متاهة

سمير الجندي | فلسطين

كانت زهرة الياسمين البيضاء تئن وتشكو غياب الفتى. وقد كنت أعلم أن تربية الياسمين أكثر إلهاما في معرفة قلب الإنسان. وعندما أدركتني الشيخوخة رأيتني سعيدا بما أكسبتني حركات الطبيعة التي لا يعرف عنها العلماء.

فهل جميع الأفكار صالحة للاستعمال؟ فخطاب الأحفاد يجب أن يكون بعيدا عن التعقيد. فالأطفال لا يحبون الشيخوخة. فلن أسبب لهم إزعاجا أبدا… وما مررت به في سنين عمري بين المد والجزر. وبين الفرح والقهر. فقد كانت مناجيات قلبي تعيضني عن شرور الغير… وذاك الشيخ الذي صدمني بأقواله وممارساته تركت في نفسي انطباعا يدور بين ركبتي ومعصمي وعيني..

فالثموا يد ذاك الشيخ الذي كذبني، وفي ظنه حرمني أن أشرب من ماء الكوثر ولن أشاطر أهل الفردوس بالحور العين، ولن أكحل عيني برؤية رضوان… لا مناسبة للقول والقيل. كان يجب أن لا أستهين به… بين ذلك الشيخ وساقي الحانة بونا شاسعا.

وإني لأكرم ساقي الحانة لأنه أسعدني بكلامه المعسول وغيبني عن وجودي وسخرني لخدمة بلاط الفقيه… ونتيجة استرضاء الساقي الحكيم. فقد أغفلني عن ذاتي وقلب حياتي رأسا على عقب… انحنى رجل عجوز ليلتقط أعقاب السجائر المرمية على قارعة الطريق.

راقبت انحناءاته الكثيرة وكلما ضم بكفه ما استطاع جمعه يضعه في جيب معطفه المتهالك… ثم وقف ليستريح قليلا وليتناول شيئا من طعام كان يحتفظ به في أحد جيوبه… ليس بعيدا عن هذا العجوز البائس وقفت مندهشا بما ارى… فقررت أن أقدم له بعضا من المال لعلني أعينه على ما ابتلاه الله من عجز وفقر…

مددت يدي له بالمال فلم يمد يده.. اعتذر عن قبول المال مبتسما. فما أعجب عزة النفس والخجل الذي فيه.. اليوم لا فرق بين الناس زعيما أو صغيرا، أو طبيبا او معلما أو نجارا أو سباكا أو عتالا أو غنيا أو فقيرا.. اليوم كلنا أمام الوباء والموت سواء…

أعدم الوباء قضاة ومتنفذين زعماء وتابعين أقوياء وضعفاء حكام ومحكومين دون تحذير. وضع العالم أمام الشمس التي أرسلت إلى المحرقة ذلك الشيخ فشوته حيا وألقت به من أحد المرتفعات… فإلى جنات الخلد… كان فرناندوا حرا ومات منتشيا بالموسيقا. وخلد بتمثال من المرمر في وسط المدينة التي تعج بالأبرياء… الأنبياء والكنيسة ومصاصو الدماء هم من يتحدثون باسم الرب في كل المناسبات. مصاص الدماء الفتي تقاعد لكن رئيس الكنيسة وحدها الذي يصعد إلى منصة الموت.. ثم يبحر في قارب خشبي وفي وسط النهر ينثر رماد الشيخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى