حُسْنُ التعليل في الشعر الجميل (1)

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا

(حُسْنُ التعليل) أحد المُحسِّنات البديعية المعنوية، والتي تشمل (التورية والطباق والمقابلة وحُسْن التعليل وتأكيد المدح بما يشبه الذم). وعلى الرغم مما تضيفه تلك المُحسِنات جميعها من جمال معنوي إلى الشعر، إلا أن “حُسن التعليل ” أكثرها جمالاً من وجهة نظري.
مفهوم (حُسن التعليل) يعني: أن ينكر الشاعر صراحة أو ضمناً عِلَّة الشيء المعروفة، ويأتي بعلَّة أدبية طريفة من عنده، تناسب الغرض الذي يقصده. وسر جمال (حسن التعليل) يكمن في عنصرين إبداعيين يتميز بهما عن سواه من المحسنات المعنوية الأخرى:
أولاً: عنصر النقض الذي يعني إنكار العِلَّة القديمة المعروفة. وهو يتطلب من صفات الشاعر رهافة الملاحظة والانتباه، لانتقاء ما يستحق التركيز عليه لنقضه وإنكاره من العلل المعروفة.
ثانياً: عنصر الاستطراف الذي يعني توليد علَّة إبداعية جديدة مناسبة لتحل محل العِلَّة القديمة المعروفة. وهذا يتطلب القدرة على اكتشاف العلاقة الخفية، أو الرابطة غير الملحوظة بين صفات الموصوفات وخصائصها، والتي تبدو بعيدة عن الذهن، ثم تجسيمها بالتعبير عنها لغوياً.
كما أن حُسن التعليل يشترط تفوُّق جمال العلَّة الجديدة على العلَّة القديمة، وإلا فإن العلَّة الجديدة تفقد أهميتها وتسيء للشعر بدلاً من تحسينه. فلا يكثر من حُسن التعليل إلا الشعراء المتميزون المبدعون، وأما الشعراء المقلّدون المكررون للمعاني والصور الشعرية فحسن التعليل أقل حظاً في أشعارهم .
وكي نرى الأثر الجمالي لحُسن التعليل في الشعر دعونا نستعرض بعضاً من أشعار الأولين والآخرين في هذا المجال.

يقول زهير بن أبي سلمى:
أخي ثقة لا تهلك الخمرُ ماله

ولكنه قد يهلك المال نائله

تراه إذا ما جئته متهللا .

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وذي نسب ناءٍ بعيد وصلته

بمالٍ وما يدري بأنك واصله

ففي البيت الثاني نلاحظ حُسن التعليل عند الشاعر في تفسيره سبب تهلل وإشراق وجه ذاك الذي جئتَه تسأله حاجتَك من مال أو سوى ذلك، فإذا به يستبشر بك ويتهلل وجهه في لقائك حباً بأن يعطيك حاجتك. فكأنك أنت الذي تعطيه حاجته لشدة سروره بك. فالعلَّة القديمة هي السرور بالأخذ، وأما العلَّة الجديدة فهي السرور بالعطاء وهي لا شك أجمل .
وأما النابغة الذبياني فيقنعك بحسن تعليله بقوله
تعصي الإلَهِ، وأنتَ تُظهِرُ حبَّه

هذا لعَمْرُكَ، في المَقالِ، بديعُ

لو كنتَ تَصدُقُ حبَّهُ لأطَعْتَهُ؛

إنّ المحبّ، لمن يُحبّ، مُطيعُ
فالذبياني يسخر من ادعاء صدق حب الإله من قبل من يعصيه ” هذا لعَمْرُكَ، في المَقالِ، بديعُ ” وينكره. فينقض العلة المعروفة التي تقول: إن إظهار الحب للإله يكفي للتدليل على صدق حبه، وسواء أكانت كلمة بديع بمعنى “جميل” كما نستخدمها هذه الأيام، أو كانت بمعنى “جديد” وهو معناها الأصلي. فإن الشاعر ينكر هذه العلَّة، ويأتي لنا بعلَّة جديدة أجمل منها، تدلُّ على صدق الحب، ألا وهي الطاعة. لأن ” المحب لمن يحب مطيع “

يقول أبو تمام
لا تُنْكِرِي عَطَلَ الْكَرِيمِ مِنَ الْغِنَى

فَالسَّيْلُ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي

المياه تجري في الأرض المنبسطة جرياناً عادياً وهذه علَّة قديمة ومعروفة. وهذا يماثل بقاء المال في يد الشخص العادي، غير أن مياه السيل تحارب المكان العالي، فتهرب منه وتغادره بأسرع ما يمكن فهي تنسكب منه بسرعة. وهذه كناية عن عدم بقاء المال في يد الكريم السخي. فنلاحظ أن الشاعر لم يأت على ذكر العلَّة القديمة؛ بل العلَّة القديمة تتضح من العلَّة الجديدة فإذا كان السيل حرباً للمكان العالي، فالسَّيل يبقى جارياً في المكان المعتدل المستوي ليدلَّ على قلة السخاء .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى