الإنتخاب الطبيعي والأوبئة وكورونا

د. خالد عبد الله علي| أستاذ الميكروبيولوجيا الجزيئية المشارك – كلية العلوم جامعة سوهاج

خلال العام 1869 قام أحد علماء البيولوجيا بريطاني الجنسية ويدعى فرانسيس غالتون وهو أحد أقرباء داروين بوضع قواعد نظرية  أسماها “اليوجينيا” والمختصه بتحسين الصفات الوراثية للعرق البشري، والتحكم في السلالة البشرية وذلك عبر مراقبة التفاوت العرقي للحد من تكاثر من لا يستحقون البقاء من وجهة نظره، مثل المعاقين والمتخلفين ذهنياً والسود.

وكشف بذلك عن نزعته العنصرية البغيضة حين إعتبر أن البشر ليسوا  جميعاً سواسية. وتقوم نظريته على أساس أن التطور الصحيح للجنس البشري قد إنحرف عن مساره الطبيعي، لأسباب تتعلق بنزعة الخير والإنسانية التي أبداها الأثرياء تجاه الفقراء غير الصالحين وتشجيعهم على الإنجاب، وهو ما أفسد آلية الانتخاب الطبيعي، لذلك رأى أنه لا بد من التدخل وإحداث انتخاب صناعي لإعادة الجنس البشري إلى مساره الطبيعي. وبعكس نظرية “تشارلز داروين” التي تعتبر أن الأصلح هو الذي يترك نسلاً أكثر متماشياً مع البيئة، ترى نظريته اليوجينيا أن الأصلح هو المتميز في الذكاء والصحة والأخلاق.

هذه النظرية المنحرفة تسببت في تمرير قانون التعقيم في الولايات المتحدة عام 1927، وقادت النازية للقيام بحملات التعقيم القسري لغير الصالحين والموت الرحيم العام 1933 التي استمرت حتى 1939. وألهمت هذه النظرية هتلر بأفكاره حول أهمية خوض الحروب للتخلص من البشر المتخلفين، لأن التقدم يعتمد على البقاء للسلالة الأفضل. ولذلك أمر بإخصاء حوالي نصف مليون من المرضى المزمنين ومن المعاقين والمعتوهين، كي لا يتمكنوا من الإنجاب.

وقد ذكر داروين في نظريته، أنه كلما ولد عدد أكبر من الكائنات الحية كانت احتمال نجاتها أكبر، ومع ذلك ينشأ صراع بين الكائنات بهدف البقاء على قيد الحياة، وهذا الصراع يشمل كافة الموجودات، وإن كان هذا مختلفاً لكنه مفيد ولو بصورة قليلة لكافة الأنواع.

و تحت هذا التعقيد والاختلاف في ظروف المعيشة للكائن، سوف يكون هناك فرصة أفضل للعيش فقط من قبل أولئك المُنتقون من قبل الطبيعة. ومن المبدأ القوي للوراثة، فإن أي نوع مُختار سوف يميل إلى التطور والارتقاء في شكل جيد.

اللافت أن هذه النظرية الكريهة شكلت العباءة التي خرجت من تحتها كافة الحركات والجماعات والأفكار العنصرية اليمينية المتشددة في أوروبا. على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم الكشف عن كثير من الفظائع التي ارتكبت بسبب الأفكار اليوجينية، وتم اعتبارها نظرية عنصريةشكلت حالة في بداية القرن العشرين، انضم لها وتعاطف معها كثير من كبار المفكرين والمثقفين والعلماء والساسة والفلاسفة ورجال الدين والأعمال.

أبرز هؤلاء الفيلسوف والمفكر البريطاني “برتراند راسل” Bertrand Russell الذي أصدر ما يزيد عن مئة كتاب وتوفي العام 1970. وكذلك الكاتب الإيرلندي “جورج برنارد شو” George Bernard Shaw، والأديب الإنجليزي “هربرت جورج ويلز”، Herbert George Wells والكاتب الروائي الإنجليزي “الدوس هيكسلي” Aldous Huxley، ورئيس الوزراء البريطاني السابق “ونستون تشرشل Winston Churchil، والرئيس الأمريكي السابق “فرانكلين روزفلت” Franklin Delano Roosevelt، والفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” Friedrich Nietzsche وغيرهم.

هل فيروس كورونا المستجد COVID-19 الذي صفع العالم بطريقة مؤلمة، هل يمكن أن يكون “يوجينيا” عصرية فتاكة تهدف إلى تحسين نسل البشرية عبر إفناء الملايين من أبناء الأعراق الأضعف والاقل ذكاء وإنتاجية، وضمن استراتيجية الانتقاء الموجه؟ أم إنه أحد أشكال الأسلحة البيولوجية الجرثومية في حرب الأوبئة التي نقلت الصراعات والحروب بين القوى الكبرى إلى الجيل الخامس، وخرج هذا السلاح عن سيطرة المصنعين، وتحول بومضة عين إلى خطر عالمي يقتل الآلاف من الناس يومياً، ويهدد بالفناء؟ أم إنه أحد الأسلحة التي تدافع بها البيئة الفطرية والأرض الأم في معركتها ضد تغول وتوحش الإنسان المعاصر؟

نحن نسوق هذه المقدمة الصادمة المزعجة لنؤكد أن فكرة الإنتخاب موجودة وستظل، لكنها ليست بناء على معايير عنصرية موجهة، بل بصورة طبيعية تهدف إلى صنع التوازن الطبيعي وإنتخاب الأصلح للإستمرار كما فطن إلى ذلك عالم التطور داروين.

فلو نظرنا إلى الأرض ومواردها نجد أنها موارد ثابته لا تتغير ولا تتجدد، بل تدور في دورة ثابتة تنتقل فيها العناصر من كائن إلى كائن ومن فرد إلى فرد من خلال نشاط الكائنات الموجودة وعلى رأسها الميكروبات. كميات المياه هي نفسها لا تزيد أو تنقص، كذلك جميع العناصر التي تشكل بناء المركبات في أجساد الكائنات المختلفة. فذرات العناصر الموجودة في جسدك ربما تكون هي ذاتها التي كانت أو بعضها في  جسد ديناصور منقرض، أو فرس مات بعد أن أدى مهمته، أو جسد ملك من القرن السادس عشر أو أحد رعاياه.

وفي ظل هذا التزاحم وجب على البيئة والطبيعة إنتخاب من يستحق العيش على ظهر هذه الأرض حتى يتناسب ذلك مع ثبات الموارد. فيروس كورونا المستجد يعتبر أحد هذه الأدوات ولكن ليس طبقا لنظرية اليوجينا، بل قانون الإنتخاب الإلهي الطبيعي مع غيره من الأدوات الأخرى المتعددة.

فمثلاً تظهر حرائق الغابات من حين إلى أخر في غابات الأمازون وغيرها لتحصد الكثير من أشكال الحياة، في الوقت الذي يرى فيه البشرأن في ذلك شر ولكنه خير أيضاً جاء ليخلص البيئة من الأعشاب الضارة والشجيرات الضعيفة والحيوانات الكسيحة، لتسنح فرصة أكبر للأقوى والأصلح.

ظهر كورونا لينتخب البشر على أساس قوة جهازهم المناعي الذي هو ضروري ليس لكورونا فحسب، بل لكل ما هو موجود في هذه البيئة المتغيرة دوماً. وإذا نظرنا إلى عدد الوفيات نتيجة الإصابة به، نجدها في الدول المتقدمة وليس العكس. وذلك لأن هذه الدول إختارت الرفاهية منهجاً لها وإنتهجت كذلك طريق الإستمتاع بالحياة دون النظر إلى عمارة الأرض من خلال التزاوج والتناسل، فنجد عزوفهم عن الزواج والإنجاب قد أدى إلى أن تكون نسبة المسنين كبيرة جداً مقارنة بالصغار. وبما أن كورونا ينتخب على أساس قوة الجهاز المناعي، فقد وقع هؤلاء ضحية له وإرتفعت معدلات الوفيات عندهم، لأن ببساطة لا يمتلك هؤلاء من المسنين حائط الصد المناسب. فجاء كورونا ليقول لهم أنتم لستم صالحين لعمارة الأرض حتى لو تقدمت بلادكم وإرتفعت رفاهيتكم.

بينما رأف كورونا بشعوب دول العالم الثالث، وأكتفى بالعبور وهو يقول يكفيهم ما هم به من قساوة وضنك العيش، وسوء المأكل والمشرب والذي يمثل في كثير من الأحيان نبع لعدد مهول من الأجسام المناعية، والتي حتى وإن كانت غير متخصصة معه، إلا أنها تزاحمه وتشاكسه خلال رحلته في جسد الفقراء.

***

المراجع:

https://www.raialyoum.com/index.php/%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%AC%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84/

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى