رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها وفاء كمال (20)

قاع الدم الأول ( 20)

رغم صغر سن ثائر فقد وعى خطورة الحرس الوطني. وكان يردُّ على كل من يقول: بأن رابين يؤكد أن الجيش الإسرائيلي لن يحتفظ بوجود دائم في الحزام الأمني:

ـ ومتى كنّا نعتمد على كلام رابين لتفسير الوضع؟

لم يكن يعرف هو الآخر ماذا يمكنه أن يفعل؟  فهو صغير ولايعرف رأي مسؤوليه في الأمر. وقد بات وحيداً فصديقه الحميم وشريك نضاله قد اختفى .وانقطعت أخباره بعد المجزرة  ولم يعد يرى احداً من أصدقائه في منظمة العمل الشيوعي . الذين كان دورهم واضحاً في فتح وعيه على النضال رغم انه من عائلة تختلف معهم إيديولوجياً. وقد اختفى معظمهم, وظل يتلقط الأخبار عن الرعاة الذين يلتقي بهم في سهل مشغرة, والعناصر الفارة التي تمر بالفلاة طالبة قطرة ماء أو حليب إذا لم يتوفر الماء . رأى ان القرية تمر في وضع حرج ولابد من التحرك.. فكر بالذهاب خارج الضيعة ليلتقي بالقياديين، لكنه ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه غالب ظناً منه ان غالب وكرار استطاعا عبور الحواجز  وسلك نفس الطريق ناسياً أن ذاكرة العدو طويلة لاتنسى المناضلين. وصل الحاجز متوجساً. وماأن قرأ الجندي اللحدي اسمه على بطاقته الشخصية ..قال: ها.. ها أنت ثائر  الخشن ؟

(جيت وألله جابك) شرفت ياثائر.. ولكنك لستَ خشناً.. أنت ناعم للغاية ولمس أسفل ذقنه التي كانت خالية من الشعر. .. أبعد ثائر وجهه بغضب.. فكان رد الجندي صفعة عنيفة على وجهه ولكمة على بطنه. شدَّ يديه نحو ظهره وقيده, ثم عصب عينيه ودفعه في لاند يحتوي مجموعة معتقلين معصوبي الأعين..

لم يستوعب ثائر بعد الحالة.. فكل تفكيره كان منصبًا كيف ستكون ردة فعل أمه عندما يصلها خبر اعتقاله.. وقطع تفكيره وقوف اللاند, وقد أنزله أحدهم وصفعه على عينيه وانهال عليه آخر بالأسئلة.

ـ ماذا تعمل ياثائر؟

ـ طالب مدرسة .

يقال أنك الأول في المدرسة .

ـ لا لست الأول .

ـ إذا ستكون الأول عندنا.

ـ لاأظن .

توقع ثائر لكمة على بطنه. تصور عذابا شديداً سينزل به. لكنهم تركوه وسط الصمت والظلام لإرهاق أعصابه.

امتدت يد وأمسكته من ذراعه واقتادته عبر ممر طويل , تخيله ضيقاٍ جدا لأن جسده كان سيتمزق وهو يحتك بالجدران حتى توقفت اليد عن دفعه. سمع صوت أحدهم: 

هل ترى؟

ـ كيف أرى والعصبة أكلت عينيَّ؟

فلطمته يد قوية وسمينة ثم دفعته نحو حائط. فشعر بدوار شديد وغثيان. ولكن اليد لم تمهله , فشعر بها تفتح بابا وسمع صريراً حاداً وكأنه يحدث داخل رأسه. وامتدت اليد ثانية وانتشلت العصبة عن عينيه ,وفكت القيد من يديه, وأحس بلبطة قوية على مؤخرته, فوقع على كومة من الأشخاص. لم يكن ثائر يرى شيئا. فكل ماحوله كان مظلما. وأحس بالباب يعود للصرير الحاد والقوي, فلم يلتفت. كان كل ماحوله يتآمر على عذابه.. وأحس أنه محشور في غرفة ضيقة مع مجموعة

 .أشخاص. قال أحدهم: لاحول ولا قوة إلا بالله. أي ليلة نحس هذه؟ لايمر يوم دون سجين جديد كان الشاب يتحدث بلهجة سورية جلس القرفصاء وقال:

ـ عفوا يا أخ لسنا مزعوجين منك وإنما من أولئك القذرين.

قال ثائر: أين نحن؟

ـ ألم تعرف حتى الآن أنك مسجون؟

كان (الكوشنر) بارداً جداً.. وكانت الريح تصفر في أنحائه. فالتف السوري بالبطانية مع ثائر. نظر السوري إلى ثائرر, فشعر أنه حائر متردد, فقال له : هيء نفسك يبدو أنهم عادوا الآن.. لم يكد الشاب ينهي حديثه حتى اندفع الباب بقوة.. أشارجندي لثائر بالخروج. فنظر ثائر  إلى صديقه بعينين خائفتين. فتح الجندي بابا ودفعه إلى الداخل. 

كانت الغرفة واسعة والمحقق الذي يجلس فيها يتأمل خريطة كبيرة معلقة على الجدار خلف مكتبه. لم يدر ظهره وكأنه لم ينتبه لوجود ثائر. ثم حوَّل بصره عن الخريطة وتطلع إليه . تأمله للحظة.. ركز عينيه في عيني ثائر.. لم يستطع ثائر أن يفسر مافي عينيّ الضابط اللتين تشبهان عيني قط هرم . ثم تحولت عينا الضابط إلى قدمي ياسر ثم ساقيه ثم صدره ثم وبشكل فجائي عاد ليسأله عن اسمه.

ـ اسمك الكامل ؟

ـ ثائر الخشن.

ـ الاسم الحقيقي.

ـ ثائر محمد الخشن .

ـ إلى أي حزب تنتمي ؟

ـ لاأنتمي لأي حزب

ماعلاقتك بعناصر منظمة العمل الشيوعي ؟ ـ

بعضهم أصدقاء مدرسة. وبعضهم أقرباء. ولا أعرف منهم إلا القليل ممن هم في سنِّي. ـ

ماعلاقتك بفواز مسعود؟

لاعلاقة لي به نحن أبناء قرية واحدة لكنني نادراً ما أراه فأنا أعمل في مخبز ببيروت لأعيل عائلتي والدي مريض وأنا أكبر إخوتي  

ـ والغزال ؟

ـ أسمع عنه ولا أراه فهو يكبرني سناً على ماأعتقد.

ـ وفراس ؟

تجهم وجه ثائر وارتبك. وحاول أن يخفي ارتباكه. فهو يعرف فراس جيداً قال لنفسه: ومن لايعرف فراس؟ أسطورة النضال والفكاهة والبديهة الحاضرة .

أنكر ثائر معرفته بفراس وكان قد جهز رده سلفا فيما لو عذبوه من أجل الاعتراف

وهو أن يقول لهم: بأنه لايعرف اسمه الحركي وإنما يعرف الاسم الحقيقي له . 

فانتقل المحقق لسؤاله عن كرّار, وسراب

فقال: 

ـ لا أعرفه وكان فعلا لايعرف أن كرّار هو الاسم الحركي لأحد المقاومين.

كانت ردود ثائر حازمة وسريعة 

تركه المحقق ومضى.. ثم اقتادوه إلى (الكوشنر) حيث يوجد غالب. دفع جندي الباب بقوة وقال لغالب:  جاءك زوار وقذف ستة أجساد متتالية للداخل وانسحب وهو يغلق الباب بقوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى