رحلة إلى الجنوب اللبناني.. قامت بها: وفاء كمال

سحمر قاع الدم الأول ( 16) 

أثار وجود الأمين بين النساء حماسهنّ.. فتقدم موكب المظاهرة باتجاه المدرسة. فخرجت قوة كبيرة لقمع المظاهرة. لكنَّ مطر الحجارة عاد لينهال من كل مكان. من السماء والأرض والجهات الأربع وبدأ الصراخ يعلو (مملوءاً بالحقد والعزيمة والتحدي والإصرار): 

ـ اضرب يا أمين.. عليهم يا زينب.. اضربي يا محاسن. أما (المَرْعِيَّة) التي شقت بطنها وهي حامل أثناء الإحتلال الفرنسي عندما أرادوا اعتقال الصبيين علي مسعود وكمال لاستعمالهما البارود لصيد  الأسماك. فقد جثمت اليوم بحجمها الكبير على جندي إسرائيلي وراحت تضرب رأسه بالأرض. ثم تعاونت مع زينب و حجلة على تركيع أحد الجنود فوق مزبلة. وأخذْنَ يمرغْن رأسه بروث البقر, لدرجة أثارت ضحك أصدقائه الذين يراقبون الموقف. حيث قام أحدهم بتصويره.

ارتفعت يد الطفل علي بحجر كبير قذف به احد الجنود فأصابه في أذنه.

فتملَّكه جنون هستريائي وركض خلف الطفل وهو يصرخ: قف.. قف وإلا سأطلق النار. احتمى الطفل بالنساء وهو يقول: أطلق النار ياجبان.. نحن أحفاد علي (ع ) لانخاف الموت.

علت صرخات النساء: القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة. وظل مطر الحجارة ينهمر. حتى أعلن مكبِّر الصوت عن انتهاء التجمع,  واستبقى اثنين وعشرين شاباً للتحقيق. .. و بلَّغَ الأمين بعض الطلبة أنه عليهم القيام بمظاهرة احتجاجاً على اعتقال الشباب. كل شيء كان يتم بسرعة هائلة تثير الانتباه. فخرجت المظاهرة الطلابية في اليوم التالي وسط تهليل وهتافات أهل القرية, أذهلت العدو. وكأن الأطفال قد دُرِّبوا على حرق إطارات السيارات, ودفع الحجارة الكبيرة لسد الطرقات .  ومرت الأيام التالية بطيئة كالسلحفاة رغم اكتظاظها بالمفاجآت.

كل شيء كان والغاً بدم كرّار. الذي أقعده المرض لفترة طويلة عن النضال فكان الخوف والحذر والتوتر يغزوه بسبب تأخر الأمين لأنه علم من زوبا أن الشبهات تدور حول الأمين .ومداهمة البيوت بحثاً عنه أصبحت طقسا يومياً.. وبدأ يفكر بغالب الذي بدا أن مهمته في ضخ الحماس بالطلاب وتحذيرهم قد نجحت نجاحاً كبيراً, دون أن يظهر وسط الجموع. لم يرتح كرّار إلا عندما صار الأمين يعود إلى الكهف ليلاً, قبل أن تبدأ الجولات التفتيشية. ليعود ويدخل الضيعة في النهار مع أشعة الشمس ,وقد ارتدى ثياباً نسائية. حيث من المتعذر على كرّار أو الغزال بطولهما الفارع فعل ذلك.. فالأمين والزغلول وغالب, كانوا قصيري القامة مقارنة بالغزال وكرّار , الذي كان يبدو كأبطال السينما .وكان يستغرق بطوله الفارع معظم الكهف. ويضطر أن يثني ركبتيه حين يتمدد ليغيب الزغلول بين ثنايا ساقيه. 

عمَّ الهدوء الضيعة بضعة أيام .كان الأمين يتسلل خلالها الى منزلهم. .

انتشر خبر خطبة وجيهة.. وانعقدت الدبكة وبدأت الأكف تصفق بحرارة فالفرح كان محظوراً على الجميع قبل أيام.

كان فواز يشارك بالدبكة . ففوجئ بيد عبسي تمسك بيده وبدأ يشاركه الدبكة. فانتفض مرتعشاً يريد أن يقذف يده خارجاً .فشدَّ عبسي على يده وهمس بأذنه:

ـ أريد الانفراد بك لأمر ضروري دون أن ينتبه أحد. 

ـ لاأنفرد مع العملاء.

ـ اسمعني للمرة الأخيرة ولن تندم, وسيعلمك الرفاق أنني لستُ عميلاً. 

أنا أعلم انك بالمقاومة وأريدك ان توصلني بالأمين.

ـ أنا لستُ بالمقاومة أولاً… وثانياً لاأعرف مكان الأمين. 

ـ كان الصدق يبدو على عبسي وهو يقول: لاتجادلني طويلاً فأنا لا أستطيع أن أشرح كل شيء. الآن لأنني مراقب. 

كان عبسي يعرف أن فواز متهور. وخشي أن يفصح أمامه بكل مافي جعبته من أحاديث. فمن الممكن أن يفضحه بسوء تصرفه وانفعاله الذي اشتُهر به. بعكس الأمين وكرّار وفراس والزغلول الذين يقلبون الكائنات بصمت. .

كان فواز أصغر المقاومين سناً, وقد شفع له صغر سنه بالظهور في الضيعة وفي تجمعاتها حيث لم يترك حتى ذلك اليوم دليلاً يدينه ولم يكن مطلوباً من العدو. ,

بلَّغ فواز الأمين بطلب عبسي. فرفض الأمين أن يلتقي به . وقال: إياكَ وأن تعترف بأنك بلَّغْتَني أو أنك تعرف عني شيئاً.. اللقاء معه والانفراد به أمر ممنوع دون امر من القيادة.. هل فهمت ؟كان الأمين  يحاول أن يغطي على عبسي الذي كان الجميع يعتقدون أنه عميل. بينما كان يشكل عيناً للضيعة, ويزور المقاومين في منتصف الليل متسللاً بين الجبال ليمدهم بالمعلومات الخطيرة . إلى أن انقطعت أخبارهم حين بدلوا مواقعهم بسبب الجولات التفتيشية المتكررة للعدو

وعاد الأمين متسللاً بين اشجار الزيتون خلف المنزل يراقب ماحوله بحذر ويحك رأسه بعنف ويده الثانية على زناد مسدسه. 

وماأن وصل المنزل حتى حرر رسالة لزوبا لتتصل بجهاد تسأله عن موضوع عبسي.

يتبع ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى