في الإيجابية حياة و وجود واختيار

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور

نعم تستطيع وإرادة الخالق جل شأنه فيك أنك تستطيع، وإلا لما كان التخيير بين من شاء … ومن شاء، ويبقى قرار إسعادك لذاتك وإسعاد من حولك معك اختيارً شخصيًا لا يمكن أن يجبرك عليه أحد ولا يمكن أن يتخذه أحد نيابة عنك.
ومع ذلك يبقى السؤال حول طبيعة العلاقة بين وجهة التفكير وطبيعته ومحتواه والسعادة أو الهناء في الحياة، وفيما يتعلق بثلاثية التفكير وفقًا للتعبير المشار إليه يمكن التوقف قليلاً حول مناقشة ثلاثة أبعاد أساسية فيه:
– البعد الأول- وجهة التفكير تبعًا لدوائر الزمن الثلاث:
وهنا يمكن تحديد ثلاث وجهات في هذا الصدد على النحو التالي:
(1) وجهة ماضوية التفكير والإقامة الجبرية في الماضي: هنا يجد الإنسان نفسه مكبلاً بتاريخ حياته السابقة بكل ما فيها، فإن كان خيرًا استبشر وسيطرة عليه رغبة في التماهي معه والرغبة في استعادته وإعادة تخليقه بالصورة التي كان عليها فيما يعرف بالحنين والشوق الإيجابي، وهو وإن كان حنينًا ممتعًا ومخلقًا لسعادة حقيقية إلا أنه يقف عند مجرد أعتاب الحنين والاشتياق، على الجانب الآخر إن كان ماضيًا سيئًا اشمئز الشخص منها واجتر آلامه وتماوج في دوامات التعاسة وربما النفور من الذات، وقد يكون ماضيًا شخصيًا قوامه يقين الشخص بالتفريط في فرص كانت متاحة للارتقاء بالذات هنا ينصب التفكير رثاءً للذات وتحسرًا على ما فات دونما قدرة على تداركه.
(2) وجهة التماوج غرقًا في دوامات الحاضر بكل وقائعه وخبراته وأحداثه ربما بعقلية أخلاقيات اللحظة كونها هي المتاحة، وهنا ربما يجد الإنسان نفسه في غرقه في الحاضر إما موجهًا بالرغبة في استثمار عطاءاته وإمكانياته وفرصه المتاحة بوعي وجد واجتهاد ترقية للذات والاستمتاع بالحياة، وإما الانسياح التلقائي في ملذاته ومباهجه ربما بعقلية انتهز الفرصة فاللحظة إن فاتت لن تعود.
(3) وجهة التماوج غرقًا ودمجًا للذات في تصور المستقبل وتمنيه بصورة معينة ربما اكتفاء بالحلم فيه والإبحار في الحياة بذهنية التمني بما يفوت على الإنسان المتاح والممكن، وربما كحيلة دفاعية يهرب بها الشخص من قسوة ظرفه وعناد وجوده وإجهاض الحاضر لحلمه وفي كلتا الحالتين يخاصم الإنسان الهمة والحيوية ولا يأتيه أي إثمار.
– البعد الثاني طبيعية التفكير وفقًا لماهيته وخصائصه:
وإذا كان التفكير فيما هو مستقر عليه إلى حد ما في أدبيات علم النفس دالة لقدرة الشخص على إدراك العلاقات والمتعلقات بين الوقائع والأحداث ومكونات الوجود، وفهم وتحليل المفاهيم المجردة، وحل المشكلات، وصنع واتخاذ القرارات، فإن طبيعة التفكير وفقًا لهذا الطرح تحد بعدة أبعاد:
(1) التفكير المفعم باعتقاد الشخص بالجدارة والاقتدار وهنا يطلق عليه التفكير التكيفي الوظيفي وقوامه الأمل والتفاؤل والاستبشار فيما يعرف بالتفكير المفعم بالأمل Hopefulness thinking ، وعلى ذلك يمكن أن يطلق على هذا المسار من التفكير بالتفكير الإيجابي Positive thinking أو إيجابية التفكير Positivity of thinking.
(2) التفكير المفعم بيقين الشخص بعجزه وضعفه بل ولا لزوميته في الحياة إن جاز التعبير، هنا يصبح تفكيره قائم على ما يصح تسميته التوقع القاتل Fatal expectation والمهين لهمة الحياة في تكوينه، وعلى ذلك يمكن أن يطلق على مثل هذا المسار في التفكير “التفكير السلبي Negative thinking أو سلبية التفكير Negativity of Thinking”.
– البعد الثالث – محتوى التفكير أو فيما يفكر الشخص:
ذلك لأن البعد الأول والثاني يتعلقان بماهية التفكير وكيفيته ووجهته، أما البعد الثالث فيدور وجودًا وعدمًا حول محتوى التفكير ومضمونه، ويفترض أن ينظم محتوى التفكير ما يلي:
(1) من أنا؟ وماذا أريد؟ وما أهدافي في الحياة؟
(2) ما الذي تريده مني الحياة؟ وإلى أين أريد أن تسير بي الحياة؟
(3) كيف يمكن تحقيق ما أريد؟ وما المسارات المتاحة أمامي لتحقيق ما أريد؟
(4) ما الذي ينبغي التسلح به وتوفيره لتحقيق ما أريد؟
ولا ريب في أنه إذا انتظم مسار تفكير الإنسان وجهة وطبيعية ومحتوى حول التوازن بين دوائر الزمن الثالث وتبني التفكير الإيجابي أو الإيجابية في التفكير والتمكن من الإجابة عن الأسئلة المحددة لمحتوى التفكير يتحقق هناء الإنسان في الحياة وسعادته فيها وإثماره وإنجازه الإيجابي فيها.
وما يجدر الإشارة إليه أن إيثار الإنسان ملء عقله بالأفكار الإيجابية ووصفها وتحليلها والتمسك بها، ومنع ذاته من مجرد الاقتراب من الأفكار السلبية هو أمر اختياري وإرادي مهما تصور البعض عكس ذلك، فمن فكر في الخير وجده ومن استبشر بالخير التقاه، وعلى ذلك سيتم تفصيل الأمر في منشورات قادمة.
اسمح لي ببساطة أن أوضح كيف يمكن أن تتخذ قرار الإيجابية في الوجود؟ ولماذا يتعين عليك اتخاذه وإنفاذه سلوكيًا في أسلوبك في الحياة تفكيرًا وانفعالاً وفعلاً. في البداية يجدر التنويه إلى أنه إذا نظرت إلى وقائع الحياة وخبراتها وأحداثها وكل ما حولك بمنظور إيجابي ومشرق واجتهدت في التنقيب عن الجانب الإيجابي في كل ما يطرأ عليك أو يحدث لك أو حولك، بما لا يعني أن كل شيء عظيمًا ستجد نفسك في حالة تلقائية من مجرد وجود الأفكار الإيجابية في حياتك، ستوفر سياقًا حياتيًا يزيد من احتمالات تكوين الانفعالات والمشاعر الإيجابية والتعايش معها.
ولا ريب في أن تماوجك وعيًا بالخبرة بالانفعالات الإيجابية يقترن بما يصح تسميته رنين البهجة وصوت الخير ورقة التوجه في الحياة بروح مفعمة بالاستبشار، هنا يكون للأفكار الإيجابية بغض النظر عن ما تقوم به ومهما كان هدفك تأثيرات رائعة في دفعك باتجاه الإنجاز والإثمار في الحياة، ولا تتصور أنّ هذه طريقة سهلة وميسرة في تغيير حياتك أو في التأثير الإيجابي في الآخرين، بل يقتضي الأمر التسلح بعتاد نفسي بالغ الوفرة؛ وبالتالي فالإيجابية كحياة وكوجود وكاختيار ليست حالة توهب لك هكذا تلقائيًا دون دفع ضريبتها.
والأفكار الإيجابية وصفًا وتحليلاً جزءً مندمجًا في بنية الاتجاه الإيجابي في الحياة، وهو ذلك الاتجاه الذي يشعر معه وبه الشخص بحسن الحال والرضا وارتفاع فرص تحقيقه لأهدافه ويهون عليه كل عنت الحياة ومحنها وشدائدها وظروفها العصيبة.
وتأسيسًا على ما سبق هل يمكن أن يتخذ الإنسان قرارًا بالتفكير الإيجابي، بالإيجابية في الحياة؟ هل باستطاعتك أن تحسم أمرك من الآن فصاعدًا بأن تبحر في فضاء الله بإخلاص نية وإيجابية واستقامة مسلك، برؤية النور من حولك، وبالعزم على صناعته وترويجه وجعله إشعاعًا تتلون به مفرداتك اللغوية وتتبدى ملامحه على محياك مبتسمًا للحياة ومقبلاً عليها، ترسمه سلوكياتك تعاطيًا مع كل حق وخير وجمال في الحياة؟
فقط علينا أن نحاول، علينا أن نحيل التوجه إلى ممارسة، ولا يعُنى بأن تقر الإيجابية فلسفة حياة بأن تقول لنفسك نعم “من الآن فصاعدًا لن أدخل في تكويني النفسي إلا الأفكار الإيجابية”، لكن أن يقر في تكوينك النفسي أنه ومهما كان ما ستلاقيه في الحياة من عنت، من شدائد، من عثرات، من كروب ومحن تكون على يقين بأنك قادرًا على تجاوزها، على التعافي منها، على النهوض ثانية، على الارتقاء في ظلها واعتبارها فرصًا مُثلى للارتقاء، وعلى اليقين بأن في محنة منحة وفي كل شدة معنى، وفي كل عثرة حكمة، وفي كل إخفاق تدبير من قبل الخالق لك لتصويب ذاتك، وبالجملة في كل موقف معنى ولكل موقف قيمة في ذاته ولذاته يمكن التركيز عليها والانطلاق منها.
وعلى ذلك فإن بإمكانك أن تجعل التفكير الإيجابي عادة سلوكية يومية، صحيح قد يصعب عليك الأمر في البدائية، إلا أن الرغبة في تجنب التفكير السلبي وهي رغبة أصيلة لدى الشخص السوي ستكون وقودك في هذا المسار، ومع الوقت ستعتاد الإيجابية في التفكير، ستصل مع استمراء حالة التفكير الإيجابي ورنين البهجة في متنها إلى التوهج النفسي الإيجابي Positive psychological flaring، كما أن حال الاعتياد على الإيجابية في التفكير يبرمج عقلك على المستوى العام للإبحار في الحياة بتوجه ذهني إيجابي Positive Mindset.
وللتأكد من وجاهة الطرح السابق عليك أن تتذكر وضعك النفسي حال سيطرة مشاعر اليأس على تكوينك، حال تركيزك على الأشياء السلبية في الحياة، ستدرك أنك كنت تعتقد أنك غير قادر على تغيير أي شيء أو تحويل وجهته، إذن اليأس سلب للإرادة، إهانة لكل خصوصية اقتدار أو جدارة شخصية وقوام اليأس سيطرة الأفكار والاعتقادات المختلة والمشوهة والخاطئة على بنيتك النفسية، واليأس دائمًا تدثر بمقولة “لن أستطيع؟! ما فيش فايدة؟!”.
الأمر الآخر واهم من يتصور أن وقائع الحياة وخبراتها وظروفها وأحداثها يجب أن تكون في كل الأحوال على مراده وتسير وفقًا لهواه، هذا وهم لا وجود له إلا في أذهان المختلين نفسيًا وربما عقليًا، وواهم أيضًا من يتصور أنه يوجد مشكلة لا حل لها، وإيجابي ومفعم بروح الجدارة والاقتدار كل من يعتقد أن لكل مشكلة حل، وأن كل مشكلة فرصة للتعلم والارتقاء.
من جانب آخر تذكر أخي الكريم أنه عندما ينكسر منك شيئًا ماديًا يقينًا بإمكانك شراء غيره، ينطبق نفس المعنى على الأشياء النفسية إلا الكرامة التي إن انكسرت لا سبيل إلى استردادها إلا بشق الأنفس وبجهد جهيد، إذن كل اعتلال، كل انكسار، كل إخفاق، كل عثرة قابلة للتصويب، لك مردًا جميلاً في نهاية الأمر إن أردت فقط إن أردت.
هنا تتضح ماهية التفكير الإيجابية، مضامين الاتجاه الإيجابية، دلالات الموقف الإيجابي من الذات ومن الآخر ومن الحياة ومن المستقبل، وهنا لا نغامر يقينًا بدفعك باتجاه الأخذ بمبدأ بوليانا أو الأوهام الإيجابية، إنما دفعك باتجاه الغرق في دوامات الأمل القائم على الاقتدار والجدارة ومعرفة الوجهة ورسم المسار ووضوح الهدف.
وتبعًا لهذا الأمر الإيجابية تعهد إرادي، التزام ذاتي، تحليق آمن مفعم بالوعي بالذات في الوجود وبالوجود في الذات، وعي خالٍ من التفكير الراغب القائم على مجرد التمني، بل التفكير الواثق المفعم بالاقتدار والأهلية والاستحقاق، قل لنفسك دائمًا نعم “أنا إنسان كرمني الخالق، وعلة تكريمي اليقين بأني خلقت للإعمار على مراده جل شأنه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى