مذكراتُ رصاصةٍ طائشةْ

إيناس رشيد | سوريا

دخلنا المدينة في ساعات الصباح الباكر، لازلت أذكر ملامح هذه المدينة الناعسة – إذ إن الساعة لم تجاوز السادسة صباحاً. 

الجو ضبابي، والأحلام البريئة تحوم حولنا، لكنها لم تمنعنا من المضيّ قُدماً. 

دخلنا المنازل غفلةً، كنت أشاهد تلك المناظر الدموية مُكرهة، تلك الوجوه المذعورة، والعيون المعاتبة، المتماسكة حد الغثيان…!

بالمقابل، ورغم قربي من صدر حاملي، إلا أني لم أكن أسمع له نبضاً!!

عشر دقائق مضت، الدماء في كل مكان والسواطير – فلستُ أعرف لها اسماً آخر – تقطر دماً لا يزال دافئاً. 

بعدها بدأت أسمع أصوات الرصاص في كل مكان… 

بدا لي كل شيء أشبه بكابوس، كنت أضعف بكثير من أن أبدي رأيي بما يحدث، وفجأة وجدت نفسي على الطريق وحيدة، معلقة في الهواء بين الحياة و الموت، بين الزّيْف والحقيقة. 

فالموت يظل الحقيقة الوحيدة على مر التاريخ، ورغم كثرته، إلا أنه لم يتحول إلى أضحوكة! 

لعله دوار النهايات!!

ذلك الدوار الذي يصيبنا لحظة ترقّبنا الموت. 

بدا الطريق طويلاً، كنت أستنشق رائحة الدماء الممزوجة بالبارود، الوجوه من حولي بلا ملامح، وأصوات الصراخ والنحيب والصلوات رغم صخبها، لكنها لم تثقب السماء، ولن!

ارتطمتُ بعدها بأحدهم، كان ذلك سريعاً ومفاجئاً، ومؤلماً لدرجة أني لم أستوعب ذلك إلا بعد استقراري في قلبه.

هل اخترقت قلبه حقاً؟

كيف ومتى!!

كنت حائرة، خائفة، وأرتعش برداً، إلا أن المكان هنا دافئ…

دافئ جداً! 

اخترقت قلبه تماماً مثلما قدمت إلى هذا العالم، دون قصد، ودون حتى أن أُسأَل!!

في قلبه التقيتُ أسرة صغيرة، مكوّنه من امرأة سمراء نحيلة تحمل رضيعاً حديث الولادة فيما يبدو، بجانبها طفلة صغيرة لم تجاوز العاشرة من العمر..

بصقوا في وجهي جميعهم!

حاولت الخروج والعودة من حيث أتيت، لكن البندقية باردة، موحشة.. 

وأنا منهكة! 

تذكرت حديث إحدى زميلاتي قبل قدومنا بيومين وهي تتحدث عن المسؤوليات المترتبة علينا وتوقها لبلوغ جسد ما، لا يهم إن كان طفلاً أو طاعناً في السن، لتقاطعها أخرى مبديةً إعجابها بالأجساد الصغيرة، الطريّة والمتوردة.

كان الحديث مقززاً، وقد لزمت الصمت خوفاً من الصدأ!

بل ولأكون أكثر دقة أغمضت عيني و بدأت أحلم. وكما كل الأحلام التي مصيرها الوأد، أنا هنا اليوم في قلب شاب أربعيني فيما يبدو، وقد بدأ يزول عني الخوف و الرعب، وبدأت حرارة جسدينا بالتقارب إلى أن أصبحنا جسداً واحداً، جسدا بارداً يميل للزرقة. 

بل وإن صح التعبير تحولنا من وسيلتين إلى وسيلة واحدة..

لم تعد ذي نفع الآن، انتهت منا الحرب! 

انتهت منا الحرب والبدلات السوداء والطاولات الملمعة والياقات والبطون المنتفخة.

انتهت منا كلّ الألسنة الكاذبة!!

إن وجهك قبيح أيها الموت، لكني لن أستغيث. بالطبع!

لا أريد أن أرى وجه الحياة اللعين مرةً أخرى، يكفيني ما رأيت منها حتى الآن..

فلتغفروا لي جميعاً، أرجوكم.. فلتغفروا لي!

ما لم يكن ذنبي، ما حدث دون قصد. 

ولتغفروا للحياة أيضاً، إذ يبدو أن تلك الأخرى أيضاً

بكل ما فيها.. 

 

قد حدثت.. دون قصد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى