف هذا المنهج في المسرحالبرشيدي؟ وهل المنهج قادر على الخلفيات المرجعية المتحكمة في المتن المدروس؟ وهل هو صيحة إبستيمية جديدة تنضاف إلى الإبستيميات الدرامية؟ وهل برشيد وظف هذا المصطلح، أم اقتصر على أحد فروعه؟ وما هي الوظيفة المهيمنة في متونه؟ 

 مرة أخرى يدفعنا الفضول الطرح أسئلة التي تواجهنا نحن ندخل مغامرة هذا التيار باعتباره مقاربة أولا، وقراءة ثانية لواقع متخيل والذي تولد في متن عبد الكريم ، لأنه لا يعتمد على الرواية وحدها، بل على الذكاء وحسن التمييز والتقديم، ويواكب التطورات الفكرية والسياسية، مما أعطى لمتنه صيغة إنتاجية تؤكد تعدد الاختلاف والتنوع، وبالرغم من هذا الطابع الاختزالي، نكتفي بالإقرار في فهم هذا التوظيف المدعم بالاختلاف حول طبيعة “نقد النقد”، باعتباره دراسة تجمع بين عدة مبادئ وتفسيرات وأنظمة علاماتية، لتصوغ تعريفات لتأكيد الوعي الثاقب لدى الناقد، فهذا الحرص على تأكيد القراءة البرشيدية  كخاصية استدلالية في خطاب المسرح، تميزه عن غيره من الخطابات الفنية و المعرفية، وفي نفس الوقت تعطيه قدرة الإبداع المزدوج، متوخيا الدقة والرصانة، يقول “فيصل دراج” : “إن جوهر النقد يرفض كل نسق كامل أو متكامل، لأن الممارسة الأدبية تظل أكثر  خصبا وتنوعاوتنوعت من النسق النظري، ومع ذلك، فإن “نقد النقد” لا ينفي مفاهيمه ولا يلغي شرعية هذه المفاهيم وقدرتها على إطلاق الأحكام”. وإطلاقا من هذا التعريف، نحس بأن النقد ليس نسقا كاملاونهائيا، بل هو مفتوح، وقابل لأن يستوعب الكائن والممكن، وكل الشروط الإجتماعية والسياسية والتاريخية، باعتباره يجيب عن ماهيته أو لا وعن صحة نتائجه أو خطئها،  وثانيابمدى قربه أو بعده عن العلم، فممارسة عبد الكريم برشيد تصبح بدورها منتجة لمنهجها، حيث يكون النقد وعيا جدليا يطبع مجالات درامية وفنية، لأن الإقرار بهذه الممارسة النقدية لدليل على صعوبة هذا التطبيق أولا، وكذا تحديد شخصية في حقل واحد. فالنقد والقراءة مرتبطان بسياق جدلي، لا يلغي أحدها الأخر، فالقراءة في مشروع برشيد، لن يكون مقبولا إذا لم يصحبه تعمق في الرؤية والإمساك بالتفاصيل قصد بناء أفق إبستمولوجي مغاير، وهذا المسلك الذي نود أن نتبعه، قابل للمحاورة والمساءلة دون السقوط في الإنتقائيةوالتلفيقية. وبرشيد يغوص في الواقع العربي والمغربي الحديث والمعاصر، برؤية تتركب من نظريات ومن مبادئ حيث تتأسس على الاتصالوالانفصال، وعلى التركيب والتحليل والنقد، إذن تبقى مقاربتنا حركة بحث متواصل غير متطابق مع التصورات القديمة، التي تعتمد على الرؤية الأحادية في التحليل، وفي الحكم بالمتوزع إلى درجة النظام المعياري، كما ذكرنا سابقا. 

فالقراءة المتبعة في المبحث، قراءة إستنباطية تحقق المعنى أولا، وتحدد أليات المقايسة، وتحليل كل الأنوية التمثيلية مع الوقوف على الموضوعية والذاتية، دون توجيه نظري مسبق، الذي يرتب العلاقات بين مستويات النص، فليس هناك رابط جامع يشمل مثلا الإتجاهات التي سار عليها المبدع والناقد ” عبد الكريم برشيد “، فهي عبارة عن رؤى ومناهج تارة، ونقدية تارة أخرة، وجمالية واجتماعية تارة أخرى، فهي تفرض على الدراسة مواجهة سياقات وثقافات متنوعة تلزمه بالحذر من مسألة المرجعية المتحكمة في كل كتاب، ومعنى هذا أن “نقد النقد” لا يكون إلا عبارة عن قراءة مضاعفة التي تدل على الكثرة والتعدد والاختلاف لصالح منهج مغاير لأصوله، لذلك فإن برشيد يحتاج دوما إلى تفكيك غرائبيته وتكامليته، فهو الذي يخلق عالمه المرتبط بالعبقرية الفردية والجماعية، وبالتجربة المعاشة التي تتطلب التفسير والاستقراء المنهجي الذي يؤسس خطابات تنظيرية تكون أقرب إلى المنهج. يقول “حسن مروة”: إن المنهجية في النقد تكون جديرة بالاعتبار، حين تكون الأسس والمقاييس ثابتة من حيث الجوهر، متحركة متطورة متجددة متنوعة من حيث التطبيق ومراعاة الخصائص الذاتية القائمة في كل خلق أدبي إلى جانب الخصائص العامة المكتسبة من قوانين الحركة الشاملة المرافقة لكل عمل ذي سيمفونية ما”، هذا الطرح يعبر عن وعي منهجي جدير بالقراءة وبالمصاحبة الذاتية، قصد إدراك قيمة التطبيق بكل تجلياته الجمالية والدرامية والدراسة والنقدية.

فالخطاب عند خطاب محاصر بالتعدد وبالاختلاف وبالاختيار الواقعي، مما يفرض كما قلنا السؤال عن حضور هذا التنوع عن أصل الإبداع المسرحي، وعن ثقافته وتحولاته من ميدان إلا ميدان، لأن هذا الإنتقال هو وعي ودراسة، وعي يساهم في بناء مفهوم المنهج الممكن، في فهم المسرح والنقد من أجل اكتشاف القيم الجمالية والإجتماعية والسياسية، يقول “عباس الجراري”: ” إن المنهج مجرد وسيلة للبحث عن المعرفة وفحصها، أي مجرد خطة مضبوطة بمقاييس وقواعد وطرق تساعد على الوصول إلى الحقيقة، وتقديم الدليل عليها. هذه مجرد أدوات إجرائية، وهي في نظرنا لا تمثل إلا جانبا واحد من المنهج الذي أقترح تسميته بالجانب المرئي في المنهج”، فالطرح المنهجي لعبد الكريم برشيد ليس قالبا جاهزا في تفاصيله، بل هو مجموعة مفاهيم يتطلب بناء رؤية شخصية ذات ثقافة، وإعادة الإنتاج والتبلور والتعدد المرتبط بالأبعاد الاجتماعية والثقافية التي تشكل حقل ممارستها، إذن (نقد النقد) لا يقف عند عتبة النص، بل ينخرط في الكل من أجل تملك شرعية الاختلاف، وكذا تقارب العمل الدرامي كي نلتمس شرعيته ودراميته. يقول “يمنى العيد” في هذا الصدد: “لكن القول بالمنهج أو بقراءة منهجية، لا يعني عملا أليا أو تطبيقا حرفيا لهذا المفهوم أو ذلك، بل يعني الاستعانة بمعارف مفهومية تضيء سبيل البحث، وتساعده على كشف ما يحمله النص، ما يقوله”.

فنقد النقد هو التسلح بالمعرفة المتنوعة، حيث يستوحيه المتن المدروس، من حيث هو متن يتأسس على تقنيات واسعة تشكل أرضية غير نهائية، كما تحوله الى ممارسة مزدوجة. لذا تصبح المعرفة بهذا التيار أمرا ضروريا، يمنح لكل المتون قدرة الكشف عن طبقات النصوص المغلقة والمفتوحة، ومحركا ديناميا لكل قراءة ومنهجية التي تقع في صلب التعدد لتصل الى اللاتكامل سواء تبنت شعار الإبستمولوجيةأو شعار التحليل النفسي أو الاجتماعي أو التركيبي، سواء في معرفة الحدود المهيمنة على الملفوظ والمقروء. فالرغبة ملحة في بناء نقد منهجي على أساس هي جمع عدة مناهج وتسميتها بعد ذلك “بنقد النقد” فهذا النقد الذي يتقنص من المناهج المصطلحات المجردة لبناء نقد بكيفية مزدوجة تتجاوز المفردات والمصطلحات لبناء رؤية ثقافية وجودية ودرامية، هذه الرؤية لا تعترف بالحدود بين المعارف، بل تخلق حوارا ممكنا قابلا للتجسيد، ويقول “جورج طرابشي”: “لكل قفل مفتاح، والأثر الفني قفل وبحاجة هو الأخر إلى مفتاح خاص، وأردأ أنواع النقاد هو ذلك الذي يصر على فتح الأثر الأدبي الأصيل بمفتاح جاهز أو بمنهج مسبق وإيديولوجيا مسبقة”. إنطلاقا من هذه القولة، يمكن من إبراز هذا المفتاح لفك مغالق المتون المدروسة لإجاد صيغة منهجية تضع كل مقاربة ضمن المجال النسبي والمحتمل لعلها دعوات تغرينا وتقرب القارئ إلى إشكالية المرجعية والمناهج والنظريات التي لا زالت في وطننا العربي قاصرة على الدقة والممارسة والتنظير، ويقول “محمد الدغمومي”: “ولا  أحد يستطيع أن يضيف الى التنظير الأصلي لها شيء، سوى ما يبررها ويوسع دائرة توظيفها في تناول الأدب العربي، والتوفيق بينها دون فرضيات قادرة على صنع منهج مستقل له نظرية خاصة، يتجاوز حدود إعادة الإنتاج، وإعادة الإنتاج هذه تتسبب في احداث فراغات في جسم التنظير، حيث يتم طرح التصورات بصورة ناقصة مع ترك جوانب هامة غائبة (للعلم بها)، مع إهمال للخلفيات الفلسفية والإيديولوجية والخصوصية التي انبثق منها المنهج والزمن الثقافي للمنهج”.

إن هذا النقد يفرز في كل تجربة حوار مفتوحا بواسطة معرفة جديدة، ظهرت في وطننا العربي، يقول “ابن زيدان”: “الأن محدودية الحركة وتصلب شرايين كل قنوات الحوار، غالبا ما يفضي الى الباب المشدود، وحتى ولو كانت هناك بعض الاستثناءات، فإن هذا لا يعني أن القاعدة بدأت تتحول استثناء، بل إن الأمر يبقى واردا في اطاره المسرحي حين نجد أن المسرح نفسه –غالبا-ما يفقد السيطرة على إيقاع التغيير الذي يبشر به هذا الاستثناء. ولا يلاحق بعض الإلتملعات التي تظهر في بعض الكتابات المسرحية التي تسكت عن المرجعية الغربية الكامنة فيها”، وهذا الغياب هو نتيجة لعدة عوامل منها، ما هو سياسي وما هو اجتماعي وما هو اقتصادي، مادامت البدل لم تعلن عن تمردها، ولم تستفيد من إنجازات الغرب، يقول الدكتور”حسن المنيعي”:”إن توظيف عطاءات العلوم اللسنية والفلسفات الحديثة والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم والإيديولوجيات التي تخول لهم ابتداع اللغة نقدية جديدة ترمي الى تحديد نظريات قادرة وتهدف الى خلق علاقة صميمية بين النقد والأدب، وبتالي…تحقيق مشاريع فكرية استطاعت أن تقف بموازاة قناعتهم السياسية، كما استطاعت أيضا أن تولد معرفة جديدة تلح على تطوير الواقع الفكري وتركيز قيمه”.

فالباحث عبد الكريم برشيد يسعى إلى ضبط السلوك، قصد تكسير تلك القوالب في سبيل البحث الدائم عن رؤى تجريبية للإنسان المبدع، لنسق كل تبعية غير مشروطة. لأن هذا الحكم القائم والمبني على الاستقراء المنهجي والمعرفي، جعلنا ندرك أن نقدنا مبني على التشتت والعقم، لأنه لم يصل بعد عندنا إلى مرحلة من النضج، بمعنى أنه لا يزال متخلفا من كل إبداع مسرحي لذا نشير إلى أن النقد المسرحي لا يطرح كقضية في المغرب فحسب، بل يعتبر من أهم القضايا الفنية التي يتصدى لها الدارسون بالمعالجة والتحليل في بلدان أخرى، توجه من العناية الفائقة الى المسرح ما لم نتمكن نحن من توجيهه الى هذا الفن النبيل الذي يشكوا كل أنواع الإهمال، ويفقر إلى حضانة معنوية ومادية”.

تتمثل صورة هذا الشكل في العملية التي تبدو جلبة في هذا القول النظري، وهي عماية غياب نقد فعال في الوطن العربي نظرا لإهماله وافتقاره الى الحركة والى الدينامية التواصلية، وكذا الى “التلازم بين سؤال البناء النظري، وسؤال الرؤيا، في هذا التوزع بين غياب المنهج هنا وحضوره هناك، لم يكن قد اكتمل في هذا الطموح، وهو ما أدى الى التصادم بين السؤال التأسيس وتجربة التأسيس التي يوجد داخلها مسرحنا العربي، ذلك أن تعدد التجارب السابقة وطرح الأسئلة حول الأجوبة التي كانت جاهزة، وغياب العلاقة بين الأسئلة المطروحة وبين طبيعة الوطن العربي لم يفتح أمام النقد العربي المسرحي تلك الأفاق التي كان يروم الوصول إليها…”. لقد كشفت لنا هذه الأقوال (موقف النقد من قضية النقد)، ومن الاختلاف الذي يسمح لنا بالقول بأن مفهوم النقد داخل ساحتنا العربية ليس علميا.

فهو بالنسبة للبعض إغراق غنائي وجداني وبلاغي، وبالنسبة للبعض الأخر تواصل وحوار لغوي ونفسي وعلاماتي وتفكيكي ودلالي. فهذا النقد لا يتأسس كما ذكرنا إلا بالمحاورة وبالمغايرة والبحث عن المساحة المفقودة في النص، لأن استحضار المفقود هو الذي يدفعنا الى طرح الأسئلة التالية: هل يمكن الحديث عن المنهج كقضية جوهرية لها رحلتها وأسئلتها ومرجعيتها في حركة النقد المسرحي ولها مكانتها من أجل الإقتراب من لحظة تتميز بكونها لحظة استثناء في فكرنا النقدي. يدعو الى التجاوز من أجل الإتساع والتوسع الكمي والكيفي في مجال الإنتاج، والمسرحي وقضاياه وإشكالات الإنتاج المنهجي على وجه الخصوص، لأن التجاوز الحاصل يجد ارهاصاته الأولى في شكل إطار إبستمولوجي، ثم في الضوابط العلمية والنظرية التي تحدد فضاءها النظري والتطبيقي.

لأن الانفتاح الذي يدعوه برشيد يغدي المجال الإبداعي سواء في مستوى الأسئلة واليات المقاربة، أو في مستوى الأطروحات والمفاهيم، وهو الأمر الذي يسمح لهذا الباحث بتجاوز الأسئلة التقليدية والمفاهيم الموروثة، من أجل بناء توجيهات في النقد المسرحي تتوخى نقدا فلسفيا ومعرفيا جديدا، مطابقا لمتطلبات التحول الذي جرى في الفكر وفي النقد.

ولم يكن بامكانه أن نتحدث عن منهج نقدي رغم تشبع بعض التيارات ببعض المفاهيم الفلسفية والسياسية واللغوية، باستثناء بعض الكتابات، التي أعادت النظر في التيارات الدخيلة والمنتمية الى مدارس وتاريخ المعرفة. هذا الأمر هو الذي يكشف حقيقة القول: لأن هناك نقاد يجتهدون اجتهاد فرديا لنقل المفاهيم والمصطلحات المسرحية الغربية إلى الوطن العربي، فبعضهم ينقل، وبعضهم يترجم وبعضهم يعرب. وفي كل هذه العمليات نجد أن كل ناقد يغني على ليلاه، وكل ناقد يختار الكلمات العربية التي يحس أنها- كما يقول غالي شكري تحمل دلالات المصطلح الأصلي”.

وإذا كان بإمكاننا أن نتحدث عن تنوع منهجي في المقاربات النقدية داخل المسرح العربي والمغربي، حيث تستوعب الممارسة المنهجية الراهنة جملة من المفاهيم والاختيارات الكبرى المتطورة والمتبلورة في تاريخ الإبداع المسرحي، فان شروط هذا الاستيعاب وهذا الانفتاح تعود الى الإنتاج المسرحي الذي بلوره جيل من المفكرين والذين انخرطوا في عملية إنتاج الأسئلة الراهنة، والأطروحات الواقعية في تجاوب مع متطلبات الشروط التاريخية المؤطرة لوجودهم. ورغم ذلك فإن مصطلح المنهج يبقى عسير التعريف وبعيدا عن أسئلة تاريخ الإنسان والواقع. يقول “عبد الرحمن بن زيدان” في هذا الصدد: “ولعل أهم الأبعاد وأخطرها في هذا الطموح، وهذا اللبس في النقد المسرحي العربي هو اشتباه السبيل، حيال معضلة المصطلح المسرحي العربي في علاقتها بتأصيل لغة المسرح تلقينا وبحثا وابتكارا، ونجد أن أهم ما يطرحه هذا المصطلح هو قضية المصطلحات، وأساسها النظرية في بعدها المعرفي والإدراكي المتصل بعلاقة كل علم بثبته الاصطلاحي، من جهة، وبعلاقة الجهاز المصطلحي لعلم من العلوم بالرصيد المعجمي العام للغة من جهة أخرى”. نقدم في هذا العدد مجموعة من الملاحظات التي تتجه للإحاطة بمشروع برشيد وهي حصيلة معايشتنا المستمرة لأعماله، والغاية من هذا التحديد:

  1. تحديد المنهج وأسسه وقواعده، والمفاهم، والتي تدعم كل الجوانب القوية في منتوجه النظري.
  2. مساءلة النصوص المسرحية البرشيدية من أجل إدراك أساسها واستخراج تركيباتها الفنية والنقدية، وقدرتها الخاصة. وإن كنا ندرك أن فعل القراءة ليس بريئا كما يرى برشيد، ولكنه فعل ينخرط داخل سلسلة من السيرورة الاجتماعية والنقدية.
  3. استحضاره التيارات الفكرية والفلسفية والأدبية، من أجل إبراز الطبقات الخفية في النص، ووضع أيدينا على المنهج المهيمن، وكذا الوظائف المسيطرة.

وانطلاقا من هذه المقاربة النقدية (نقد النقد) ندرك أنها تمتاح رموزها ومفاهيمها من التيارات الفلسفية والنفسية والاجتماعية والابستمولوجية، باعتبارها أنوية مفتوحة وقابلة للمساءلة والتأويل، فسؤالنا يبقى بدوره كعتبة من خلالها ندرك كيف نقرأ متن برشيد سواء على المستوى النفسي أو السوسيولوجي أو البنيوي أو التاريخي أو الموضوعاتي أو التلقي، وكيف وظف هذه الترسانات المفاهيم، كاستراتيجيات من أجل استنطاق النصوص المسرحية، وهل برشيد مدين لمنهج من هذه المناهج المذكورة، أم أن قراءته تبقى قراءة سوسيو ثقافية وتاريخية؟ وما هي المرجعيات المتحكمة في قراءاته؟

لا شك أننا نتحدث عن مرجعية برشيد نبالغ في استعمال صيغة الجمع، ذلك لأنه لا يوجد في الحقيقة غير منبع واحد هو الواقع الثقافي، باعتباره عتبة مفتوحة على الحقيقة وعلى حياته الفكرية المتنوعة، حيث يلامس الحقيقة ويتحدد معها ويحيياها، بدلا من أن يتصورها بفكره. ونستطيع بهذا المعنى نفسه، أن ندرك قيمة الكتب العديدة التي يعلن فيها أن مؤلفاته ليست سوى تعبيرا عن حياته الأدبية والفكرية، حيث يتم هذا عبر استراتيجية السؤال بمعناه النهائي والمكتمل، والتاريخ والعلم والنسق والقراءة والنقد… إلخ. إنها مراجعة لتاريخ المسرح وللتاريخ النقدي المسرحي خاصة، مراجعة لم تكن مجردة من الوضعية التاريخية المعاصرة من جهة، ومن المسار الحالي للأفكار وللأداب والمسرح من جهة ثانية.

وإذا ما حاولنا تحديد المنظومة المرجعية التي تحدث عنها فكر عبد الكريم برشيد، سواء كمواضيع للتفكير والنقد، أو كمراج للإغناء وتوسيع الأفق في حركاته وتجلياته ذاتا أو تاريخا أو واقعا أو نقدا، فإن هذا الاهتمام المتشعب عنده، يؤدي إلى مساجلة حقبة تاريخية وجدت نفسها مجبرة على أن تحدد أفقها الإشكالي كله، كلغة وكحقل مفضل بامتياز لمساجلة الفكر النقدي الغربي وتاريخه، وكذا فضح تمركزات النقد العربي في فضائه اللاعقلاني. 

إن تميز القراءة عنده للمسرح المغربي والعربي، يأتي من كونه يعتبر النص متنافرا ومركبا، ومن ثمة تموضع كقراءة/ ككتابة حسب “كوفمان”. ولتربية بدلالات متنوعة ومتعددة يصعب معها القيام بقراءة بسيطة لنقده ولقراءة كتبه ومقالاته. وأمام هذه الصعوبات نحاول ممارسة قراءة متعددة لمتنه قصد جمع شتاته ما أمكن، وإبراز البعد الجدلي في الكثير من كتاباته ذات فعالية القائمة على المغايرة والاختلاف والتلقي والتأويل والوعي والسياسة والجدل والارجاء وأيضا ذات المفاهيم غير المفصولة عن اللغة، وهي التي تقوم بعمل مماثلة لنقد النقد وإن كانت مختلفة عنها أيضا.

إنها سلسلة تتمتع كل حلقة منها باستقلال النسبي، ولكن تتكرر فيها الحلقة المجاورة، حيث يصبح مع هذا التحديد أن النقد هو العودة للإختلاف. ولأن هذا الإعتراف يساعدنا في تشكيل قراءة مؤولة ترفع عن كتاب النصوص كل سلطة، وتمحو اسمه لتجعل منه مفعوله “منظورا” معين لا يزيد إلى أي تأويل أصلي ولا يحيل إلى أي تفسير مركزي.

انطلاقا من هذه الحيثيات عرف النقد المسرحي المغربي عند برشيد  عدة تحولات، سواء على المستوى النظري أو المنهجي، أو مستوى للجامعة المغربية التي لعبت  دورا بارزا في هذا التبلور وفي هذا الارتقاء التاريخي والميلادي، سواء من خلال المقررات أو من خلال المبادرات الفردية أو البحوث الجامعية أو من خلال تأطيرات الأساتذة الذين عملوا على توجيه الطلبة الباحثين الى هتك بكارة هذا الفن واجتراحه قصد معرفة أعماقه وطبقاته المتراصة، ومن بين هؤلاء كما قلنا الدكتور “عبد الكريم برشيد”، الذي عمل على مسايرة الحركة المسرحية تأليفا ونقدا وتنظيرا.

الضوء العظيم الذي عرفته مند كنت طالبا بمدينة الخميسات إنه حيث شربت من منبعه وجلساته الفلسفية والفكرية فهو المبدع الذي في نصوصه لا يقف على صخرة، إن إرادة التعريف هي الهم المركزي الذي يشغل بالي، إلا أن ما تقرأه هي المناهج النقدية التي تتطلب الوعي، باعتبار أن هذا الوعي يجعل من نفسه مركزا للكون وحاملا الاستحواذ الميتافيزيقي.

فالمنهج عنده عبارة عن سلسلة متصلة من التحولات والتطورات، وجهدا إنسانيا ومعرفيا بدأ مع القدماء والمحدثين ليصل مع المعاصرين الى بناء المدارس وتوليد المصطلحات وتأسيس المعاجم، الأمر الذي أدى الى تطويره بصورة مستمرة إلى الأفضل، ليكون أكثر فاعلية وأكثر عملية وموضوعية، لأن النظرة الى مكونات المنهج بمفهوم المعاصر، نظرة كلية شاملة لابد من تحديد العوامل المؤثرة فيه باعتباره نظاما مفتوحا يتأثر ويؤثر في فلسفته ورؤيته وأسلوب تطبيقه عن طريق النقد والخبرة. وهذا يعني أن وحدة بناء المنهج لم تعد درسا في مادة من المواد الدراسية كما هو الأمر في التربية القديمة، بل إن وحدة بناء المنهج هي خبرة جوهرية يعيشها المتلقي والمبدع في موقف من مواقف الإبداع والخلق، ويكسب من خلالها ثقافته الكلية ومعارفه المتعددة. وإذا كان المبدعون والنقاد يعيشون مواقف متشابهة، فإنهم يخرجون بخبرات متباينة، فذلك يرجع الى العوامل التي تؤثر في اكتساب المهارات النقدية والإبداعية، وكذا القدرات على الإدراك العلاقات الفكرية والنفسية والجسمية. ويقدم الدكتور “سعيد علوش” تعريفا لهذا المنهج، حيث يقول: “ويقصد عادة بالمنهج سلسلة من العمليات المبرمجة والتي تهدف الى الحصول على نتيجة مطابقة لمقتضيات النظرية ويقابل المنهج من المنظور السابق: الطريقة”. فالمنهج هو الذي يجعل النظرية قادرة على التكيف مع المحيط، وعليها أن تعكس بدورها صورة تلك الفلسفة في مجموعة من المبادئ والاتجاهات والمفاهيم لدى المتلقي، وعليها أن تتيح المجال أيضا للممارسة أوجه التطبيق المتضمن في النظام الاجتماعي، لأن المنهج لابد أن يحقق الأهداف التي يسعى إليها الناقد، لأنه الوسيلة القوية التي تحافظ على تماسك المتن وتدعم النظام الاجتماعي والنفسي والسياسي… ويقول “عمر محمد الطالب” أيضا في هذا الصدد: “إنه الطريقة المؤدية إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة، تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى تصل الى نتيجة معلومة”، هذا التعريف يقربنا الى الميدان العلمي الذي يجعل العالم يتبنى الموضوعية والتجربة كأسلوب في البحث وكقانون يعكس المعلومات والاتجاهات والمهارات المتضمنة في هذه الفلسفة العلمية، أما في الميدان الأدبي فيقربنا الباحث “سمير حجازي” منه معرفا إياه بأنه “الطريقة التي يعالج بها الباحث أو الناقد موضوعه”

هذه التعريفات المتنوعة تجعلنا ندرك أن المنهج عنده هو الطريقة أو المسلك أو الخطة التي تصاغ في صورة أسلوب أو أداء والتي يقوم بها الباحث والناقد، وتكون أكثر فائدة في توجيهه الى ما يجب أن يقوم به، ويقول الدكتور “عبد الرحمن بن زيدان” : “إنه إضافة الى كونه قواعد مؤكدة تقي من الزلل وتقود الدراس أو القارئ المبدع الى سواء الفهم والسبيل، فهو أيضا منظومة من الأدوات الإجرائية والمفاهيم والمصطلحات بها تتعقد القواعد وتتضح المفاوز والمسلك وتنفتح مغالق النص“. فبرشيد يدعو الى تفجير النص المطابق لذاته بواسطة قراءة أفقية لا عمودية، لأن التشبث بالتطابق لذاته والتمسك بالتمسك لا يفضي الى ضياع، ومن لا يقبل بالضياع، لن يجد شيئا كما قال “هيدجر”، فهو لا يتحرك نحو الأخر ليشعر بوجوده، إنه لا يغامر في المجهول وإنما يتصلب ويلتصق بالمعلوم، ذلك أن اكتشاف المنهج يتطلب الخروج عن التطابق لتتم عملية الكشف والتعريف. هذه الصيرورة يمكن تسميتها بالإقلاع، إلا أن القطيعي ذو الوعي المطابق لذاته لا ينفك يعيد التائه الى حظيرته – حظيرة الأب – ليتطابق مع أنموذجه. ينتج عن ذلك انسداد الأفق ويتأسس فكر المراقبة والمراجعة قصد التيقن من التطابق، ولكن “ابن زيدان: يرى “أن المنهج النقدي ينبغي أن يخلخل كل هذه الترسبات الماضية واليقينية قصد ضبط الوسائل التقنية ووضع قواعد دقيقة لها، والتبصر في الغايات التي يستهدفها النقد لفهم الظواهر الاجتماعية”.

وبرشيد يمتد ليوجد في الكلام وليعترف بحضور التقليد والمحاكاة والمجاملات، وأمسى الناقد مركز الكون وقطبه الأصلي،  لكنانبلاج فجر الخطاب لا يكون الكائن الا اختلافا، فنحن نختلف عنه لأنه يوجد فينا  وذلك من موقعنا نحن المغاير فيه، أما من موقعه هو الأن نسق هو منطق التطابق في أخر المطاف، فهو إزاء الموت، ذلك الأخر المختلف الذي لا يقبل التدجين، يطابق بينه (الموت) وبين الحياة. وهو بذلك يعيده الى حظيرة النسق، يقول “بن زيدان”: “وهناك التعامل مع النص المسرحي عبر عملية ميكانيكية منفصلة عن ظروف النص ومكوناته وقوانينه الذاتية والموضوعية”. فمنظور برشيد لا يعتمد منطق الاختزال، ولا يتطابق مع مقولاته، بل يعيد البداية القديمة بلغة حديثة ومعاصرة، ولا يقبل بمبدأ التيه، ولا تلك الثنائيات الضدية التي تنفي التفاعل والتعارض الذي ينفي حق الاختلاف.

كل هذه الأنساق النقدية حسب رأيه يحكمها مبدأ واحد هو مبدأ الذوق والهجاء، ومبدأ القطيعي الذي ينفي التعدد والتمايز ولا يقول غلا بالانسجام والإضباط، إنه مبدأ جنائزي ومبدأ الواحد القهري ومبدأ السيطرة. فالماضي لم يقع هضمه بما فيه الكفاية لأنه وقع إلغاؤه حسب مبدأ الإقلاع النهائي، ولم تتم عملية التجاوز، لأننا لا نحسن التعامل مع استراتيجية التأويل والتلقي والاختلاف. فالقراءة التي يدعو اليها الباحث برشيد لا تتمثل في رفض قاطع بحيث يكمن ويسهل احتواؤها من قبل سلطة المؤلف والمخرج والناقد. لأن التعارض الضدي هو أخطر شيء يهدد الفكر والنقد، إذ يفقده ثراءه، وينفي عنه صفة التواصل. يقول ابن زيدان: “إن المنهج مؤسس لخدمة النص وليس العكس، وإنه إذا تم تملكه فإنه يساعده على ممارسة النشاط الفكري ببنية فكرية منفتحة”.

فالمكوث في النص والاستماع الى الصامت فيه والأفق البياض والغياب، هي إشارات للفعل الحداثي الذي يترعرع في حضن اللغة والذات، لينقش أثار المغايرة والاختلاف في مناطق الهامش وداخل بنية الخطاب ذاته، كمنطقة مهمشة للمختلف يقفز فوقها فكر التأويل، وليمد فعل القراءة كمجال للإبداع المغاير للزمكان، ولكي يمتد المتناهي نحو اللامتناهي. فثمة فلسفة نقدية حقيقية لا تقوم على الحقيقة المتناهي وحده المنقطع القائم بذاته، وحتى النقد يمنع هذه الخاصية.

وبتالي فهو وحده القائم بذاته، لكن هذا القول يفرض فكريا الوحدة مقابل ما يغايرها. يقول ابن زيدان: “إن الناقد الحقيقي يجعل المنهج عاشقا للنص، وليس مسطرة صارمة فيالقراءة”. لقد فسر برشيد مهمة الناقد الحقيقي بالصورة العقلانية لتجعل من المنهج عاشقا للنص ولكل طبقاته التي تحيط به، ليواجه عاريا ومقتفيا أثاره، ليس في نتاجه فحسب، بل في ألته التي تصنع هذا النتاج الذي يبرره ويخفيه في الوقت ذاته يبقى النص ذا سلطة لا نهائية، بواسطتها يستطيع الانفلات من أي مقاربة تحاول الزج به في القفص وجعله قابلا لتشريحها ووصفها. فهذا لا يجعل من القراءة ألة للوضوح النظري، أي أن القراءة تعمل على تقنين النظرية.

وبناء على ذلك، فإننا نحس بوجود ذات قصيدة وواعية، تكون مرتكزا للعملية التأويلية والنقدية، حيث توجد موضوعات خارجية مستقلة عن هذه الذات الباحثة والمفكرة، وهناك عملية من التأويلات المتناسلة التي لا نهاية لها، وما من قراءة إلا وقد سبقتها قراءات أخرى، وهكذا… وذلك لأن المنهج ليس إلا عبارة عن أدوات تحليلية ونقدية التي تسمح بتصدع جميع الضمانات التي كانت تسمح بتعقل العالم النصي، وتطويحا بجميع المرتكزات والماهيات، بما في ذلك الإنسان نفسه الذي أصبح مجرد لعبة للتشتت في وجود عرضي لا ماهية له، بل إن القول بعبقرية برشيد وبمنهج الذي سيفسح المجال أمام القول بالمغايرة والاختلاف، أي سيضع نهاية لكل قراءة مسكونة بمعنى واحد ووحيد، أي معنى حقيقي ونهائي، والتي تعد الذات مصدرا ومرتكزا الإنتاج ال معاني والدلالات، في حين أن المنهج في فلسفة برشيد أصبح هو نفسه مفعولا للعملية التأويلية ومرتبطا “وقائما على شيء أساس هو التمثل السليم والشامل لطبيعة ما نبحثه نقديا”. وهذا التمثل للوعي هو شرطا ضروريا لإبراز العملية النقدية وإنجازها، الى النهاية في عملية خلط بين الأدبي والمسرحي والذوقي، إنه نقد وهمي حول الموجود العربي المحول إلى لعبة بسيطة، لذلك فإن مهمة النقد حسب برشيد تتمثل في التماهي والاختلاف، ليحث عن الألفة الطائعة وعن تشظي الذات والهوية السلبية العميقة حول “جوهر العمل النقدي” يقول في هذا الصدد: “لم يستطيع… تمثل المناهج بشكل عميق يحيط بإشكالاتها وخلفياتها المعرفية والاجتماعية والفلسفية.

إن ما يعطينا صورة حقيقية عن السلبيات، هو أن المنهج النقدي والنظريات المصرح بها من طرف ممارسي النقد المسرحي، خصوصا منها ما يتعلق بالجانب النظري، لم يبلغ بعد في أذهان أصحابها درجة التمثل الكامل أو الفهم الصحيح أو الإحاطة الشاملة بمكونات هذه المناهج إلا ناذرا”. إن فعل الاستذكار ليس إلا من فعل المغايرة ذاتها، لأن تاريخ النقد المسرحي أو المنهجي من وجهة نظره ليس في نهاية الأمر الا الفكر الذي تفوه به الناقد وعبر عن نفسه في شكل أقوال غير كاملة.

لأن عملية الكشف عن أسرار النص المسرحي بغاية تفكيكه وهدمه لا تعني عنده الا “الفضاء المطلق على كل فكر قديم، لأن الماضي ليس مجرد قول عابر، بل هو بنية الوجود =اته، وليست هذه النزعة القرائية الا تحولا في كيفيات التأويل ونمط البحث عن الحقيقة ضد النمط العام لجوهر العمل المسرحي ومكوناته”.

ويرجع الباحث التحولات الكبرى في تاريخ النقد المسرحي العربي الى مجرد تحول في مسار تاريخ العرب الذي شهد تعديلات مهمة على مستوى المناهج والأفكار والمعارف والفنون التعبيرية، حيث شكل النقد المسرحي وفق صيرورة دينامية تعمل على تطريز القراءة بجمالية التذويب. لأن قراءة برشيد تفتح فضاءات للنقد على العوالم الهشة للذات، وعلى ما يشكل حفرياتها السردية والمنهجية وعلى ما يسمح لهذه المصطلحات من الكشف عن الأسرار والتلذذ بالنص، إن ما يشغل هذه الرغبة البرشيدية هو تطلع الذات الى التخلص من ثقل الكتمان وجليد النسيان بواسطة النقد والاشتغال بكل “المصطلحات المتوفرة أو المترجمة لقراءة التجربة المسرحية العربية”. عن تحرك هذه الرغبة في اتجاه عالم تأملي هو ما ينبغي أن يوجد وليس ما هو موجود، وهذه الرغبة البرشيدية في بناء الأنا الناقدة خارج الصياغة الضابطة والضيقة والمذهبية، هي التي تفسر امتداد وتشعب القراءات والتأويلا، وتشخص صيرورة غير متكاملة من البناء والاكتشافات وإعادة البناء.

ونتيجة لذلك تتخذ هذه الفعالية النقدية صوب الحداثة سواء في وجهها النظري أو من خلال تطبيقاتها التاريخية، يقول في هذا الصدد: ” فالذي يستطيع تأسيس النقد خارج النظرية أو المذهبية الضيقة هو القادر على جعل منهج التفكير فيه يأخذ شكل مشروع دائم التفكير، ويحرر النقد من النظرية الضيقة والمذهبية الثابتة، وهذا يعني تحريره من الصياغة الصارمة وجعله يضع وعيه المتجدد مباشرة عقلانية مجتمعة ومع تاريخية المعرفة من حيث كون هذه المعرفة علمية انفتاح متواصل على الكينونة”.

في ضوء هذا البناء الإستيطيقي يتم تسنين هذه المقولة المرجعية في سياق الرؤيا المتنامية والشفرة التناصية ممثلة في أشكال مفتوحة وغير منفصلة عن الواقع، حيث ينزاح الناقد في هذا النسق التأويلي من لغة الواقع لينشطر في تيار الرغبة المكبوتة في شكل استيهاميات متقطعة وتأملات شذرية، لتهيمن الثقافة البرشيدية المتنوعة التي تحكي بخطابها البريء والتلقائي مما يمكن تسميته “بموسوعية الناقد”.

لأن طرح نوعية التكوين والثقافة في مجال النقد المسرحي يتطلب الاستفادة من كل المجالات المعرفية التي يمكن أن تساعد على فك رموز النص وإدراك العلاقات المتحكمة في إنتاجه، ويتميز هذا القول بجمالية التوتر والتشظي، بسبب استحواذ الرؤية الاستيهامية على الذات، حيث كان التكوين الثقافي يتبدى في شكل التنوع ليحرم الذات من ترسيمة الاستقرار، لأنها تعطي للنص ذهابه المحكوم بمسافة التوتر والغربة، وليعكس هذا النص وضع الاستقرار الذي تعاني منه الذات الى حد الانفجار. إن تركيز الباحث في رمزيته على المتخيل يهدف الى تجسيد استقرار المفاهيم، وهي ما يعرف بنظرية الانفجار العظيم. تحيل هذه الاستعارة على دلالات الانفجار المعرفي المولد للتنوع النقدي، حيث يمثل التنوع خطاب الذات الى نفسها والى العالم، ويقوم الناقد المبدع بوظيفته المعرفية بالنقد من أجل الكتابة لفهم الذات والعالم، لأن البناء التمفصلي الدينامي هو ما يميز استراتيجية القراءة وليس البنية الأحادية والرؤية الواحدة.

إن المهم حسب برشيد في اشتغال النسق النقدي هو ما يحدثه من انزياحات وتحولات في نسق التحليل، فالقراءة تتحكم في شفرات تفاعلية ليست ثابتة، بل هي التي تنضد أنساق الناقد وتكشف الطابع التمفصلي الدينامي لصيرورة تحولاتها وتقاطعاتها، حيث تتحدد شعرية القراءة بامتداداتها واختلافاتها، يقول الباحث: “كنت أحيط قراءتي بمكونات الدرامي والمسرحي واللغوي في النصوص المسرحية لأنني أقنعت مسيرتي في القراءة أن المسرح كفعل مركب لا يمكن مقاربته بأدوات بسيطة تفقد مقومات المعرفة والعلم مركبات هذا الفعل”.

وانطلاقا من هذه القولة، فإن برشيد يهدف الى نقد القراءات لاسيما في شكلها الدوغمائي، للكشف عن خطأ بعض التيارات والمعارف، وعن أليات اشتغال الخطاب وكذا تحليل الأنظمة المعرفية قصد ارتياد أفاق جديدة وتأسيس ميادين متنوعة.

لأن النقد المسرحي مسألة جوهرية تسمح لنا بفحص مسلماته وتحليل بنياته ومراجعة قواعده، ويقول “يونس لوليدي”: “لابد أن يتوسل الناقد بكل المناهج والعلوم الإنسانية التي من شأنها أن تساعدنا على فهمه وتذوقه ودراسته”.

في ضوء هذا البيان المتعدد، فالمسرح البرشيدي لا يمكن تشذيبه الى مجرد نص واحد ووحيد، لأن مثل هذا الإقصاء يلغيه ويمحي خصوصيته الجوهرية كعلاقة التفاعل بين النص والعلوم الإنسانية، ويقول “سعد الله ونوس”: “وينبغي أن لا ننسى أن المسرح وهو الفن الجماعي يظل على حد تعبير جان فيلار أكثر الفنون المهددة بالتوقف أو الاضمحلال، حيث يفقد الحرية.

إنه فن توهنه القيود ولا يهم أن تكون هذه القيود محتوية أو هدنية، (الاحتواء) وهدنية (المنع والمصادرة). هده الرؤية النقدية وفقا لهذا التحليل تكتسب مادتها التأويلية مجموعة من الصيغ التحليلية واللغوية والنفسية، حيث يلجأ الناقد المسرحي الى توليد مجموعة من العناصر التي تتعلق مع الواقع والفكر، فيحولها إلى أنوية تمثيلية والى تمسرحات لتشكل مادة ذات وظائف عدة. هذه الصيغة هي التي تمنح لتلك العناصر الخاضعة للتأويل، بعدا دراميا وجماليا ونقديا، ولأنها هي التي تؤسس التفاعل بين النص والناقد / المبدع، فحين يعمل برشيد على جلب عناصر من الواقع الاجتماعي ومن المعارف التي تسمح له بشكل جوهري لإبراز العناصر التي تنتمي لتلك الأجناس التعبيرية. فالنقد عند برشيد لا يوظفه من حيث أنه الحقيقة، بل من حيث أنه تضطلع بوظيفة التأويل والقراءة العاشقة، والحضر الفلسفي، لأن برشيد فيلسوف قبل أن يكون فنان، لذا هي رحلة نحو المغايرة والتمايز في البناء والممارسة، فإنه يضعنا أمام رحلة البحث الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة التالية:

ما هي المرجعيات المتحكمة في نقده؟ وما هي الخصائص المنهج عنده؟ أسئلة متعددة تعيد النظر في كينونتنا وزمننا، مما أدى إلى إبراز إمكانية التحقق على مستوى الطرح المنهجي، لأن قراءة برشيد أفرزت التواءات نظرية ومعرفية وأضحت العتبية التي تمكننا من البحث في تاريخ المسرح المغربي والعربي.

من هنا يعتبر السؤال المنهجي موضوعا صالحا للتعدد وللتنوع، حيث يمنح للنقد المسرحي المغربي وضعيات مختلفة باختلاف المدارك والأزمان، لأن رصد تطوره لا يتأتى إلا عبر رؤية الناقد الى ذاته وإلى عالمه. فالنقد المسرحي بهذا المعنى لا يمكننا أن نحدد مفهومه إلا من خلال التصورات المنهجية التي أنتجها، لأن البحث عن المنهج هو بحث استراتيجية في النهاية بدون غاية نهائية، فيمكن أن يدعي تكتيك أعمى بتيه تجريبي مادامت قيمة التجريبية لا تستمد كل معناها من تناقضها مع المسؤولية الفلسفية”.

إن تحري الاختلاف كأكثر واقعي يتطلب الانخراط في عالم المتغيرات، وهو الموجه الأخر للخطاب النقدي الذي يحاول الاستيعاب العقلاني لهذا العالم، لأن المحاولة المقترحة من طرف الناقد برشيد تتطلب أن نتتبع أثار المرجعيات والمخلفات، في حركتها وعفويتها دون أن نقصرها على التخلي عن فرادتها. فالمنهج لعبة لا يمكن حصره في إطار كلمة أو مفهوم لأن له تاريخ، وإدراكنا له يقدم لنا انفتاحا على العصر، واكتشاف أن خطاطة الإختلاف ليس هي إلا تداخل الزمان والمكان عبر بالصيرورة التاريخية، وهذا ما نلمسه في كتابة “المقاومة في المسرح المغربي” الذي يظهر فيه المنهج التاريخي الاجتماعي سواء ” على المستوى التأريخ لتيمة المقاومة واشتغالها في الدراسات المغربية أو على مستوى الكشف عن دلالات هذه التيمة بقراءة يسكنها التساؤلات عن المغرب  والمسرح والغرب”.

يركز برشيد على التحول نحو المقارنة المتحيزة وعلى توسيع الفجوة في التاريخ ولتفكيك النظام الرمزي لزحزحته عن مركزه وإزالته عن امتيازاته المتراكمة عبر القرون، ولكي “تتكشف له أفاق وأبعاد الفن المسرحي -عامة- وظاهرة المسرح النظالي خاصة”.

هذا البعد التاريخي الاجتماعي لا يمنع من الحضور لسلطة التيمات لأن ما يهم برشيد في قراءته لهذا الحقبة ليس في الخارج وإنما الاستقرار يعني استحضار قوى النص المتنافرة لنقد الواقع قصد تعميق الهوة ومتابعة المشروع في الوقت نفسه، استنطاق متعدد قصد العثور على التوترات الداخلية فيها، يقول حسن المنيعي: “اهتم الأستاذ عبد الرحمن بن زيدان في كتبه المنشورة (التكريس والتغيير في المسرح المغربي -المقاومة في المسرح المغربي-أسئلة المسرح العربي…) بدراسة الظاهرة المسرحية من منظور فكري ثقافي، اعتماد على المنهج الاجتماعي التاريخي”، برشيد في متونه يتحدد المنهج من خلال سلسلة من المفاهيم الأخرى التي تعمل معها، كالإضافة -الأثر-الهامش، هذه المفاهيم تساعد على تفكيك طبقة الموروث الفكري والوجودي والتاريخي، وكل المجالات التي تشكل اقتصاد جديدا الإختلاف وموضوعاته، ونقدا أخر للتاريخ والعقل. هذا النهج الإجتماعي يعتمد الخارج منطلقا تطابقيا يقر بالهوية المتوحشة والذاتية الراغبة للفوارق والإختلافات.

هذا يدل على أن النقد المسرحي البرشيدي ما أن يتكلم حتى يقحم السلب ضمن رؤيته، فتقضي عليه أو تنساه، حتى وإن ادعت الاعتراف به، “لأن تاريخ الحقيقة هو تاريخ إقصاء السلب والهامش، ينبغي إذن وربما حان الوقت للرجوع إلى واللاتاريخي وذلك بمعنى يخالف تمام الإختلاف المعنى الذي تعطيه إياه الفلسفة التقليدية…. لا أتجاهل السلب وإنما الإعتراف هذه المرة…” هذا النهج هو عبارة عن بنية تستكين أساسا إلى مكوناته الدرامية والإجتماعية، وهي مكونات تضعنا في صلب الواقع المسرحي، مما يجعل الفعل الثقافي فعلا منحصرا في بنية مغلقة تحدد العلاقة بين النص والواقع في حرفية الدلالة التاريخية، حيث النص لا يحيل إلا على المرجع الواحد الوحيد، ويحدد الواقع في سياق لا يعرف التأويل، بل ينقلنا إلى مستوى الاعتباطي وإلى استدعاء البعد الإيديولوجي كمدخل للقراءة المضمونية البرشيدية، وكمفتاح لمضمون العرض المسرحي وكبعد إيديولوجي الذي ليس لديه “إلا ذريعة لإقصاء المكونات الأخرى للعرض للوصول إلى التص، وليس مدخلا للعرض المسرحي وهو الهدف من القراءة المتوخاة، وهذا يتم من خلال تظافر كل المناهج النقدية وذلك تبعا لتظافر مكونات العرض المسرحي في بناء فضاءاتها وتدخلاتها، وهذا الاعتبار هو ما يعطي مشروعية لوصف المسرح بالفن المركب”.

هذه الأبعاد الفرجوية  جعلت القراءة عند برشيد تعتمد النص كهدف وغاية، يراهن على الفعل السياسي و الإيديولوجي بكل مستوياته وشروطه التداولية، في فهمنا لواقعنا العربي سواء كان هذا الواقع مهزوما أو كان مكلوما، وإن كان البعض يذهب إلى اعتبار أن من خصوصيات الخطاب المسرحي العربي عامة والمغربي خاصة هو التشويش والمتعة. وبرشيد يبني علاقته بالمسرح على القلق والامتلاء  والتوتر، جاعلا من الأنا رؤية متمردة رافضة كل أنواع الخنوع والهيمنة، لأنه كلما ازداد الإنسان رفضا بالإنغلاق كلما إزدادت الأنا توسعا وإدراكا الواقع وللتاريخ الظاهرة المسرحية.

من هنا يرسم برشيد مفهوما مغايرا للنص وللذات وللمركز، ليدخل إلى فضاء التشظي والمغايرة وللتصدي عن مركزيتها ولتنجلي فيها الاختلافات ولتبتعد عن التطابق النصي، وتتميز عنه لتصبح مغايرة له وعنه، فالتاريخ النقدي والدرامي البرشيدي ليس هو التطابق ولا الذاتية ولاحصانة المؤلف ولا الوصاية، إنه الإنتقال المنشود.

الذي يولد الانشطار في النص ويبعده عن الوحدة والانغلاق، وتجاوزه للخطاب التقليدي. وداخل هذا السياق تتشكل إحدى تجليات بهجة القراءة مادام الناقد والمسرحي برشيد مدعو إلى استنطاق البياضات للكشف عن مكبوت الخطاب المسرحي وتكملة الملفوظ. وإذا ما تطارحنا مسألة آلية اشتغال النقد داخل النسق المسرحي، تبدى لنا أنه يروم ببنية قيم إستيتيقية جديدة محكومة بهوس الاختلاف على تباين تمظهراته، وهذا ما يسمح لنا بإدراجه داخل الحداثة النقدية العربية لأن هذا المنهج التاريخي يسهم بدوره في تشكيل جسد نقدي له رقصته المبدعة وجنونه المعقلن.

نقد يتبرم من اجترار النصوص الغائبة، متجاوزا لمسات التأسيس كما شهدتها تجربة الستينيات، ومتخطيا لقسمات التجريب، ليؤسس كونا نقديه مشرعا على التوحد والحركة والدينامية الجوهرية ، وليغدو فسيفساء نصوص متواشجة تكشف عن هندسة جمالية جذابة تشيء بانعطافة إبداعية نوعية، تعتبر سليلة عبقرية فرجوية .

وبالتالي لسليلة حوار مع نصوص الحداثة العربية . يغدو الخطاب النقدي انفجارا معرفيا وانفتاحا على الآخر، بشكل يحفز على التثوير الجذري للنص المسرحي لينقله من أسره الاحادي المغلق “Monosemie” إلى فضاء متعدد “Polisemie” .

بهذا المعنى تتحول قراءته إلى عشق يتأسس على معرفة ممكنة، رؤية بصرية لهذا الواقع الذي يجعل المتلقي يحدد مجموعة من الإحالات المرجعية والدلالية، والتي يمكن اعتبارها مكونا إيحائيا يفيد في بناء عجلة التواصل مع العالم الخارجي.

إن لحظة الفهم النقدي تريد أن تصبح لا متناهية على حساب العالم النصي كدلالة لمعنى متناه وتعبيرا مجسدا، لتجد تعبيرها في الفكرة المتنوعة التي تدمج النص في العرض وترى العمق في السطح ، والباطن في الظاهر .

أن الاعتراف بقيمة المنهج سمح له بالقيام بنوع من المقابلة بين البنيات الفوقية، بين اللحظة الفنية والتاريخية والخيالية والجمالية، حيث تتعالق مع الظاهرة النقدية التي شكلت مسوغات جوهرية ، تمثل ميثاقا يلزمنا الخوض فيما يختزنه من استفهامات افتراضية ولدت عناصر هذه الدراسة الممنهجة ، وقبل أن نستحضر هذه المفاهيم والعناصر، لابد من تأكيد حقيقتين:

أولهما: إن هذه المناهج النقدية على تنوعها، ليست موضة ثقافية يتزين بها الناقد ليثبت فحولته نتيجة انبهار بها، وإنما هي طرائق وخطوات إجرائية تسمح لنا بتحليل الظاهرة المسرحية ومعرفة جوهر علم الجمال في الغنتاج المسرحي، وبالتالي فإن الدراسات النقدية التي تستند إلى مناهج موضوعية تظل محتفظة بقيمتها المعرفية والنقدية حتى بعد بروز أشكال مقارباتية أخرى متجاوزة لها .

ثانيهما: إن المعرفة النقدية في إطار تشكلها وتحولها وإبداعها، يظهر بنيانها المفاهيمي بعد أن تعصف بها تيارات ومناهج نقدية جديدة ومتنوعة ومفتوحة ، بيد ان إنتاج المعرفة الرصينة لا يتم عن طريق توظيف آلي للنظريات العلمية والتيارات الفلسفية على الأعمال المسرحية وبشكل مباشر . ولهذا تكون النظريات والمناهج هي الهدف ،وإنما إنتاج المعرفة والفرجة مشخصا في التحليل المقنع والمضيء لمسيرته الأدبية والمسرحية والمعرفية، وإذا عدنا نسائل الدراسات النقدية عن كيفية تعاملها وتوظيفها للبنيوية والبنيوية التكوينية خصوصا، سيظل التصور المنهجي يفرض نفسه.

إذ كيف وظف البنيوية التكوينية كمنهج ، بين الشكل المسرحي والحياة الإيديولوجية؟ وكيف قوم العلاقة بين التحليل الاجتماعي والنقدي؟ ثم ما السبيل إلى تفعيل التزاوج بين التحليل الاجتماعي والتحليل النصي؟ .

من المؤكد أن كل إبداع مهما كان نوعه يعكس مضمون الوعي الفردي والجماعي، وكذلك الطريقة التي يدرك بها هذا الوعي الواقعي .ويأتي هذا الحضور ممثلا في قراءة تركيبة نقدية تتوخى استجلاء طبيعة حضور هذا المنهج، متبعا بالعناصر الموظفة لمنهجية ناقد النقد بما في ذلك الأهداف والمتن والممارسة النقدية، مع وصفها وتقويمها جماليا ، ويقول “رولان بارت”: {إن النقد ليس سوى لحظة من هذا التاريخ الذي تدخله والذي يقودنا إلى الوحدة، أي إلى حقيقة الكتابة}. فالخطاب الدرامي البرشدي لغة ثانية تختلف من حيث قضاياه ةأدواته ومناهجه، باختلاف السيرورة التاريخية، وباختلاف نمط الخلق والإبداع السائد والمهيمن في كل لحظة تاريخية، وباختلاف نمط الخلق والإبداع السائد والمهيمن في كل لحظة تاريخية،  وهو من جهة علمية يتوق إلى الإمساك بالكتاب والنقد والتحليل.

وليظل نقدا مضاعفا وخطابا مفتوحا يمزج فيه الداخل بالخارج، باعتباره يمثل أحد الأشواط النقدية للمسار الدرامي في سياقاته السوسيوثقافية المرتبط بالذات الفردية وقدرتها على الابتكار والخلق والنقد الذي يمثل نوعا من التلفظ الإيحائي المرتكز على عملية تواصلية تفترض مرسلا ومتلقيا حسب الفهم اللساني للمصطلح، كما أن موضوع النقد المسرحي المعقلن حسب برشيد ” يشكل حيزا كبيرا في الواقع الثقافي المغربي والعربي، تتقاطع فيه عدة خطابات وتأويلات علمية، كعلم النفس والسوسيولوجيا والسيميولوجيا، إضافة إلى اللسانيات، لقد أوضح “برشيد” أن النقد يدخل إلى مجال التداول الرمزي واللساني والاجتماعي عبر قناة تتمثل في الخطاب الدرامي لتتحول الفرجة إلى علامة تخترقها أنظمة وتشكلات هذا الخطاب النقدي وتتداخل فيه مجموعة من الآليات الرمزية والقوانين الاجتماعية، وهو ما يدعو إلى الإنصات إلى النص بغية مقارنته بالنصوص الموازية، لأن الخطاب النقدي يعيش على هامش المعرفة العقلانية، كما أنه ينتمي على المناطق القابعة خارج التعريف المغلق، لكون الدراسات التي تحمل على عاتقها مهمة مقاربة خطابه ، لا يتوجه إليه مباشرة باعتباره فاعلا يمتلئ بالروح الموضوعية، وإنما يتوسل أيضا بطرائق يهيمن عليها الطابع الاجتماعي المثقل بالأحكام والضوابط المنهجية الصارمة، مما جعل الاتجاهات النقدية والتحليلية التي تصدت لدراسة خطاب النقد المسرحي تراوح مكانها بين الاتجاهات السوسيولوجية والسيميولوجية والجمالية وقراءة ” برشيد” بدورها شكلت فضاءا خصبا للرصد والاقتراب من دلالة الأثر الجمالي والتلقي.

فقد سعى الباحث إلى الوقوف عند ابعادها الاجتماعية وشروطها النصية والتمسرحية، متجنبا في الآن ذاته مخاطر الغوص في متاهات النزوع التاريخي لنشأة لنقد المسرحي وتصوره ، يتبنى المستوى الاجتماعي لتحديد مكونات النص المسرحي في ابعاده وتعالقاته داخل البنية الاجتماعية، جاعلا من الطابع السوسيونصي محوا اساسيا لدراسته التي تنفلت قسرا من أسر البحث المتخصص ، ومتعمدا في الوقت ذاته على الدراسة ذات الفعالية التفكيكية التي تولي أهمية فريدة لثلاثة ابعاد تؤطر الخطاب المسرحي وهي : البعد الاجتماعي والنصي والنفسي. وهو ما يعني بلغة أخرى أن الباحث فتح وعيه على العلوم الغنسانية والتعبيرية وعلى المناهج النقدية ، من اجل إفراز الدرس الأنتروبولوجي خاصة على مستوى اللاشعور الجمعي أو على شاكلة ما يصطلح عليه ” بثقافة الفقر ” .

ولهذا نهضت دراسته على إستراتيجية جوهرية تكمن في الاستكشاف والرصد في محاولة للنزول إلى عمق مكونات النقد المسرحي المغربي داخليا وخارجيا، انطلاقا من ثلاثة مستويات: 

أولا: يقارب الوحدات الحتمية من خلال الوقوف عند أهم التيمات التي تشكل بؤرة التوتر.

ثانيا: يشتغل على الجانب المعجمي عبر تشخيص الوحدات اللغوية الكاشفة للتوجهات الثقافية والإيديولوجية ، مع التركيز  على الجانب السوسيولوجي .

ثالثا: يعتمد على التشخيص المشكلن للمتن المدروس عبر الالتفات إلى الأنساق السيكولوجية والثقافية المؤطرة لعالم الإبداع المسرحي والنقدي، دون فصل العالم النصي عن محيطه  الاجتماعي .

لقد شكلت هذه القراءة ومستويات اشتغالها هاجسا رئيسيا حفز الباحث عبد الكريم برشيد على اقتراح عدة عناوين ونماذج ناظمة لاختلاف الدرس المسرحي المغربي والعربي، مما أدى إلى ترصين وبناء المسالك للكشف والإظهار عن آليات تناسل المسرح داخل الخطاب النقدي .

فالباحثبرشيد  جعل المتون مطبوعة بمحددات وضوابط نقدية صارمة، تساهم في إبراز الخصائص الفنية والجمالية ، وكذا وضعها في سياق تعالقاتها الثقافية والاجتماعية التي بدونها تتحول العملية النقدية إلى أثر غير مجد .

وكل حديث عن المنهج النقدي، هو حيث يستمد مشروعيته من عناصر تشكله وانبنائه على مجموعة من الأدوات الحديثة والإجراءات المنهجية التي غيبها النقد القديم ، لأن النقد عند “برشيد” خلخل مجموعة من الثنائيات الكلاسيكية : الذات، الموضوع، العرض، الجوهر، الداخل والخارج ليجعلها تدرج ضمن الكتابة الجديدة. فكل قراءة للمسرح هي قراءة غير بريئةـ، بل هي ملطخة بمجموعة من الأسئلة التي لازالت عالقة في الساحة الثقافية، ومن بين هذه الأسئلة : هل الذات العربية قادرة على استيعاب المناهج ؟ وهل استطاع عبد الكريم برشيد أن يؤسس رؤية نقدية لمواجهة هذه التيارات الفلسفية والإبستمولوجية بكل خلفياتها الإيديولوجية؟ وما هي القراءة الصالحة للمسرح؟ وهل العرب يملكون مناهج مستقلة عن الغرب؟ وكيف وظف ابن زيدان المنهج السوسيولوجي؟ وهل استطاعت الكتابة النقدية العربية أن تستوعب شروط الفعل التاريخي؟

هذه الأسئلة عبارة عن أطروحة يحاول ” برشيد ” أن يجيب عنها في مختلف مقالاته وكتبه ، جاعلا من تنوعه الثقافي والفلسفي أرضية تخضع لشتى التأويلات والتخريجات ، منها أولا ربط المنهج بالداخل والخارج ، ومنها ثانيا ربط المحكي بالتحولات السياسية والاجتماعية، وأيضا ربط القراءة بالمنهج المطروح البنيوي التكويني. تبدو هذه التأويلات خارج الفعل النقدي العربي القديم ، وتتقاطع مع كل القراءات البسيطة التي تنسخ سابقتها وغايتها هو تأسيس أتفق لقراءة عاشقة وحميمية لا تنأى عن المناهج، بقدر ما تتعامل معها وفق شروط النص المسرحي، لان القراءة الحقة هي تلك الممارسة الفاعلة التي تعتبر النقد قيمة جوهرية يقول “عبد الله الغدامي” : »  إن النقد ليس مهارة علمية تجريبية خالصة، وإنما هو مهارة ذوقية راقية، دعامتها الأولى في الذوق السليم، وحصافتها في القاعدة المختبرة، وهذان المبدآن هما فعالية القراءة الواعية للأدب . «  فالممارسةالبرشيدية النقدية هي عشق النص الإبداعي وإبراز مفاتنه ولكشف عما يقوله وما لا يقوله .

والنقد ضامن لحياة النص، وبقدر ما يكون كلام هذه الممارسة يكون التواصل حاصلا، ومهمة الناقد حسب “إف.آر.ليفس” هي تطوير» استجابة جيدة للتجربة المحسوسة التي يقدمها النص وليس التورط والإشتباك في القضايا النظرية، مخافة ردم شفرة الاستجابة « تتأطر هذه القراءات ضمن هاجس النصوص من وجهة نقدية، لان النص المسرحي البرشيدي محكوم بمدى قدرته على تلقيه من طرف القارئ، ومدى اختياره لمنهج دون آخر. اختيار له مشروعيته ومسوغاته يقول “يونغ” :» عندما ندع العمل الفني أن يؤثر فينا كما اثر في الفنان، فلكي نفقه معناه ينبغي لنا {…} نسمح له أن يشكلنا مثلما شكل الفنان من قبل وعندئذ نفهم طبيعة خبرته « . فهذه مقدرة نقدية وثقافية لا تهيؤ إلا للناقد المبدع، هكذا يكتسب النص الموازي قيما جديدة تتنوع من ناقد إلى ناقد، لتضيء جوانبه ولو تناقضت فيما بينها، ولا تعدو أن تكون لغزو النص والدخول إلى باطنه. لأن النص تشكل لغوي يتم عن ما يقول ويبطن أكثر مما يظهر ” حتى صار التعامل معه علما إنسانيا ينهل من كل معارف الإنسان من اجل أن يفهم الإنسان ذاته من خلال لغته، وكل كنز مخبوء في الكلمة (النص)” . هذه النظرية البرشيدي تقترن بنظرة واقعية تستبعد كل المقولات التي لا تسكن الوضع التاريخي الجديد، لتقترب من حركة المجتمع بكل قيمه الحضارية والاجتماعية والتاريخية، لأن هذه القراءة تستند إلى موضوعات اجتماعية،ـ أي إلى موضوعات لها وظائف ووضع اعتباري داخل المجتمع، ولها شكل معين من أشكال الحضور الاجتماعي، ومن ثم فإن الوعي الواقعي يعطي لهذا الواقع عنوانه الحضاري ومزاجه النفسي والاجتماعي ليخترق شتى أبنية الفاعلة، لأن البعد الدرامي يطهر أصلا للواقع لكنه بالمقابل ما هو الصحيح بالمقابل يجب أن يكون كمعطى تابع له؛ وبالتالي لا يرى كانقطاع في الزمكان وفي المجتمع بل ليتسنى موضعته وضبطه من قبل مرجعيته تاريخية أخرى.

وهذا الحضور التكويني للنقد في طيات الواقع الإنساني ينطوي على التباس شديد، فهو يؤكد أصالته الدرامية وبالتالي ديمومته وحركيته، هذه الحركية قادرة على استيعاب آفاق حركة الفرد والجماعة ومواكبتها في كل ما تطرحه من اسئلة. ففي ذلك يكمن سر الثبات الذي يغلق هذا المنهج في اطواره المندمجة إلى آفاق مهيمنة على حركة الوقائع التاريخية وأشكالها المتجددة، إنه يشير على المناخ الفكري المتكلس الذي يحتضن مختلف تموجات المذاهب والنظريات التي تطرح نفسها عنوانا معرفيا للمجتمع برمته. لان الوظيفة النقدية تفتقد مصداقيتها في اللحظة التي تعلن نفسها إيقاعا مستقلا عن حركة الواقع العربي والمغربي، فهي تستمد دلالتها المتميزة لترسم قراءتها بقدر ما تبقى جزءا لا يتجزأ من بنيان الواقع نفسه 

عن المقولات المهنية في متونه تقوم على تصور بسيط، لتملك قدرة كبيرة على التركيز على الدلالة المتعددة كذا على التسلسل الامنطقي الذي يتجاوز حدود ذاكرة المتلقي. من اجل أن يفكر في الحقيقة والحاضر هكدا يدعو برشيد إلى فكر متواصل الذي فيه أن المعرفة العربية لا تستطيع أن تنفصل عن أسسها القمعية والإقصائية ألا بفضل الديموقراطية التي تكون كذلك مزدوجة “لتقابل المنظومة العربية بخارجها الامفكر فيه، وتعمل في ذلك الوقت على تجدير الهامش، ليس فقط عن طريق فكر يستعمل اللغة العربية كأداة وغنما باتجاه نحو فكر مغاير، يتكلم عدة لغات ويصغي لأي كلام أينما كان مصدره”

 إنها محاولة للنزول الى عمق مكونات النقد المسرحي المغربي داخليا وخارجيا، فبرشيد فتح نسقا مفتوحا كمصدر طاقي، يتوقف وجوده على كل المواقع والأحداث الاجتماعية، برؤية نقدية توحد بين الفكر والواقع، وترفض كل تجربة لا تستند على مبادئ النقد والقراءة، طرحت كضرورة ووحدة مستحيلة وغير مفهومة داخل الإطار الجدلي الذي يؤسس التخصصات الكبرى ليطابق الجوهر مع التطور المسرحي، إن القراءة المركبة هي القادرة على تصحيح المواقع، والتاريخ المسرحي، والتأصيل المنهجي لأنها تعمل على اختزال العالم الممكن داخل بنيات متعالية وعذرية كليانية يتم تحيينها في أنوية دراماتيكية أو في شعريات تاريخية حداثية وتجريبية.

انجاز:

د: الغزيوي بوعلي

دة: بن المداني ليلى

فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى