مقال

أُسطورة اللص الفاضل!

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
تذكر الصحف المصرية مطلع ستينيات القرن الماضي أنَّ لصاً سفاحاً يدعى (محمود أمين سليمان) ارتكب ١٤ جريمة قتل مقترنة بالسرقة، وشغل الرأي العام عام ١٩٦١م. ظلت الشرطة تلاحقه إلى أن نجحت في محاصرته في جبال القلعة في حلوان لمدة ٧٥ دقيقة وأطلقت عليه ١٧ إطلاقة فأردته قتيلاً.
لقد ظهر هذا المجرم في أوج قوة السلطة في مصر فشكل تحدياً لها، وقد وصف بالمجرم المثقف فقد اتخذ دار نشر له وسيلةً لتبييض أمواله التي يسرقها من بيوت الأثرياء في الإسكندرية والقاهرة، وكانت له صداقات مع عدد من الشخصيات الفنية والثقافية من بينهم عبد الحليم حافظ، والشاعر كامل الشناوي، والكاتب مصطفى أمين، وغيرهم.
بل حتى في الزنزانة التي سجن فيها كانت له علاقة مع الشاعر أحمد فؤاد نجم، ولم يكن يستثني أحداً من النجوم من سرقاته فيقال إنَّ شقة أم كلثوم لم تسلم من إحدى غزواته !
يذكر الكاتب سعد الدين وهبة في مقال له أنَّ محمود أمين سليمان قبل أن تذيع شهرته انتحل اسم المفكر (محمود أمين العالم) مستغلاً تشابه الاسم !!
والغريب أنَّ الشرطة حين حاصرته قبل أن تكتب نهايته طلب منهم أن يحضروا له ورقاً أبيض لأنه يريد أن يكتب مذكراته،وكذلك طلب أن يقابل الكاتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة الأهرام وقتها الذي كان مسافراً مع الرئيس جمال عبدالناصر في زيارة إلى باكستان ! وقد نشرت الصحف خبر زيارة الرئيس معطوفاً على خبر مقتل السفاح مما تسبب للصحف بمشكلة مع الجهاز الأمني !
لقد حوَّلت الصحف المصرية ذلك المجرم إلى أسطورة، فهو ينسل من قبضة الشرطة بسهولة كما أسبغت عليه صفة اللص الفاضل الذي يسرق من الأثرياء ليوزع المال على الفقراء كأمير الصعاليك عروة بن الورد، أو الشخصية الإنكليزية الثائرة في العصور الوسطى روبن هود، وشتان بين ذاك وهذا. لقد حظي محمود أمين سليمان بشعبية صيرته بطلاً حتى بعد مقتله فقد رفعت منطقته (محرم بك) وسط الإسكندرية لافتة مكتوباً عليها (عاش بطلاً ومات بطلاً).
هذه القصة الحقيقية بما فيها من تشويق وإثارة عولجت في أكثر من عمل منها رواية (السؤال)/١٩٧٩م للكاتب الأردني غالب هلسا (١٩٣٢ ـ ١٩٨٩) الذي عبر عن الشخصية الرئيسة بـ(السفاح) وصديقته (تفيدة) والمحامي (مصطفى) وهم مثلث الأحداث، وقد عايش الواقع المصري ثلاثاً وعشرين سنة وحمَّل الرواية أفكاره الماركسية.
بعد شهور من مقتل المجرم السفاح سأل القاص والروائي يحيى حقي(١٩٠٥م ـ ١٩٩٢م) الكاتب نجيب محفوظ عن قراءاته وعما يشغله في تلك المدة ؟ فأجابه محفوظ: لا شغل ولا تفكير إلا في (محمود أمين سليمان)، وهكذا قدم نجيب محفوظ رواية (اللص والكلاب)/١٩٦٢م طارحاً رؤيته تجاه ما جرى ويجري في الواقع المصري مع إشارات نقدية لا تخفى على القارىء .
كانت معالجة نجيب محفوظ (١٩١١ ـ ٢٠٠٦) في روايته مقاربةً للرأي العام، ومتعاطفةً مع الشخصية الرئيسة فهو يجعل سعيد مهران سيىء الحظ، فاقد الثقة بالناس لاسيما أقربهم له زوجته (بطة) وصديقه التابع الخائن (عليش) وكذلك معلمه ذو الآراء الاشتراكية الصحفي (رؤوف علوان) الذي كان يتعاطف معه في بيت الطلبة قبل أن يتنصل عن متبنياته ويصبح من الطبقة الثرية ، ولم يقف معه في محنته إلا شيخ المسجد ، والمعلم (طرزان) ، وفتاة الليل (نور).. ما عدا هؤلاء فالإدانة شملت المجتمع كله، وقد وصف الناس بالكلاب، وهو تعبير فيه تجنٍ كبيرٌ من شخص غير سوي خارج عن القانون والمجتمع .
لم تغب هذه الرواية عن عيني المخرج كمال الشيخ (١٩١٩ ـ ٢٠٠٤) المتأثر بأسلوب المخرج البريطاني ألفريد هيتشوك فعالجها سينمائياً بالعنوان نفسه سنة ١٩٦٢م، وقد اشترك في كتابة سيناريو الفلم المخرج مع نجيب محفوظ وصلاح جاهين وصبري عزت، وجسد الشخصيات شكري سرحان، وكمال الشناوي، وشادية، واللافت أنَّ الشاعر صلاح جاهين ظهر ممثلاً في دور المعلم طرزان !
احتل فلم (اللص والكلاب) المركز الخامس عشر في قائمة أفضل مئة فلم في ذاكرة السينما المصرية حسب استفتاء النقاد بمناسبة مرور قرن على عرض أول فلم سينمائي بمدينة الإسكندرية (١٨٩٦ ـ ١٩٩٦م)
لكنَّ الاستفتاء بدأ من أول فلم من إنتاج مصري وهو فلم (ليلى) الذي أُنتج سنة ١٩٢٧م.
والسؤال المهم : هل كان أداء الممثل العملاق شكري سرحان (١٩٢٥م ـ ١٩٩٧م) متقناً إلى درجة جعلت المشاهدين يتعاطفون مع شخصية سعيد مهران كلياً وينسون جرائمه أم أنَّ الشعور بالظلم وغياب العدالة الاجتماعية كان طاغياً وجد في هذه الشخصية الإشكالية تمرداً مطلوباً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى