من إشكاليات الترجمة الدينية.. تعدد المعاني وتعدد الإيدولوجيات (13)

أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي – مصر  

يمكن للكلمة الواحدة أن تكون لها معانٍ متعددة، غير أن السياق هو الذي يحكم على معنى معين دون غيره، يكون أكثر مناسبة من غيره. ولكن يحدث أحيانا أن أكثر من معنى يصلح لنفس السياق.على سبيل المثال : (قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم) – تعالوا فعل أمر من المجيء، لكنه قد يكون بمعنى (ارتقوا) أي فعل أمر من التعالى… والمعنى إما : أقبلوا أتل عليكم، وإما ارتقوا عن جواذب النفس و صفوا أرواحكم حتى تكونوا جاهزين لكي أتلو عليكم…

غير أن بعض الألفاظ الدينية تعتبر مصطلحات لها معنىً وقفيٌمختص بها، وحتى لو كان السياق يسمح بتعدد المعاني من الناحية اللغوية، فلا يسمح به من الناحية الاصطلاحية. فمثلا : (الصلاة)، تعنى الدعاء والقربات، وتعني كذلك الفريضة المعروفة والركن الثاني من الإسلام. فإذا رأيناها في قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) فهمنا معناها الدعاء. أما في آيات (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) لا يمكن أن يكون معناها سوى الفريضة والركن.

تظهر المشكلة جلية في لفظة (الإسلام)،؛ فالإسلام يعني الخضوع، والاستسلام من الناحية اللغوية العامة/ ولكنه في الاصطلاح له عدة معاني :
– اسم علم proper noun على الدين الخاتم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم…
– صفة لدين كل الأنبياء وأتباعهم (واشهدوا بأنا مسلمون – الحواريين) و أسلمت مع سليمان – بلقيس .- “إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ “ (البقرة 131) إبراهيم .. الخ.
– صفة لحالة أدنى من الإيمان والإحسان كما في حديث جبريل جاءكم يعلمكم دينكم. (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ “ ( الحجرات 14 )
– صفة لحالة درجة أعلى من التقوى ، في قوله تعالى : ” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ “ ( آل عمران 102 ) .
– حالة العدالة في مقابل الجور والظلم: : ” وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا “ (الجن 14 – 15)

وكما تلاحظ لا يستقيم أن تضع معنى اصطلاحيا مما سبق مكان الآخر، فلا يقال مثلا إن إبراهيم من أتباع محمد عليهما السلام.

– المشكلة تأتي في آية فاصلة/ وهي آية: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

فالآية هنا تستخدم (الإسلام) بالمعنى الاصطلاحي الأول وهو دين التوحيد الخاتم وهو اسم علم وليس صفة. … لكن الآية تزعج الكثيرين خصوصا في الغرب… لأن هذه الآية ومعها آيات أخرى تثبت معناها (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) تقول بكل صراحة ووضوح أن النجاة والخلاص salvation هي للمؤمنين بدين التوحيد الخاتم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وليس غيره، مهما كان أتباع الأديان الأخرى على درجات من الأخلاق والمعاملات الحسنة… ولا يكفي خضوعهم واستسلامهم (إسلامهم) لمعبود واحد قادر بغير توحيد دين الإسلام المعروف.

من المهم هنا ملاحظة أننا لا نتدخل في مآل الصالحين من أصحاب الديانات الأخرى، فأمرهم إلى الله، وهو أعلم بهم. لكننا نؤكد على معنى آية عظيمة من كتاب الله، وإلا فما كانت حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مخالفة قومه، وهم كانوا على توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية..(للتمييز بينهما نحتاج بوست خاص).

– حسنا سؤالنا اليومي، ماذا يفعل المترجم مع لفظة (الإسلام هنا)؟ هل يذكرها كاسم علم propernoun بحرف استهلالي كبير capital letter هكذا Islam أم يستخدم معنى آخر؟
فلنرى:

Sahih International: Indeed, the religion in the sight of Allah is Islam.
Shakir: Surely the (true) religion with Allah is Islam

Muhammad Sarwar: In the sight of God Islam is the religion.

Mohsin Khan: Truly, the religion with Allah is Islam.

Arberry: The true religion with God is Islam.

هذه الترجمات الخمس – بما فيها أربري اليهودي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة كامبريدج- استخدموا Islam بالعلمية الواضحة وبدون أي إضافات للتأكيد على أنه الدين المعروف ولا حاجة لبيانه..

Pickthall: Lo! religion with Allah (is) the Surrender (to His Will and Guidance).
من العجيب أن بكتول المسلم، يتجنب لفظ Islam تماما و يستخدم المعنى اللغوي البعيد surrender الاستسلام لإرادة الله.. وهذا غريب لأن كل المؤمنين في الأرض مستسلمون لإدارة كيان أعلى- لكن هل هم على الحق؟

Yusuf Ali: The Religion before Allah is Islam (submission to His Will):

ويبدو أن عبد الله يوسف علي قد أراد ألا يغضب الآخرين، فاستخدم لفظة الإسلام Islam للعلمية لكنه شرحها بين القوسين أنها الخضوع لإرادة الله) وهو بهذا يقول إن أي خضوع هو إسلام، لكن هذا ليس المقصود من الآيةالتي تؤكد على تفرد الدين الخاتم.

نرى ترجمة أخيرة وهي ترجمة استاذي الدكتور محمد عبد الحليم (فهم القرآن Understanding the Quran) والرجل عالم كبير وقد أشرف على رسالتي للماجيستير بجامعة لندن سنة 2003 ، ورغم توقيري وتقديري له، إلا أنني أختلف معه اختلافا كبيرا في ترجمته لهذه الآية:
True Religion, in God’s eyes, isislam: [devotiontoHimalone].

فاعتراضاتي عليها تشمل استخدامه للفظ God بدلا من Allah واستخدامه ل God’s eyes بتمثيل استعاري بدلا من (عند)، والأهم استخدامه للفظة (الإسلام) ب حرف استهلالي صغير small letter ليشير إلى أنه ليس الإسلام المعروف، ويزيد الطين بلة أن يضع نقطتين colon تفسيريتين ويكتب بعدهما المقصود (الإخلاص له وحده)… وبهذا خرج من المعنى الاصطلاحي الذي أرادته الآية… ثم وضع حاشية يقول فيها إن من معاني الإسلام الإخلاص كما في القاموس المحيط… ونحن نعرف أنه من معاني الكلمة، ولكن السياق هنا يحتم المعنى الاصطلاحي وليس اللغوي..

والدكتور عبد الحليم بترجمته هذه يمثل إيديولوجية تعرف بالاعتذاريةapologetic وهي التي تسعى للاعتذار عن الفهم الأصولي لبعض الكلمات ومحاولة تمييع معناها مثل الإسلام، والجهاد والحجاب، إلى غير ذلك… وربما في هذا تأثر بالهجمة الغربية على الإسلام..

يتبقى سؤال واحد؛ ما يضير الآخرين إن قلنا إن الإسلام هو الدين الوحيد الصحيح؟ فالحقيقة أن أصحاب كل دين يقولون هذا عن دينهم، وإلا فلم يؤمنون به؟ الواقع هو أن بعض المعاصرين درسوا مناهج البحث في الأديان في الغرب ووجدوا أن الأديان تنقسم إلى ثلاثة أنواع بحسب رؤيتها لخلاص الإنسان salvation (والخلاص مفهوم مسيحي أقرب في الإسلام لدخول الجنة والابتعاد عن النار) النوع الأول: الأديان المغلقة exclusive التي تخرج الآخرين من دائرة الخلاص. النوع الثاني الأديان المفتوحة Inclusive التي ترى أنهم ناجون وكل من يعبد إلها كذلك من الناجين. النوع الثالث الأديان التعددية Pluralist وهي التي ترى الخلاص لأتباعها ولكن عبر مسارات مختلفة وليس طريقا واحدا. ويبدو أن المعاصرين قد انزعجوا من تصنيف الإسلام في الخانة الأولى، فأرادوا أن يدافعوا عنه – بحسن نية – فميّعوا الحقائق.. ورأيي الشخصي هو عدم قبول التقسيم ابتداء، لأن رؤية الخلاص عند المسلمين مختلفة عن مفهومها عند الغرب المسيحي واليهودي. وهذا يحتاج تفصيل أكثر ليس هذا مجاله، وربما نفرد له مقالاآخر إن شاء الله.

والله أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى