رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها وفاء كمال (5)

(سحمر ) قاع الدم الأول ( 5 ) 

في ذلك المساء الذي اختفى فيه ياسر ..لم يعد يظهر(لبنان منعم) أيضاً، ولم يخرج صديقهما ” الأمين ” الذي كان ينتمي لحزب ٍ آخر _ إلى درب ” الكرُّوسة ” أو درب العشاق كما يسمونه في القرية ؛ بل ظلت ” سراب ” عشيقة الأمين تنتظره تحت الشجرة الكبيرة كالعادة؛ ولكن دون جدوى . بينما “الأمين” في غرفته يقطعها ذهاباً وإياباً وهو يضع قشة في فمه الصغير، ويقلِّبُها بلسانه كعادته وراحت أمه تفتح عليه الباب بين لحظة وأخرى لتجده بحالة من القلق والتوتر .فتنسحب بهدوء دون أية كلمة، ثم تغلق الباب خلفها.

كان الأمين يفكر بمصير شباب القرية الذين يختفون فجأة . تساءل عن ياسر أين ذهب؟ وأين اختفى؟ فكَّر أن يصل إليه ولكن كيف؟ لمعت في ذهنه فكرة ارتجف لها جسده . ” حازم ” هو الذي يستطيع أن يصله بالجميع .فهو يعرف أخبار الجميع ويتقصى عنهم، حتى لو كانوا ينتمون لحزب آخر. وهو أول من دعا للمقاومة والإستشهاد وهي كلمات سبق أن رددها هو وإخوته وعائلته قبل أن يختفي الجميع ويصبحون مصدر رعب للإسرائيليين وقوات لحد” التي تعاملت معهم.

انطلق الأمين من الباب بسرعة . كانت أمه تنكش التراب حول غرسة صغيرة في حديقة المنزل  فهتف لها ضاحكاً: قد أتأخر هذه الليلة يا أمي . فهزت الأم رأسها علامة الموافقة محاولة إخفاء قلقها وقالت: انتبه لنفسك ياولدي فالإسرائيليون غدَّارون. فقد كانت الأم تعرف تماماً مايفكر به. وكان القلق يدمرها .لكنها تعرف أن الأمين عنيد لا يستطيع أحد أن يثنيه عن قراراته .
قطع “الأمين” الطريق القصير المؤدي إلى درب العشاق، وكلمات “حازم” وتعليماته ترتطم بجدران رأسه. وما أن وصل إلى الكرُّوسة حتى لمح “سراب” بقوامها الفارع، ووجنتيها الورديتين كثوبها الأحمر المزركش بألوان ريفية جميلة. فخفَّ إليها وهو يكاد يطير من الفرح. لم يترك لها مجالاً للأسئلة.. كان مكتظاً بالكلام والحديث يكاد يخنقه. فبدأ يتكلم كما لو كان يتقيأ. لم تفهم “سراب” شيئاً سوى أن مرتزقة لحد يبحثون عنه، وأن عليه أن يلتقي بحازم للوقوف عند آخر التطورات، وإن صديقه كرار مريض، ولايستطيع دخول منزل أهله لأن العدو يبحث عنه .
كانت سراب تستمع له بِحَيْرَة كبيرة؛ فالأمين الهادئ الصامت يفيض الآن حيوية ورجولة. أحست أنها تحبه أكثر من ذي قبل وأنه قريب منها واكتشفت أن الحرب تُنْضِج كل شيء قبل أوانه . حتى الحب يصبح له طعم آخر . وضعت يدها على فم ” الأمين ” تريد أن توقفه عن الحديث الهادر الذي يلفها به كأنها تريد اكتشاف ما استجد فيه. وحين توقف قالت له : يا إلهي يا أمين ..لقد كبرنا !!
ـ الحرب هي التي كبَرَتْنا.
ـ الحرب تغير كل شيء ياأمين ،وتمنحه طعماً آخر.
كان الأمين يخاطبها وهو يلهث قالت سراب :
ـ ماذا بك ياأمين ؟ لماذا أنت متوتر ؟
ـ لاشيء ياسراب. بلادنا تحت الاحتلال ونحن يجب أن نقاوم هذا الإحتلال ..نحن المسؤولون عن استمراره أو انتهائه. بصراحة لقد قررتُ أن أنضم للمقاومة. لأنه لاسبيل سواها لتحرير الأرض والقضاء على مرتزقة لحد فهم لبنانيون بالإسم فقط .
إن طريق المقاومة هو الطريق الذي كان علي اختياره منذ البداية ،كي نستطيع العيش بكرامة .لقد دقت ساعة التنفيذ
قالت سراب: ومَدْرَستُكَ يا أمين ؟ أنت تستطيع أن تناضل من خلال دراستك وشباب البلدة كثيرون..فلماذا تريد أن تورط نفسك؟ هذه إسرائيل يا أمين والعين لاتقاوم المخرز .
ـ لن أتورط بالأعمال العسكرية سأكتفي بالنضال السياسي؛ ولكن أصدقاءك قد تورطوا وكانت النتيجة مغادرتهم للضيعة وتركهم للثانوية
ـ لأنهم تصرفوا دون تخطيط.
أنا سأقوم بدورياسر داخل الضيعة ولن أخذله مادام يعمل ضد العدو.
ـ وماالمطلوب مني ياأمين ؟ألهذا طلبتَ رؤيتي ؟
ـ أريد ان تساعديني بهذه المهمة .
ــ لا..أنا لاأستطيع أن أعمل شيئا. فلو علِمَتْ والدتي ستقلب الكائنات فوق رأسي. ولأرسلتني لعند أبي إلى بيروت ولايعود بإمكاني رؤيتك .
ـ طيب أريد ان تخبري ” زوبا ” أن ( الصل ) قد أرسل لها أمانة معي .
ـ قالت سراب: وماقصة كرار؟ الجميع يقول إنه مريض ..أين هو الآن ؟
ـ لاأريد أن أتحدث بهذا الموضوع، فصديقتك نورهان تنتظر زلَّة لسان منكِ. وتستغل طيبتكِ لتنتزع الأسرار .. أنا لا أثق مطلقاً بهذه المرأة ..وقد حذَّرْتُك منها مراراً وقلت لك :إنها تلتقي بعناصر لحد وهم عملاء للإسرائيليين.لكنك لاتريدين أن تصدقي .
هي تلتقي بجوني فقط وأنت تعلم أنها تحبه قبل أن تحتل إسرائيل القرية .
_ ولأنها تحبه فسوف تشكل خطراً على المقاومة قد يستغلها لتسريب أخبارنا. أرجوكِ اختاري بيننا
ـ أنت تخفي عني امراً يا أمين ..هل تعمل مع المقاومة؟
ـ لاتسأليني كثيراً أرجوكِ إذا كنتِ تحبيني . الوقت ليس ملائماً الآن للحديث بهذا الأمر . هزَّت “سراب” رأسها علامة الموافقة . ولم تشأ ان تكثر من الأسئلة لأن وقوفها قد طال مع الأمين وبات يسبب لها حرجاً . نظرَتْ إلى الأمين نظرة عتاب عميقة وقالت : سأمضي إلى ” زوبا ” ولن أتدخل بشيء آخر بعد الآن مادمت لاتثق بي . لقد بدأت تخيفني يا أمين .
لم يعلِّق الأمين على كلامها، وتركها تغادر وهو يتابعها بنظراته حتى تلاشى آخر أثر منها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى