سياسة

المسرح السياسي العربي العبثي إلى أين؟

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين

بلغ واقعنا العربي من الصعوبة ما لم يبلغه أحد، فقد بلغ حداً مؤلماً جراء التهاوي والنكوص والارتكاس والتراجع عن ركب الحضارة الإنسانية التي بلغناها نحن العرب يوماً ما. وما بلغه العالم من محاولة تأصيل الفكر الإنساني والأدبي والثقافي والمعرفي، وتعزيز الديمقراطية بأعلى سماتها. فقد عاش شعبنا العربي حالةً من الضياع والفَقد، وربما فَقدَ البوصلة في كثيرٍ من الأحيان نتيجةَ العبث بأقدارِ بعضنا البعض، حتى اختلطت الأوراق والأصوات، وتاهت العقول، وشاحت العيون، وشَحُبَت الوجوه ووهنت الاجسام، ولم نعد قادرينَ على التمييز بين الغث والسمين، ولا بين تغريد البلابل ونعيق الغراب أو البوم. هذه ليست نظرة تشاؤمية بقدر ما إنها نظرة واقعية تغوص في أعماق مشاكلنا المغطاة بقشّة. فلو أراد بعض كتَّاب مسرح العبث البارزين أن يكتبوا مسرحيةً عبثية من المسرح اللامعقول عن حالة الفَقد التي نعيشها نحن العرب، فإنّه لن يعرف فيها تغريد البلابل والعصافير من نعيق الغراب، أو لا يعرف فيها دور البطل من دور الكومبارس الهامشي، أو لا يعرف فيها أيضاً حالة الشَفَق منَ الغسَق لما وجدوا أفضل وأقوى المشاهد العبثية التي تعيشها بلداننا العربية من العالم .
فلو أُوكِلت المهمّة إلى الكاتب والسينمائي الإسباني فرناندو أربال Fernando Arrabal المقيم في فرنسا، كتابةَ فصولٍ من المسرح العبثيِّ اللامعقول، أن يكتبَ عن واقعنا العربيِّ المرير، لكان قد اختلط عليهِ الأمرَ، وضاع بين ما كَتَبَهُ بمشاركةِ المؤلف والمخرج تشارانوسنت الذي أخرج فيلم(لا ريجريسيون) ـ أي التراجع ـ . مثل خطاب الحب في مسرح متحف الإرميتاج في سان بطرسبرغ وما نعيشه نحن العرب. أيضاً لو أوكلنا مهمة كتابة شيئ عن واقعنا العربي للكاتب المسرحي الروماني ـ الفرنسي يوجين يونسكو Eugène Ionesco الذي كتَبَ عن السخرية وعبثية أوضاع الحياة ووحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني لاعتذر. عندها سيعتذرون عن كتابة تلك المسرحية لأنَّ تصوراتهم وخيالهم لا يبلغ هذا الحد الذي وصَلَ إليهِ واقعنا العربي المرير بدءاَ منَ الحروب التي تمّ وصفها بـ (حروبِ الاخوة الأعداء Kriege brudermörderischer Feinde) التي نفقد فيها التمييز بين القاتل والقتيل، بين الظالم والمظلوم، وليس انتهاءً بمفارقات وتناقضات سياسية حيث يعود كل القياصرة والاكاسرة لكن بثياب تنكرية، وبلغة تليق بزمن العولمة، وهذا لا يعني أبداً أن الفواصل والحدود قد حُذِفَت بين الحق والباطل، والصواب والخطأ. بل لأنَّ التضاريس الفكرية والمعايير الأخلاقية، والمستويات السياسية والاجتماعية كلها مغطاة بالدخان والغبار .
وثمة من يرطنون بنهاية التاريخ أمثال المؤرخ والفيلسوف السياسي الأمريكي ياباني الجنسية يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما Yoshihiro Francis Fukuyama الذي سار على نهج جورج فيلهلم فريدريش هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) مؤلف كتاب (الخلل الكبير: الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعي) عام 1999م. ومؤلف كتاب : (نهاية التاريخ واليوم الأخير) عام 1992م. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وجدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، كان يقصد معارضة فكرة نهاية التاريخ في نظرية الفيلسوف الالماني كارل ماركس Karl Marx: (المادية التاريخية) التي تقوم على أساس أنَّ نهاية تاريخ الاضطهاد الإنساني تتحقق بزوال الفروقات بين الطبقات والمساواة الاجتماعية. كل ذلك يولِّد أطالس جديدة وجغرافيا جديدة. لهذا لا نستغرب أبداً ما قاله أحد الكتّاب الفرنسيين عن كوننا نحن العرب قد استخدمنا الدادائية والسوريالية، والفن التجريدي في السياسة بدلاً من الفن والأدب. فما ينتج المزاج السياسي الآن قنوات فضائية منها ما تحوّل إلى غرف عمليات لها خصوصية، حيث لا نفرِّق بين جنرال أو محلل سياسي ومذيع، وما إن نرى اسم تلك القناة على شاشة التلفاز حتى نحزر كل ما سيُقال تماماً، لأنً نهج ومواقف وأهداف وهوية تلك القناة وداعميها واضحة وجاهزة، بل معلَّبة مسبقاً، وإن كانت لا تحملُ تاريخ الصلاحية ومكوناتها، ومدة تأدية مهمتها. لأنَّ التلاعب بالمزاج السياسي مهنة الإعلام بكل تفرعاته واستطالاته من مقروءة ومسموعة ومرئية، ووسائل تواصل اجتماعي التي لم تعد تقف على مسافةٍ واحدةٍ مما يحدث، ولم تعد متوازنة في علاقاتها مع الأشخاص والجماعات والدول.
مسرحية (مسافر ليل) مسرحية عبثية عُرِضَت عام 1969م،التي تعرّي سيكيولوجية الشر البشري وهو مبهر في استيعابه الأمكنة والعصور والأزمان يندرج تحت تصنيف مسرح العبث التي كتبها الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور، والتي تتحدَّث عن مسرح العبث وتصويره للوجود الصعب والقاسي . ومناقشة المفاهيم والأفكار الفلسفية المتعلقة بالخير والشر، ومعنى وجدوى الوجود الإنساني ، ويناقش القضايا الشائكة حول القهر والظلم والعدل والضعف في إسقاط علاقة الحاكم بالمحكوم ، من جهة ، والصراع الساخن بين الخير من الخير والشر من جهةٍ أخرى. لقد تم خلق نفسية سيطر عليها انعدام الثقة بالآخرين، وتحديداً من تأثروا بنتائج الحروب العالمية. التي أدَّت إلى انعزال الإنسان الأوروبي وفرديته، إضافةً إلى الخراب والدمار المادي والمعنوي، الذي طال القارة الأوروبية برمتها، ومن أعلام مدرسة العبث ألبيرت كامو (Albert Camus)، وصامويل باركلى بيكيت  Samuel Beckett. فقد قدَّم صموئيل بيكيت مسرحية اتسمت بغموض الفكرة وانعدام الحل، وعدم وجود عقدة تقليدية هي: (في انتظار غودو) وهي مسرحية رمزية مبهمة للغاية وانعدام الحل لما عرضته.اتسمت بغموض الفكرة وعدم وجود عقده تقليدية، وهناك العديد من المسرحيات التي كُتِبِت على طراز مسرحية (بانتظار غودوWarten auf Godot) للكاتب صموئيل بيكيت، أو مسرحية (المغنية الصلعاء La Cantatrice chauve) للكاتب المسرحي الروماني ـ الفرنسي يوجين يونسكو Eugène Ionesco. كون المسرحية تُعبِّرعن ذروة الفصام الإنساني، وتبدو منطقية إذا تمت مقارنتها بهذه (التراجوكوميديا Tragikomödie) التي نعيشها نحن العرب، حيث امتزجت الملهاة بالمأساة على نحوٍ غير مسبوق، وهذا يُحيلُنا بشكلٍ دراماتيكي لمقولة (شرُّ البلية ما يُضحِك) التي تتناسب طرداً مع واقعنا القاسي المرير، الذي لن ولم نتوقع حالة ما يعيشه المواطن العربي، وما يحدث حوله. فقد باتَ كل شيئٍ لا يُصَدَّق. فقد بلغنا مبلغ الفقر المدقع والجهل الطاغي، والأميّة الطافحة، مما أفضى بهذا الثالثوث الأصفر خريطة جديدة وتضاريس وتخوم لأمتنا بأسرها. ووضعنا عنوةً أمام التساؤل القاسي (بلغ سيل الدم الزبى) وليس (وصل السيل الزبى) فمتى تنهض عنقاؤنا من رمادها ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى