الناقد والإعلامي الفلسطيني نبيل عودة و العراقي د. خالد يونس ” وجهًا لوجه “

د. خالد يونس | السويد 

 وصل بريدي الإلكتروني بحث قيم من الأستاذ الناقد والإعلامي الفلسطيني نبيل عودة بعنوان “حتى يجيء عصر التنوير”. كان البحث هدية ثمينة، وما أجمل الهدايا حين تكون كلمات مضفية بالصراحة. البحث يعالج إشكالية صمت المثقف أو ما يشبه المذبحة الثقافية في واقعنا المؤلم.

د. خالد يونس: قرأت بحثك الرائع وشعرت أنني في مشوار بين الخمائل، فتذكرت المفكر الفرنسي فولتير وهو يقول: أنت تنظر إلى الخارج من خلال نافذة بيتك فترى حديقة زاهية الألوان فتفكر تفكيرا يختلف عن تفكيرك وأنت ترى من خلال نافذتك صحراء جرداء… ذكرتَ في بحثك: {{أين نقد واقعنا الاجتماعي وفكرنا السياسي الذي يتهاوى ويتحول الى صراع بين “الديوك” على مناصب أهمها منصب عضو في الكنيست، لا فرق بين من ادعى القومية والعداء للصهيونية، ثم أقسم يمين الولاء للدولة الصهيونية ونشيدها وعلمها}}.

 هل نعيش في عصر الردة الذي يحكمه يمين الولاء للدولة الصهيونية؟ هل رجعنا إلى عصر المماليك حيث الانحطاط الفكري في الجوانب اللغوية والثقافية والاجتماعية؟ 

 هنا وقفت لحظة ثم واصلت المسيرة بين دروب كلماتك، وشعرت أنني أصعد الجبل بخطى مسرعة، وكأن شكسبير يذكرني بمقولته،  {{صعود الجبال تحتاج إلى خطى متمهلة}}. وجدت نفسي هناك فرأيت الوادي، فنزلت فيه ورأيت همنغواي يكتب في رائعته الخالدة {{ الشيخ والبحر }} وهو ينصحنا {{ إن إرادة الإنسان قوة تتحدى الصعوبات تماما كالشيخ الذي انتصر على الحوت في ظلمة الليل على ضوء القمر في البحر الهائج المتلاطم الأمواج}}.

شعرت وكأنني أبحث عن المفقود الذي كان عند الناقد (نبيل عودة) ، والظمأ يتعبني، وإذا ببركة ماء تتقدم نحوي وتقدم لي كأسا مذاقه عذب بارد، شربت منه فانطفأ الظمأ. صافحتك هناك، وأنا في شوق لمواصلة المسيرة إلى طرق ملتوية ومستقيمة بين السهول والصحاري، فوجدت أن هذا العنوان – حتى يجئ عصر التنوير – فقرأت الفقرة الأولى من جديد:

{{النقد يشبه الابداع ويحركه ليس فقط  رد الفعل السلبي أو الايجابي من قراءة النص ، انما الرؤية الثقافية الشاملة والمتكاملة التي تتفجر تلقائيا دون قرار مسبق من العقل ، وما عدا ذلك كل ما يكتب يقع في باب الإنشاء البسيط }}.

فهمتك، وعلمت أن القراءة بلا وعي لا فائدة منها. وعرفت أن الكتابة بلا هدف لا معنى لها. إلتقيت بك سابقا في كتاباتك، وأنت تعبر عن الواقع المأساوي لشعبنا الفلسطيني المضطهد، بجرأة يعتز بها إنسان، وفكر لايعرف الخذلان. أما في بحثك ” حتى يجيء عصر التنوير” فقد كنت قاسيا مع نفسك ومع الاحداث، ومع الآخرين هذه المرة، حيث التنوير يشكو في عالمنا المتحضر المليء بالعدوان على الكلمة وعلى الإنسان البائس وعلى الطبيعة المتعطشة للحب.  قلت أصافح هذا الكاتب الناقد وأظمه إلى صدري أخا عزيزا لأشكره على هذا الكرم الذي تكرم به علينا في قراءة كلماته التي تحمل وراءها الصدق، ومعه القساوة واللوم والعتاب، على الوضع الراهن، ومَن يتعايشه.

رجعت أقرأ  بين الأسطر هنا وهناك، فوقفت عند هذه الكلمات:

{{الموضوع الثقافي لا يحظى بمكانة ضمن أولويات مؤسساتنا الرسمية والشعبية، وأنا أظن أن للثقافة قيمة بنيوية فكرية وتربوية واجتماعية لا تقل أهمية عن أي موضوع نضالي نطرحه على أجندتنا. اذا لم نبن مجتمعنا قوياً، مثقفاً، عقلانياً، متنوراً أخلاقياً ومليئاً بالجماليات وبالفكر الانساني، وبالاستعداد للتعاضد والتكامل الاجتماعي، والتجند وراء مطالبه الحيوية، ولا أستثني السياسة من هذه المطالب، ستبقى كل ممارساتنا الثقافية والسياسية، تعاني من قصور في الرؤية، من العجز في فهم دور الثقافة الاجتماعي والحضاري، وكيفية توجيه ودعم وتطوير حياتنا الثقافية}}.

حاورت معك وجها لوجه بين فراغات الورقة البيضاء، وبدت الكلمات في ناظري تشرح معانيها. فكرت في فلسطين والمسابقات من أجل عضوية الكنيست. وقلت قد تكون هناك فائدة  للشعب الفلسطيني، حيث يكون هناك إحتكاك مع الصهاينة. وجاءني صوت من داخلي الحزين يقول: أنسيت {{ قسم يمين الولاء للدولة الصهيونية ونشيدها وعلمها لكل مَن يريد أن يصبح عضوا هناك}}. هنا تجلت قضية بعد قضية. هناك العراق المحتل حيث الصراع بين أصحاب السلطان من أجل السلطان ومن أجل الحصول على عدد أكبر من المقاعد هناك، ويجاوره التصفيق للاحتلال ورضى الحاكم الذي جعل من الشعب العراقي مشردا فقيرا إلى درجة أن العائلة العراقية تنتظر نصف كيلو عدس من الوزير “السخي” الذي لايعرف السخاء في شهر الرحمة والغفران، رمضان. وهناك الإرهاب يحصد أرواح الفقراء.

سمعت هنا نداءات الفلسطينيين في العراق، وهم يعانون الأَمَرَّين من الصراعات الدامية، وأطفالهم يموتون جوعا، وشيوخهم يرفعون أياديهم إلى السماء ليرحمهم الله تعالى. وهم المعذبون في الأرض ككل العراقيين الذين ذهبوا ضحايا الصراع على السلطان في عراق الحضارة القابع تحت الاحتلال الأمريكي. هنا تذكرتُ ما كتبه لنا عميد الأدب العربي طه حسين في رائعته {{المعذبون في الأرض)) وكأنه نهض من قبره ليقرأ لنا من جديد {{ صدقني أن الخير كل الخير للرجل الحازم الأديب، أن يفر بقلبه وعقله وضميره من هذا الجيل. فإن أعجزه الفرار إلى بلاد أخرى، فلا أقل من أن يفر إلى زمان آخر من أزمنة التاريخ}}. (طه حسين: المعذبون في الأرض، دار المعارف، ط9، القاهرة، ص182).

قالوا لي، أنَّ إقليم كردستان العراق بخير، حيث القصور الفخمة، والشوارع العريضة، والرفاهية التي تعيشها القطط الثمينة التي جعلت من الإقليم مقاطعات إقطاعية على غرار مقاطعات الأمبراطورية العثمانية {{الرجل المريض}}. وتذكرت في الحال الأديب السويدي الكبير يوهان ستريندبرغ في قصيدته التي نظمها عام 1909 بعنوان

Esplanaden   أو نظام الشارع العريض .

أترجم هنا مقطعا من تلك القصيدة من اللغة السويدية إلى العربية:

ماذا نبني هنا يا صديقي؟

هل سنبني مدينة من الفيلا؟

لن تُبنى هنا مرة أخرى!

هنا تنظف الأرض  للشارع الجميل

هه! عُرْف الزمان: أن تهدم المباني

أتبنونها؟ شيء مخيف

هنا تتهدم القصور لنأخذ الهواء والضوء

ألا يكفي كل ذلك؟ (ينظر: النص الكامل للقصيدة المترجمة من قبل كاتب هذه الصفحات في الموقع الفرعي للكاتب بموقع النور)

تعبتُ من القراءة، فأردت أن أرتاح مع فضائية الجزيرة. وإذا بي أسمع منها تقول أن الكرد يخططون لبناء مدينة سياحية. فضحكتُ، وضحكت كثيرا. وبكيتُ قليلا ثم رأيت صورا مشوهة بألوان زاهية ترقص أمامي، وهي تقول أن القطط الثمينة لا تشبع، ولكن الفقراء سيبقون يبحثون عن الماء والكهرباء والمحروقات والخبز. ويبقون يستمتعون بالنظر إلى قصور المرمر للبارونات والرهبان وشيوخ قصور الباستيل.

التناقضات تلتقي، والمعذبون يتعذبون، وقهقهة الشياطين ترتفع، وشهداء فلسطين والعراق والكرد تلعن تجار السياسة منذ نكبة فلسطين عام 1948 ومرورا بسقوط ثورة 14 تموز العراقية عام 1963 وانتهاء بالاحتلال الأمريكي الصهيوني حيث الإرهاب يحصد أرواح الأبرياء في فلسطين والعراق.

 الكاتب الناقد نبيل عودة، أنت حزين في بحثك، متألم في رؤيتك للمشاهد المألمة، وأنا معك، وأنت تسمع حيث القنابل تتفجر في أحشائي. هناك العراق، وهنا فلسطين، وهناك إقليم كردستان، وبدعة الديمقراطية الكاذبة هنا وهناك. والحرب على الثقافة في كل قاعة من القاعات التي نسمع التصفيق للحرب على الثقافة.  يريدون أن يتركوا المثقفين جياعا مشردين حتى يصفقوا معهم، ويكونون معهم في الصراع على السلطان الزائل. هنا يراودني صوت الملكة بلقيس ملكة سبأ:

بئس ما تاج فوق رأس خانع ذليل

ونعم ما قيد في ساعد حر أبي

الإعلامي نبيل عودة، أنت، عميق في فكرك، لكنك في الوقت نفسه متمرد على الذين لايفهمون النقد إلاّ من خلال التملق للتقرب إلى السلطان الجائر الذي يظلمهم، أو من خلال الشتم لعجزهم عن التعبير. وقد أعطيت الحق لنفسك في كلمات تعبر عن صراحتك وأشجانك مثلما توقظ أشجان كل صاحب ضمير واعي. هنا أحببت أن أقف عند هذه الكلمات التي أجدتَ في كتابتها:  

   {{اذا لم نكن، نحن المثقفين، في الصف النضالي الأول، بأقلامنا ونشاطنا الميداني، وحريصين على قيمة كلمتنا، وقوة موقفنا، ومصداقيتنا، فهذا يعني ان صفتنا كمثقفين مصابة بالقصور والنقص في المضمون. إن صمت المثقف هي خيانة لذاته الثقافية ولعقله. ما يجري داخل ثقافتنا يشبه “المذبحة الثقافية”. أجل زراعة الوهم لدى المبدعين بانهم أصبحوا عالميين، وإبداعهم وصل الى قمة لا سابق لها، هي مذبحة لأولئك المبدعين ولمستقبلهم الابداعي، ولثقافتنا بمجملها. للأسف هذا ما يرتكبه بعض المتنشطين ثقافيا…  تحت صياغات تحمل اسم النقد وتفتقد لمضمون النقد. لو قاموا بتغطية الإصدار اخباريا لخدمونا وخدموا صاحب الابداع  أكثر من نقدهم}}.

ذكرتني أخي نبيل عودة بما قاله الناقد المصري محمد مندور بأن وظيفة الأدب الاجتماعية تصدر عن حقيقتين ثابتتين:

1- إدراك العلاقة بين معنويات الحياة ومادياتها.

2- وعي الفرد بما فيه من بؤس.

عن هاتين الحقيقتين تصدر وظيفة الأدب الاجتماعية من حيث أن الأدب محرك لإرادة الشعوب. والذي لاشك فيه أن الحركات الكبيرة التي قامت في التاريخ الحديث كالثورة الفرنسية ووحدة إيطاليا وثورة روسيا البلشفية قد مهد لها الكتاب بعملهم في النفس البشرية، تمهيدا بدونه لم يكن من الممكن أن تقوم هذه الحركات. ولنأخذ لذلك مثلا  مسرحية “بومارشيه” للكاتب الفرنسي المسماه ” زواج فيجارو” ثم روايته الأخرى السابقة على هذه، وهي “حلاق أشبيلية”. حيث هاجم الكاتب فيهما نظام الأشراف الذي كان سائدا قبل الثورة الفرنسية أعنف الهجوم، واتخذ من “فيجارو” حلاق أشبيلية الذي أصبح فيما بعد خادما للكونت “المافيفا” رمزا للشعب الثائر على عبودية الأشراف. وكانت لهاتين الروايتين أثر بالغ في التمهيد للثورة الفرنسية، حتى ألقى بمؤلفهما في “الباستيل”. ولا زال إلى اليوم  “مونولوج فيجارو”  في رواية “زواج فيجارو” نشيدا ضد الإستبداد. (مندور، في الأدب والنقد، نهضة مصر، القاهرة، ص36-37).

 الحقيقة المرة والأزمة المزمنة في واقعنا الثقافي المؤلم  تتجسد في كوننا، طبقا لمفهوم المفكر الكردي مسعود محمد بالشكل التالي:

{{ ولدنا عصر الثروات والثورات بفقر مادي هو تحت حد الإفلاس، وفقر معنوي كان أكبر خواء فيه هو ضياع البعد القومي من موحيات فخرنا … وقد يزيد من بواعث ألمنا علمنا بأن المرتقى الوحيد الذي إستطاع أن يتسلق عليه بعض أمراء الكرد إلى مطارح السلطان المرموقة كان بتبعيته لذوي السلطان من غير الكرد. فهو في عز قوته مقتدر بغيره. وعلى أوان الشبع منتقم من سماط لايملكه}}. (إ مسعود محمد، عادة التوازن، ص57)

السؤال الكبير: ماهو دور الكتاب، ولا سيما الإدباء والنقاد في كل ما تعانيه شعوبنا من تشرد وحرمان وقتل وخوف من المستقبل في الوطن الذي يحترق، أو في الوطن المحتل، منتظرين مؤامرات المتآمرين ليقسمه ويجزئه ويشتته؟

  {{الكُتاب يختلفون في طريقة أدائهم للخدمة الاجتماعية، فمنهم مَن يعتقد أن في مجرد التصوير والوصف ما يكفي لأداء هذه الرسالة دون حاجة إلى الإفصاح عن مشاعر الكاتب الخاصة أو الدعوة إلى علاج بعينه … ويرى  فريق أخر أنه لابد من الدعوة الصريحة في القصة أو المسرحية إلى المبادئ التي يريد أن يروج لها الكاتب، وهم يستشهدون لذلك بما يلجأ إليه كتاب كبار من أمثال موليير وشكسبير}}  (محمد مندور، في الأدب والنقد، ص 36-37).

والتساءل الصعب الذي يطرح نفسه، بل يلح أن يطرح نفسه هو: كيف نجد جوابا للحيرة التي لا مفر من الاعتراف بها. وقد نقل لنا السوسيولوجي الكلاسيكي المعاصر أريك فروم في كتابه “اللغة المنسية”، مقولته الشهيرة: {{ نحن رغم الحسنات التي يتمتع بها تعليمنا العالي في المجال الأدبي، ورغم إعدادنا التربوي العام، قد فقدنا تلك الموهبة التي تجعلنا نعرب عن حيرتنا}}. فما يصيب وطننا من تأخر وقتل وفساد وتشرد وحرمان، نتيجة من نتائج حيرتنا لأننا وضعنا الثقافة في زنزانة مظلمة، وسلمنا مفاتيحها إلى المستعمر الذي يستعمرنا. لماذا لأن حكامنا يخافون من الثقافة ويخافون من أنفسهم، وقد سلموا مستقبل شعوبهم رهينة بأيدي سلطات الاحتلال.

ألا ترى معي أن الإمام علي عليه السلام أجاد في حكمته المعروفة: {{ ولاخير في جَسَد لا رأس معه}}؟

وختاما: مَن يسمع الثائر جيفارا حين قال: {{ يجب أن يكون هناك مَن يتجرأ أن يدخل الغابة المظلمة المليئة بالأعشاب الضارة والحيوانات المفترسة لينظفها حتى يستطيع أطفالنا أن يلعبوا فيها بأمان}} ؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى