خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (8)

فتحي محفوظ | ناقد مصري


القصيدة السادسة: اَلتَّحَرُّقْ

دائما ما أخاف ركوبَ الأسانسيرِ
أصعدُ في الدرجاتِ التي تتتالى وأنهجُ
أسند قلبي بكفي
وأرتاح بعضا من الوقتِ في بسطة الطابق الخامس المستديرةِ
أمسح عن جبهتي عرقي المتهطلَ باليدِ
أسند كوعي على شرفة المنورِ الداخليِّ
أراقب حبل الغسيلِ
وجريَ القطاط إلى سلةٍ للقمامةِ
زفرةَ إمرإةٍ تتعرى وراء الستارةِ
تأخذ حصتها من ملاحقة الذكرياتِ
أُنَفِّضُ كُمَّ القميصِ
أواصل خطوي على الدرجاتِ
أشد الدرابزين في مهلٍ وأصعِّد رجلي
ولكنهم دفعوني لباب الأسانسير
كانوا كثيرين يزدحمون لكي يصعدوا
وأنا أتلفَّتُ أبحث عن مخرجٍ
وإذا بي وجها لوجه أمام الأسانسيرِحتى دُفِعتُ إلى جوفه
انغلق البابُ
دارت بي الأرضُ
كنت أشد القميصَ
وأنظر في أعين الراكبينَ ولكنهم لم يرونيَ
في الطابق الثالثِ انسل منا عشيقان مشتبكين
وفي الطابق السابع الشيخُ والطفلُ وامرأتان
وفي الطابق العاشر اندفعوا كلهم
أنا حاولت أتبعهم
غير أنهمُ أغلقوا الباب
كانت مرايا الأسانسير تعكس وجها غريبا
تُبَيِّنُنِي لي عجوزا
وكنت أدق: افتحوا الباب
كان الأسانسير يصعد
يصعد
أخبط رجلي على الأرض كي يتوقف
لكنه ظل يصعد
حتى تكورت في الركن
حتى ضممت ذراعيَّ في ركبتيَّ
وحين نظرت من الفرجة المستطيلةِ
لم أجد الدرجات التي تتتالى
ولم أجد البهو
لم أجد الناسَ
كان الأسانسير يترك سطح البنايةِ
يترك سطح البنايات أجمعها
صاعدا بي
رأيت المجرات تعبرني
والنجوم العرايا
رأيت الغيوم مفتتةً تتقاطرُ
والنارَ محروقةً يتقرب منها الأسانسيرُ
ها هو يدخل فيه
ووحدي.

الارتقاء حتى الفناء

من ديوان طرف من أخبار الحاكي للشاعر الكبير السماح عبد الله، قصيدة مميزة بعنوان التحرق، ونحن كعهدنا به نتحرق شوقا لمتابعة أناشيد السماح عبد الله الثرية. في الصورة رجل يعاني من رهاب المصاعد:
” دائما ما أخاف ركوبَ الأسانسيرِ
أصعدُ في الدرجاتِ التي تتتالىوأنهجُ
أسند قلبي بكفي “
ورهاب المصاعد جزء من الصورة المرسومة، والشكل يؤرخ لحالة رجل يصعد درجات السلم، وقد أنهكه مرض عضال في القلب. ثمة تكثيف في اللوحة، فعلامات الإنهاك تفصح عن تأكيد الحالة الصحية للرجل العليل وهو يصعد درجات السلم، وفعل الصعود يبرز من بين الكلمات كما يبرز لون حالك في صفحة ناصعة البياض، اما علامات الجهاد في الصعود فقد بثها النص الرشيق: عرق, وإسناد الكوع علي شرفة منور:
” وأرتاح بعضا من الوقتِ في بسطة الطابق الخامس المستديرةِ
أمسح عن جبهتي عرقي المتهطلَ باليدِ
أسند كوعي على شرفة المنورِ الداخليِّ “
علامات أخري يطلقها النص كالشرارة، وهي العلامة التي ترتبط بتعداد الطوابق. الرجل يصعد وهو يمني النفس بالوصول الي مرحلة يستريح فيها علي بسطة الطابق الخامس. علينا أيضا أن نولي اهتمامنا بالعلة المرضية المصاحبة له، وبتعداد الطوابق التي تعين عليه أن يصعد إليها حتي يصل إلي بسطة الطابق الخامس، وكذا علامات الجهد من العرق والاستناد بالكوع فوق سياج شرفة المنور:
” أراقب حبل الغسيلِوجريَ القطاط إلى سلةٍ للقمامةِ
زفرةَ امرأةٍ تتعرى وراء الستارةِ
تأخذ حصتها من ملاحقة الذكرياتِ
أُنَفِّضُ كُمَّ القميصِأواصل خطوي على الدرجاتِ “
يواصل النص دفع دقائق الصورة بشكل ارتجالي: حبل غسيل ممتد حذاء العين المراقبة. قطط تبحث عن طعام في سلة القمامة. امرأة تتعري خلف الستار، والفعل المدون يتجاوز إطار الشكل ليلاحق عري المرأة المتسترة بطيف من ذاكرة مبهمة، لتأخذ الصورة مسارها المرسوم بعناية فائقة. متابعة الصعود فوق درجات السلم ابتداء من الطابق الخامس، وذلك في الوقت الذي انتهي الرجل فيه من تنفيض كم قميصه المترب من سياج الشرفة، وانتهاء الشكل داخل الإطار بالتقاط الرجل لأنفاسه:
” أشد الدرابزين في مهلٍوأصعِّد رجلي
ولكنهم
دفعوني لباب الأسانسير
كانوا كثيرين
يزدحمون لكي يصعدوا ”
حركة صعود الرجل علي مهل، يواكبها حركة انفعالية لهبوط الدرابزين بفعل الشد، والصعود بالساق دون الجسد علامة فارقة علي الإنهاك، وهي العلامة المبررة لفقدان إرادة الصعود، ومن ثم بروز فعل الدفع جبرا بالجسد المنهك العليل الي داخل الاسانسير، ثم تبربر الانزلاق الحتمي إلي بوابة الصعود إلي الاسانسير, يهيئ للوحة الرسم طاقاتها الانفعالية في ذلك المبرر لتواجد الزحام, اللوحة الآن تزدحم بشخوص غير معرفة بالاسم
” وأنا أتلفَّتُأبحث عن مخرجٍ
وإذا بي وجها لوجه أمام الأسانسيرِ
حتى دُفِعتُ إلى جوفه
انغلق البابُ “
تحتوي اللوحة علي عناصرها المرسومة بعناية: رجل عليل يعاني من علة في القلب, يعاني من رهاب الأماكن والأبواب المغلقة والصاعدة علي أوتار غليظة من السلك, يحيط به ازدحام بشري بغاية الصعود إلي أعلي، فيما يبحث الرجل عن منفذ للخلاص من مصيره المحتوم بالصعود في ظل غياب الإرادة للحركة قدما الي أعلي البناية. عادة ما يجد شاعرنا الكبير السماح عبد الله متنفسا في تلك الأماكن الضيقة والمحصورة داخل حيز منغلق:
” دارت بي الأرضُ
كنت أشد القميصَوأنظر في أعين الراكبينَ
ولكنهم لم يرونيَ
في الطابق الثالثِ
انسل منا عشيقان مشتبكين “
يواصل المصعد ارتفاعه قدما إلي أعلي البناية،حتى يصل إلي الطابق الثالث، فينسل من بابه عشيقان في وضع الاشتباك العاطفي. سنة مرصودة عندما يبلغ المصعد ارتفاعه الثالث في الطوابق، تدور الأرض بالرجل بفعل ذلك الرهاب والتصاعد جبرا دون ارادة:
” وفي الطابق السابع الشيخُ والطفلُ وامرأتان
وفي الطابق العاشر اندفعوا كلهم
أنا حاولت أتبعهم
غير أنهمُ أغلقوا الباب “
محطات الوصول لا ترتبط بسنوات العمر، لأن اللوحة لا تزدهر بذلك التركيب الهرمي لطبيعة النزول، باعتبارها هروبا من أزمة الصعود قدما: الرجل الثلاثيني أولا, بعد ذلك يتبعه شيخ وطفل وامرأة يتسابقون في النزول عندما يصل المصعد الي الطابق السابع. في الطابق العاشر ينتهي سباق النزول بعيدا عن صندوق المصعد، ليصبح الرجل داخل اللوحة منفردا، بعد أن أعياه الخروج من إطاره، بعد ان قاموا بإغلاق الباب. يحتل العجز عن ملاحقة سباق الخروج من إطار المصعد علاماته الفارقة في تاريخ حياة هذا الرجل:
” كانت مرايا الأسانسير تعكس وجها غريبا
تُبَيِّنُنِي لي عجوزا “
يتأمل الرجل وجهه في المرآة،وتصف اللوحة الرائعة ذلك الفعل بملاحقة تفاصيل وجه الرجل، فإذا بها تفصح عن ملامح وجه رجل مسن، مذعور،أعياه المرض، وهده رهاب الصعود إلي أعلي، مخترقا سنن الحياة:
” وكنت أدق:افتحوا الباب
كان الأسانسير يصعديصعد “
لتستمر اللوحة في رصد الحركة الدائبة إلي أعلى:
” أخبط رجلي على الأرض كي يتوقف
لكنه ظل يصعد
حتى تكورت في الركن
حتى ضممت ذراعيَّ في ركبتيَّ “
والذعر الإنساني يتجسد داخل اللوحة في طريقة إعادة مشهد الرجل العجوز المثقل بأمراضه، والذي يعاني من الرهاب، وبذا يتميز وجود الرجل داخل المشهد في طريقة وضعه وتصنيفه: التكور في الركن، وضم الذراعين الي الركبتين في الوضع الجنيني، لبدء دورة الحياة:
” وحين نظرت من الفرجة المستطيلةِ
لم أجد الدرجات التي تتتالى
ولم أجد البهو
لم أجد الناسَ “
في هذا الوضع الجنيني،يختفي من اللوحة تواجد الإنسان وأشيائه. البهو ودرجات السلم. تري ما الذي يبقي داخل المشهد العدواني. والإجابة المنتظرة. لن يبقي شيء سوي الصعود والحركة إلي أعلي:
” كان الأسانسير يترك سطح البنايةِ
يترك سطح البنايات أجمعها
صاعدا بي
رأيت المجرات تعبرني
والنجوم العرايا
رأيت الغيوم مفتتةً تتقاطرُ
والنارَ محروقةً يتقرب منها الأسانسيرُ
ها هو يدخل فيه
ووحدي. “
والحركة تترك الأرض لتتجاوز نطاقها إلي السماوات الواسعة الملبدة بالغيوم، حيث ترصد اللوحة أفول سطح البناية واختفاءه بفعل الصعود، ومرورا بالمجرات والنجوم، حتي يصل المصعد الي منطقة النيران المحترقة، وعندها يصبح الرجل العجوز ممهورا بتوقيع الموت الذي لا مفر منه .
الله علي تلك الصورة وهذا الإبداع. الدراما في هذا التكوين ذات صلة بالشكل العام للقصيدة. إنها دراما تنغلق علي المكون الجدلي للحياة والموت في إطارهما الصارم والمحدد بالدوافع والأسباب، بحيث تكون حركة ارتقاء المصعد، هي الحركة الدالة علي سير الحياة داخل إطارها العام،إلي أن تحدث الوفاة، أو إلى أن يئون أوان التحرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى