ندوة وقراءة جديدة لمشروع أبي العلاء الشعري

  • سوزان ستيتكيفتش: ” سقط الزند” هي قصائد الشباب الشعري للمعري
  • و “اللزوميات” هي تجسيدٌ لفحولته ونضجه الشعري
  • الصعيدي: المعري شاعرٌ انشغل بقضية الشأن وإثبات الذات
  • بريري: كان شغوفا بـ ” الشطحات الشعرية”
  • نجوي عمر: مشروعه قائمٌ علي التحدي لنفسه ومُجتمعه

غطي فعالياتها وحرر مادتها – صبري الموجي مساعد رئيس تحرير الأهرام.

  تحت رعاية: ا.د  عبد الوهاب عزت رئيس جامعة عين شمس, وفي قاعة اشرأبت فيها أعناق الحاضرين وأصغت آذانهم إنصاتا، أقيمت بقسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس ندوة للمستشرقة الأمريكية د. سوزان ستيتكيفتش، بحضور زوجها المستشرق ياروسلاف  ستيتكيفتش، ونخبة لامعة من الأكاديميين والباحثين، حيث استهل أ.د  ماجد مصطفي الصعيدي أستاذ الأدب القديم بكلية الألسن جامعة عين شمس منسق الندوة كلمته بالتأكيد أن الجدل حول أدب أبي العلاء لا يتوقف بين دارسيه، ويرجع ذلك لأسباب أهمُها ثراءُ أعماله الأدبية: الشعري منها والنثري، وامتلاؤها بالأفكار القادرة علي الحياة والتجدد علي مر العصور.

وأضاف د. الصعيدي: أنه فضلا عما ما سبق نلحظ ملمحا آخر في إبداع أبي العلاء وهو انشغالُه البالغ بقضية الشأن أو الذات والتي يلاحظها بوضوح من يطلعُ علي آثاره الأدبية في تطورها الزمني، وقد عبَّر عنها بقولٍ فيه كثيرٌ من التيه والاعتداد بنفسه :

وإني وإن كنـــــــت الأخيرَ زمانه ……لآت بما لم تــستطعه الأوائــــــــــــل.

ويتساءل د. الصعيدي : فهل نجح أبو العلاء في تحقيق طموحه نحو إبداع شكلٍ جديد في القصيدة العربية، استحق بسببه ذلك الاهتمام البالغ من دارسيه في شتي الأصقاع؟

وفي ختام كلمته أشار د. الصعيدي إلي أن ديوان اللزوميات أحد الأعمال التي مازالت تجذب الدارسين من الشرق والغرب لاحتوائه علي مناهج ونظريات حديثة ومعاصرة، فضلا عن امتلائه بتساؤلات حول قضايا الإنسان  والطبيعة وما وراء الطبيعة.

وفي كلمة د. محمد بريري الأكاديمي البارز نائب رئيس تحرير مجلة (ألف) أكد أن أبا العلاء المعري أضاء جوانب مُتعددة ومهمة من الأدب العربي قديمه وحديثه، وأجري مُقارنات مُتعمقة بين الأدب العربي الكلاسيكي، وما يناظره في الثقافات الأخري.

وأضاف د. بريري: أما سوزان ستيتكيفيتش والتي ستلقي مُحاضرة اليوم فقد تعرفنا علي إنجازاتها البحثية الرصينة قبل أن نلتقي بها، حيث توالت دراساتُها التي اهتمت منذ بدايتها وحتي الآن بالتأويل أو التفسير الطقوسي للشعر العربي الكلاسيكي بدءا من الجاهلية ومرورا بعصور الأدب اللاحقة.

وأشار د. بريري إلي أن دراسات سوزان الرصينة تُعد بالعشرات وتتنوع بين كتب ومقالات، وهو ما يتضحُ من خلال مُطالعة سيرتها العلمية.

وصرح د. بريري بأن إبداع سوزان المتنوع كما وكيفا ما كان ليتحقق إلا من خلال حُبها واقتناعها بقيمة هذا التراث العربي الثري؛ وهو ما دفعها لأن تُكرس حياتها لإماطة اللثام عما ينطوي عليه هذا التراث من مضامين إنسانية جمالية.

ويضيف د. بريري : وإذا كانت سوزان قد تناولت في دراسات سابقة أعلام الشعر العربي في الجاهلية والإسلام مثل علقمة وزهير وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من شعراء المشرق والمغرب العربي، فإنها اليوم تُكمل هذا العقد الفريد، فتحدثنا عن الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري في محاضرة بعنوان ” إشكاليات اللزوميات نحو قراءة جديدة لمشروع أبي العلاء الشعري”

وثمَّن د. بريري مقولة  د. الصعيدي بأن أبا العلاء كان شاعرا جريئا مُستدلا علي صحة ذلك بأنه – يعني أبا العلاء – فاجأ المجتمع العربي بكثير مما يُمكن أن نسميه شطحات، مثل قوله في لزومياته:

أتي عيسى فأبطل دين موسى ….وجــــــــاء محمد بصلاة خمـــــــــــس

وقيل يجيء دين بعد هــــــذا…. فأودى الناس بين غـــــــــد وأمــــــــس

وبعد انتهاء كلمته آلت الكلمة للبروفيسورة د.سوزان ستيتكيفيتش الأستاذة  بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية التي قالت إن مشروعها يتمثل في إعادة قراءة ديواني أبي العلاء المعري الشعريين: “سقط الزند”، من خلال نظرية الأداء، وديوان “لزوم ما لا يلزم”، حيث أكدت أن الديوان الأول وهو ” سقط الزند” مكونٌ من قصائد الشباب الشعري، ويحتوي علي العديد من أغراض الشعر العربي الكلاسيكي : مدح وفخر ورثاء إلخ.

وصرحت د. سوزان بأن قصائد “سقط الزند” هي استجابةٌ حقيقية لدوافع الحياة الاجتماعية والسياسية، والالتزام بواجبات و متطلبات المجتمع، حيث قامت بتحليلها من خلال نظرية الأداء أو الكلام الفعل؛  لنري القصيدة وهي تؤدي دورا في علاقات الشاعر الاجتماعية، فعلي سبيل  المثال – تقول سوزان –  ما نلحظه في نونيته المشهورة، وهي قصيدة نظمها الشاعر في عهد الشباب، وحاول أن يحاكي فيها في دقة الوصف أحد المبصرين وهو أبو إبراهيم العلوي يقول مُتعاليا على عاهته، وقد نجح في ذلك إلى حد الإعجاز:

علّلاني فــــــــــإنّ بِيضَ الأماني ….. فَنِيَتْ والظّــــــــــــلامُ ليسَ بِفاني

إن تَنَاسَيْتُمـــــــــــــــا وِدادَ أُناس…..فاجعَلاني مِن بعضِ مَن تَذكُـــــرانِ

رُبّ ليــلٍ كأنّه الصّبحُ في الحُسْـ ….. ـنِ وإن كانَ أسْودَ الطّيلَســــــــــانِ

قد رَكَضْنا فيه إلى اللّهْوِ لمّــــــا ….. وَقَفَ النّجْمُ وِقْفَةَ الحَيْـــــــــــــرانِ

كمْ أرَدْنا ذاكَ الزّمــــــــانَ بمَدْحٍ ….. فشُغِلْنَا بذَمّ هذا الزّمَــــــــــــــــانِ

فكأني ما قلْتُ والبـــــــــدْرُ طِفْلٌ ….. وشَبابُ الظّلْمـــــــــاءِ في عُنْفُوانِ

ليلتي هذه عُـــــــروسٌ من الزّنْـ ….. ـجِ عليها قلائِدٌ مِن جُمــــــــــــــانِ

نجد أن الخمر التي يطلبها الشاعر هي عبارةُ مجازية عن شعر أبي إبراهيم العلوي.

وأضافت سوزان: ونلحظ ذلك الدور كذلك في الديوان الأول “سقط الزند”: حيث يقول في داليته المشهورة التي كتبها في رثاء الفقيه الحنفي أبي حمزة:

صَـاحِ هَـذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فـأينَ الـقُبُورُ مِنْ عَهدِ عـــــــــــــــادِ

خَـفّفِ الـوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِـنْ هَـذِهِ الأجْـســـــــــــــــادِ

وقَـبيحٌ بـنَا وإنْ قَـدُمَ الـعَهْدُ هَــوَانُ الآبَـاءِ والأجْــــــــــــــــــــــــــدادِ

وتستطرد . سوزان أما ديوانه ” لزوم مالا يلزم” فإننا نواجه فيه إشكالية جمالية تختلف كل الاختلاف عما نجد في سقط الزند، بل في تقليد القصيدة الكلاسيكية، ففي هذا الديوان لم يعد العمل الشعري ينبثق عن الافتكاك الخلاق بين التحدي الخارجي من الحياة الاجتماعية أو السياسية وبين المتخيل الشعري، كما وجدنا في “سقط الزند”، وإنما هو نتيجةُ خضوع الشاعر لمستلزمات مشروعه المبرمج.

وأضافت د. سوزان أن إنكار أبي العلاء موضوعات “تيمات” القصيدة، وبصفة خاصّة قصيدة المدح، هو الذي ضيّق الإمكانيات الموضوعية للزوميات لتقتصر على الوعظ والحكمة وبعض الأفكار شبه الدينية أو شبه الفلسفية، إلاّ أنّنا عندما نقرأ القصيدة بوصفها عملا شعريا مُنسّقا بترتيبها الأبجدي من القافية المزدوجة، وما فوق ذلك من الحركات الثلاث والسكون، نجد أنّ هذه المستلزمات لها دورٌ حسّاس وخلّاقٌ في إنتاج القصيدة اللزومية.

ولفتت د. سوزان إلي أنه كثيرا ما نقرأ في المصادر الكلاسيكية مثل كتاب “الأغاني” وغيره الأخبار التي تُقدم للمتلقي كلا من الشعر والقصيدة، وأسباب قول القصيدة، حتي في “سقط الزند”  نجد العديد من الأغراض الشعرية : من مدح وفخر وخلافه، أما في “اللزوميات” فكانه أنكر تقليد القصيدة الكلاسيكية، حيث يقول: “إني رفضت الشعر القديم، يقصد قصيدة المدح بصفة خاصة رفض السقب غرسه، والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات، فإما الكائنُ عظة للسامع، وإيقاظاً  للمتوسن، وأمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر”.

وتضيف د. سوزان: ويروي المعري عن الأصمعي أن الشعر بابٌ من أبواب الباطل، وبهذا يعترف في أول “اللزوميات” أنه لا يمكن للشعر الجيد أن يخلو من الكذب، ولكنه بدلا من مغادرته ميدان الشعر يُقدم لنا مشروعا شعريا جديدا يعتمد علي مقياس شعري وجمالي جديد وهو المهارة المتكاملة في القافية حتي يقول:” وقد تكلفت في هذا الكتاب ثلاث كلف:

الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها.

والثانية: أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك

والثالثة: أنه لزوم عن كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف”

فهذا شعر حدد موضوعه واختير له نظام في القوافي، وترتيب على الحروف وحركاتها، وكأنه كتاب من كتب العلوم اتصل تأليفه حتى كمل، وهي خطة تسلى بها المعري في عزلته، فينبغي أن يكون تاريخه متصلاً ونظمه متوالياً.

وقالت د. سوزان : ومن الممكن أن نرى في هذه اللزوميات عملية التجريد الجذري في اللغة الشعرية من حيث المعجم في القافية المزدوجة، ومن حيث النحو والصرف في إنتاج القافية في كل من الحركات الثلاث والسكون، وهو ما يُمكن من توليد المعنى في القصيدة اللزومية من خلال الأسلوبية؛ نظراً لأنّ النظرية الأسلوبية تركّز على الدور التعبيري للعناصر اللغوية من النحو والصرف والوزن والقافية.

وأشارت د. سوزان إلي أن ديوان ” اللزوميات” يتناول الفترة الثانية من حياة أبي العلاء الطويلة، وهي  فترة عزلته في بيته في معرة النعمان بعد عودته من رحلته الخائبة إلي بغداد سنة 400 هـ.

وعن تحليلها لهذا الديوان تقول إنه مشروعٌ شعري مُبرمج، حيث ألزم الشاعرُ نفسه أن تكون القافية على حرفين، وأن تشمل أشعاره كلَّ حروف لغة “الضاد” وما يلحقها من الفتح والضم والكسر والسكون، فقد كان لكل حرف باستثناء الألف ـ أربعة فصول: فللباء المضمومة فصلٌ، وللمفتوحة فصلٌ، وللمكسورة فصلٌ آخر، وكذلك للباء الساكنة وهكذا، وفي هذا دلالة على مقدرة لغوية وعروضية وفلسفية لا تخفى على أحد.

وأكدت د. سوزان أن أكثر لزوميات المعري متينُ اللفظ، فخم الأسلوب يعجّ بالمصطلحات العروضيّة، والصرفية، والفقهيّة، والطبيّة، والفلسفية، ويحوي الكثير من الأمثال، حيث كان يهدف من ورائها سوقَ الوعظ والحكمة والملاحظات الفكرية والساخرة عن الحياة الدنيا والآخرة.

وهذا ما جعله –  تستطرد د. سوزان – يُحمل نفسه قصيدة لزومية من الميم المضمومة مع السين في بحر الطويل ، وهو ما يُرجح أن الشاعر خطر بباله اسم العلم طسم، وهي قبيلة من العرب البائدة، وكثيرا ما نراها مصحوبة مع جديس، وهذا التزاوج يذكرنا بالطباق الأساسي في البيت الأول، والتآزر الصوتي المعنوي ، فطسمٌ كجذر لها معني يُقودنا لمفردات البيت الثاني : يفني والفناء، ويمحو وغيرها، وبالتالي تؤدي كلمة طسم من خلال المعني والصوت إلي الكلمة الأخيرة في البيت الثاني رسم، في قوله:

سيسأل ناسٌ: ما قريش ومكة …كما قال ناسٌ : ما جديس وما طسم

أري الوقت يفني أنفاسا بفنائه… ويمحو فما يبقي الحديث ولا الرسم

وإذا كان لكلمة رسم معني سلبي بوصفها مرتبطة بالديار الدارسة، فإن كلمة وسم في البيت التالي تحمل معني إيجابيا حيث جاءت مشتركة مع رسم في الأداء الصوتي، إلا أن السياق يؤدى إلي نفي بقاء أي أثر، وبالتالي فإن المفردات هي التي فرضت علي الشاعر معني القصيدة ، فالمنطق منطق الأصوات وليس الأفكار.

وعن إشكاليات اللزوميات تقول د. سوزان إن دراسة اللزوميات تكشف عن أن هناك مجموعة من الإشكاليات تتمثل في:

–  أنه بالنسبة للمشروع فإن إطاره هو دراسة شعر أبي العلاء في ديوانيه “سقط الزند”، و”لزوم مالا يلزم” ، مُقابل الدراسات السابقة التي تقارن بين زهديات أبي العتاهية، ولزوميات المعري، وتكشف تلك المقارنة إلي حد كبير عن نجاح المعري في تدشين مشروعه الشعري.

–  الإشكالية الثانية – وحسب ذوقي النقدي والأدبي – أن المقارنة الرومانسية للشعر لاستخراج شخصية الشاعر لم تعُد أمرًا مرغوبا فيه بعد موت الشاعر، أي أنه لم يعد مُلحا الاهتمام بحياة الشاعر الرومانسية والعاطفية.

–  أن محاولة استخراج فلسفة المعري من شعره باعتباره كما أشيع شاعر الفلاسفة أو فيلسوف الشعراء هي نوعٌ من التكلف؛ لأنه من وجهة نظري أن هذه الأفكار التي تناثرت في شعره ليست إلا حكما ومعاني شعرية مألوفة.

–  أن جو التشاؤم المُسيطر علي اللزوميات والمتمثل في ذم الدنيا والسخرية اللاذعة والموقف الجاحد تجاه المؤسسات الاجتماعية والديانات هو تعبيرٌ عن بيئة عاصرت إبداع اللزوميات، التي خلت من أغراض الشعر التي انتشرت في القصيدة الكلاسيكية : من غزل ونسيب ومدح وهجاء ، ومن ثم لا نجد فيها شكلا أو تطويرا أو مسارا داخليا؛ لأنها دونما غرض،  فهي لا تهدف إلا الوزن والقافية ، أي أن هدفها صوتيٌ في المقام الأول، ومن ثم جاءت اللزوميات بلا ترتيب منطقي وإنما خضعت لسلطان القافية.

 واستنادا إلي ذلك تؤكد د. سوزان أننا ما دمنا أشرنا إلي مجال المعاني في  اللزوميات فأري أنه من الأنسب أن نقول عنها “تأملات المعري” وليست فلسفة المعري، وهو نفس الموقف الذي ذهب إليه المستشرق الإنجليزى الشهير رينولد نيكلسون، إشارة إلي الأفكار المتناثرة بدون تنسيق أو تطويع، وهو ما يؤكد أن هذه القصائد ليست أجزاء من صورة فكرية متكاملة، وإنما هي أشعارٌ مستقلة لا يجمع بينها إلا رفض المعري لمنهج القصيدة السابقة، وتتوافر فيها أسسُ مشروعه للقافية المزدوجة مع كل من الحركات والسكون، وهذا من رأيي هو جوهر الإشكاليات.

وهذا يقودنا إلي سؤال – تقول د. سوزان – هل أنتج أبو العلاء من خلال هذا المشروع المبرمج المتكامل عملا شعريا ناجحا ومُقنعا من حيث المقاييس الجمالية، خاصة أنه قدم لنا مقاييس شعرية بديلة لمقاييس القصيدة التقليدية وجمالياتها؟

والمعني أنه غاير في لزومياته القياس الأدائي للقصيدة العباسية، والذي لم يتخلص من قيوده في قصيدة ” سقط الزند”.

ومن ثم فتبرز في ” اللزوميات” المهارة الفائقة من حيث أدوات التقنية الصوتية والشعر، وبذلك جسدت لزوميات المعري التجريدية الفكرية في أبهي صورها، ودشنت قواعد ما يمكن أن نسميه ” اللعب الشعري” إن صح التعبير!

والخلاصة كما تقول د. سوزان أن أبا العلاء قصد من خلال لزومياته عرض مهارته الفائقة في فن القافية  ليثبت تفوقه في ذلك علي شعراء فحول سابقين مثل امرئ القيس والمتنبي، بل وتفوقه علي الشعراء المنافسين من معاصريه أيضا وحتي اللاحقين، وقد أيد ذلك كلٌ من د. طه حسين ونيكلسون اللذان أثبتا أن “اللزوميات ” تحتوي معاني وأفكارا مُدهشة جاءت إلي جانب الصنعة المتمثلة في جماليات القافية، وهو ما عبر عنه نيكلسون بـ “طغيان القافية”.

ورغما عن هذا فإن طه حسين ونيكلسون لا يستجيدان المشروع بكامله، فإن كانا قد أقرا النجاح الجمالي إلا أنهما لم يؤيدا المشروع برمته، بل كانت لهما عليه ملاحظات لا يتسع المقام لذكرها.

وصرحت د. سوزان بأن أبا العلاء كان يؤكد صعوبة هذا المشروع، وبالتالي يرى أن القارئ عليه أن يأخذ من القصائد والمقطوعات العديد مما يستحسنه ويستملحه، وهو ما حدث بالفعل طيلة القرون السابقة.

وتري د. سوزان أنه علينا أن نقدر مشروع ” اللزوميات” بوصفه بنية جمالية أو شعرية تأثر بها الشعراء في شتي الأنحاء شرقا وغربا واقتفوا أثرها، فكانت لهم إبداعات تحذو حذو اللزوميات منها “لزوميات ” نجيب سرور، ومُختارات أمين الريحاني وغيرهما.

–  وأخيرا تقول د. سوزان – فإن أبا العلاء هو الذي قدم الإطار النقدي لديوانيه “سقط الزند” و”اللزوميات”، حيث عاب علي قصائد “سقط الزند” امتلاءها بالكذب؛ باعتبارها نتاج شبابه الشعري، أي أنها كانت بمثابة تمرينات تمهيدية لإنتاج شعره الأكبر “لزوم مالا يلزم”.

بعد ذلك شكرت د. سوزان قسم اللغة العربية بكلية الألسن صاحب الدعوة، والحضور علي حسن الاستماع.

المداخلات:

وفي تعقيبه علي محاضرة د. سوزان، شكر د. محمد بريري الضيفة الكريمة علي حديثها المفصل والدقيق عن شعر أبي العلاء بشكل عام، وعن “اللزوميات بشكل خاص”، وصرح بأنه يميل كباحث إلي القول بأن الفكرة العامة بحسب تعبيرات ما بعد الحداثة هي تفكيك كل أو معظم ما قيل عن شعر أبي العلاء، واختزاله في الفلسفة أو الحكمة أو ما شابه ذلك، ومحاولة استخلاص حياته من شعره، وغيرها من المقولات التي ترفضها د. سوزان، ولذلك لم تكن مُصادفة أن تقدم تحليلا أسلوبيا لمقطوعة من شعر أبي العلاء؛ لأن الأسلوبية لا تفصلُ بين الصوت والمعني أو الشكل والمضمون، فهي مُصرة علي أن هناك جماليات في شعر أبي العلاء لم يُلتفت إليها بشكل كافٍ، ومن ثم فهي تحاول من خلال مشروعها أن تسد هذا النقص.

وفي مداخلة للباحث صبري الموجي ثمَّن تطواف المحاضِرة حول أبي العلاء وشعره بانسيابية وتدفق يشيان بسعة اطلاعها، وطرَح سؤالا حول ما ألزم به الشاعرُ نفسه ولم يلتزم به غيره، وما هي القواعد التي سار عليها أبو العلاء ولم يسر عليها الشعراءُ السابقون؟

وكان رد د. سوزان بأن التزام المعري تمثل في نقل ميدان المنافسة من الخارج إلي الداخل، حيث كان التنافس بين الشعراء قبله في الأغراض وجو القصيدة، والمناظرة، فجاء هو ونقل ميدانها إلي القصيدة نفسها، وما يمكن تسميته بـ “الصنعة الشعرية”، والإبداع في الوزن والقافية، ومن ثم رسم طرقا وسلك آفاقا جديدة لم يسلكها الشعراءُ قبله.

وعقب المهندس محمد البدري بأن شعر أبي العلاء من وجهة نظره هو “تأملات فلسفية” وهو التعبير الذي يراه أكثر صدقا عن “اللزوميات”؛ لأنها زاخرة بالتساؤلات وهي سمة لم تكن شائعة قبل أبي العلاء.

ويضيف البدري: ثم يأتي التحدي فنجد المعري نفسه يجيب عن تلك التساؤلات رغم أنه ضرير لا يستطيع أن يري.

فالمدهش حقا – يقول البدري- أن تنبثق الفكرة من تداعيات ما يعتمل في عقل الفيلسوف، فتساؤلات المعري صورة لم يكن يعرفها الشعراء الذين جاءوا في زمن الإجابات، وبالتالي فإن أبا العلاء كان مُجَرَّما ومُتهما؛ لأنه طرح تساؤلات في قصائده، وهو ما لم يكن معروفا من قبل.

وفي ردها وافقت د. سوزان علي وصف شعر المعري بالتأملات والحكمة، حيث أشارت إلي أنه كان مُعجبا بحكم المتنبي، ومن ثم فكان موقفه فلسفيا أو تفكيريا إلي حد كبير، وهذا لا يتعارض مع كونه شاعرا أكثر منه فيلسوفا، ولفتت د. سوزان إلي أن المعري بعد انعزاله عن المجتمع كان أكثر تحررا في شعره، كما قالت بنت الشاطئ، أي أنه كانت لديه حرية جعلته يلزم نفسه بالقافية التي كان فيها بدعا من الشعراء.

وفي كلمة د. نجوي عمر أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية بكلية الألسن جامعة عين شمس، صرحت بأن محاضرة د. سوزان أشبه بمائدة شديدة الثراء، عامرة بأطاييب الكلام، ومن ثم فعلينا أن ننهل من علمها حتي البشم ونرتوي حتي الثمالة.

وبعد ترحيبها بالضيفة وزوجها وإقرارها بدسامة تلك المحاضرة التي أفاد منها الكبارُ قبل الصغار، أكدت د. عمر بأنها تتفق مع د. سوزان في أن مشروع “اللزوميات” ليس مشروعا فلسفيا بالمعني الدقيق؛ لأن الفلسفة هي فكرٌ أو موقفٌ من الحياة والأحياء والمجتمع، حيث إن لكل شاعر من الشعراء هذا الموقف الفكري، فلا توجد قصيدة شعر بلا موقف، ولكن المشروع الحقيقي في “اللزوميات” تقول د. عمر هو مشروعٌ نفسي، فالمعري كان في تحدٍ لنفسه أولا، وللمجتمع ثانيًا، فكان يشعر بمفارقة فبرغم امتلاكه تفوقا لغويا وعلميا لا يناظره فيه أحد، إلا أنه عاني كثيرا من تجاهل مجتمعه لهذه القيمة العلمية الفذة، فكان بين هذين الشعورين يحاول أن يثبت لنفسه أولا تفوقه ومهارته، ويثبت لهذا المجتمع الذي تجاهله ولم يقدره حق قدره موهبته؛ ليذعن في نهاية المطاف بموهبة ذلك الشاعر.

والمعني تقول د. عمر أن مشروعه هو تحد لنفسه وللمجتمع، استطاع من خلاله أن يثبت موهبته واقتداره التي أجبرت الآخر أن يرفع له القبعة مُسلما بموهبة الشاعر التي كان فيها نسيج وحده.

وصرح د. ماجد الصعيدي بأن المحاضرة طرحت أفكارا جديدة، ومن ثم تعتبر دراسة منهجية أضافت إلي دراسات الباحثين في تراث أبي العلاء الشعري.

وفي إجابته عن سؤال هل المعري فيلسوف أو غير فيلسوف؟ قال د. الصعيدي إن أبا العلاء ينتمي للحكمة الشرقية، فهو ابن الثقافة الشرقية، تلك الثقافة التي تمتاز بألوان الحكمة، التي تأتي مصوغة صياغة أدبية.

والمعني أن أبا العلاء ينتمي لهذه الثقافة فينطق الحكمة التي جاءت في دثار الأدب، وهو ما يتجلي في النصوص الدينية: القرآن والعهد القديم، وسفر الأمثال، تلك النصوص التي حوت تعابير، وحملت معاني وأفكارا وجاءت في صورة أدبية جميلة رائعة بل ومبهرة.

ويؤكد د. الصعيدى أن الشاعر حاول أن يطرح في لزومياته رؤية حكمية علمية لتجربة عربية محددة خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، أي خلال أوج عصور الثقافة العربية، أو ما يسمي عصرها الذهبي، إذ إنه يُلخص تجربة أربعة قرون سابقة في إطار برنامج قائم علي “التشاؤم والعزلة ” ابتدع فيه مناهج تثبت فحولته الشعرية.

وأضاف د. ماجد: ورغم كل تلك الدراسات عن أبي العلاء إلا أن إشكاليات “اللزوميات” لم تصل إلي “حل” بعد، ومن ثم فإن أبا العلاء مازال يحتاجُ إلي كثير من الدراسة والبحث الذي يكشف لا محالة عن حلول لألغاز ذلك الشاعر المعجزة!

واختتم د. الصعيدي بأن ديوان أبي العلاء الضخم الذي ربا علي أحد عشر ألف بيت لا يمكن احتواؤه بكل معالمه في دراسة واحدة؛ لأنه أشبه بلوحة متجددة الدلالات.

واستهل د. عاطف بهجات الأستاذ بكلية الألسن مداخلته ببيتين لأبي العلاء يقول فيهما:

أراني في الثّلاثة من سجوني..فلا تسأل عن الخبرِ النّبيـــــثِ

لفقدي ناظري، ولزومِ بيتي..وكونِ النّفس في الجسد الخبيثِ

حيث يثبت هذان البيتان كما يقول د. بهجات أن الشاعر لم يكن رهين محبسين ولكنه كان رهين ثلاثة محابس، ومن ثم فيجب أن ننظر إلي اللزوميات في ضوء هذين البيتين، فالرجل عاني عزلة مطلقة أتاحت لنفسه فرصة للتأمل والتدبر والتفكر، وهذا ما جعله ينحو نحوه الموسيقي غير المسبوق في “لزوم مالا يلزم”، الذي كان عنده ” لزوم ما يلزم”، وهذا النحو إن كان من ناحية العروض والقافية ظاهرة صوتية، فإنه من ناحية أخري محاولة لإثبات الذات.

الملاحظة الثانية في دراسة المعري يقول د. بهجات أن فقد البصر يقوي عند الإنسان حاسة السمع، وهو ما جعله – أي المعري – يلجأ إلي حيلة عروضية تُطيل أمد الحركة الموسيقية في نهاية البيت، وبالتالي أري أنه ربما يكون من اللازم أن ننظر إلي اللزوميات في ضوء هذين الأمرين، وقد التفتت د. سوزان إلي تلك النقطة الأخيرة بدقة عندما أشارت إلي التحليل الموسيقي للزوميات عند عرض بعض أبيات المعري.

وأخيرا يطالب د. بهجات بضرورة الانتباه إلي طول الحركة الموسيقية في اللزوميات، وتقديم تفسير لأبي العلاء من هذا الجانب.  

من ناحية  أخري رحبت د. سلوي رشاد أستاذ الأدب الإنجليزي ووكيل كلية الألسن للدراسات العليا بالضيفة الكريمة وزوجها العلامة، وبالحضور الكريم، ثم منحت د. رشاد د. سوزان شهادة تقدير لتشريفها كلية الألسن في هذه المحاضرة الماتعة، كما منحت د. نجوي عمر ممثلة لقسم اللغة العربية بكلية الألسن درع القسم للمتحدثة د. سوزان وزوجها العلامة ستيتكفيتش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى