استبن طريقك.. طبيب الغلابة (2)

رضا راشد |باحث في الأزهر الشريف

(محمد مشالي ) حلقة واحدة في برنامج سلطت عليه أضواؤها كانت كفيلة بأن تدع ألسنة الناس تلهج بالدعاء للرجل والثناء عليه، وإنما يدل هذا على أن القيم العليا والأخلاق الحميدة لا تزال تحظى من الناس بالتقدير والتكريم، حتى في العصر الذي طغت فيه الماديات وطمت، حتى رأينا ما يجسد عبودية الناس للدرهم والدينار كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة ” .

وما كان ذلك التقدير إلا لأنهم رأوا رجلا لا يتعبد لمثل ما تعبدوا له من دراهمهم ودنانيرهم فألقى بالدنيا خلف ظهره ودبر أذنه، فهو يأبى كل الإباء وفود المال عليه حتى ولو لم يكن من جيوب الفقراء، بل كان جائزة أو مكافأة .

ولأن الضد يظهر حسنه الضد فقد كان من أهم أسباب التقدير والاحترام الذي حظي به الرجل ما يعمد إليه كثير من الناس في مثل هذا المقام من المقارنة بينه وبين غيره ممن عاشوا بالطب اكتسابا.

ولست أعني بهؤلاء كل طبيب شريف لم يبلغ من الزهد ما بلغ الدكتور المشالي (فتلك قمة عليا لا يستطيعها إلا الأفذاذ من الرجال،وقليل ماهم  وفي الوقت نفسه لم ينحدر لهذا المستوى الحيواني الذي سيأتيكم نبؤه فيما يلي من السطور .

ولا أعني أيضا بمن يعيش بالطب اكتسابا: من يستوفي من المريض أجرا مكافئا لتعبه، ثم هو بعدُ لا يألو جهدا في النصح لمرضاه، مبتغيا كل السبل للتخفيف عنهم ومواساتهم .

الأطباء اكتسابا:
وإنما أعني ذلك الصنف الذي تجسدت فيه الحيوانية حتى احتلت كل شيء فيهم إلا هيئتهم، فهم الحيوان في مسلاخ إنسان ،بل هم أضل، ممن جعلوا همهك امتصاص دماء مرضاهم ليحيلوها دراهم ودنانير تمتلى بها جيوبهم وتتكدس بها في البنوك أرصدتهم،

هؤلاء الذين ائتمنوا على أجساد المسلمين ولكنهم يخونون تلك الأمانةسواء: في أجرهم المبالغ فيه الذي لا يتناسب البتة مع ما يبذلونه من جهد =أو فيما يكتبون من أدوية لا يحتاجها المريض؛ زيادة في كسب الصيدلية التى يشارك صاحبها الربح أو يشاركه ملكها، أو فيما يكتبون من أدوية غالية الثمن مع أن غيرها- مما لا يقل عنها كفاءة- أرخص منها، يقترفون ذلك لا لشيء إلا للحصول على عمولة من الشركة المنتجة الدواء الغالي (حدثنى من لا أتهم في دينه بأن طبيبا يتعمد كتابة نوع من المضادات الحيوية، مع أن بديله لا يبلغ سعره ربع سعر الأول؛ لأنه يتعامل مع الشركة المنتجة ويحصل على عمولة منها !! وأن هذه العمولة مرة كانت رحلة عمرة، وثانية كانت رحلة سياحية لشرم الشيخ عشرة أيام في السنة، وثالثة كانت ديب فريزر!)، أو فيما يطلبون من أشعة وتحاليل من مراكز بعينه، فإن لم يكن التحليل أو الأشعة من هذه المراكز بعينها لم يبالوا أن يعيدوها مرة أخرى(حدثت معي أنا شخصيا أن نسي الطبيب المعالج التوصية بمركز التحاليل الذي يتعامل معه، فلما أريته التحاليل طلب منى إعادتها من مركز كذا حتى يتأكد – زعم – من النتيجة) ناهيك عمن لا يدري حالة المريض فيمنعه الحياء أن يقول(( لا أدري)) فيكتب أي دواء كيفما اتفق له، لا يبالي بما يحدثه هذا الدواء الكذب من مضار عديدة في الجسد المنهك بالأمراض .

هذه بعض الصور من خيانات الأطباء للأمانة التي حملوها ،يرتكبونها مع من يطرق أبواب عيادتهم، فإن سألت عن خيانتهم للأمانة مع المرضى الذين يفدون عليهم في المستشفيات العامة فحدث ولا حرج: فهذا يزجر المريض،وذاك يتأخر عنهم أو يغيب غير مبال،وذلك يفحص الخمسين مريضا في أقل من نصف ساعة…وهلم شرا .

لقد جعل هؤلاء من مهنة الطب السامية مجرد مشروع تجاري لا هدف له إلا تكديس الأموال ممن يملكونها وممن لا يملكونها . وإذ ذاك: فلا مكان للفقراء في مستشفى، ولا فرصة لهم لعلاج، ولا أمل لهم في دواء، إلا أن يكون هذا الدواء أن يموتوا فربما كان موتهم مريحا لعلية القوم من آهات توجعاتهم التي تزعج السادة الأغنياء.وكأن لسان حال هؤلاء المتبرمين بالمرضى الفقراء :
لماذا جئتم إلى الدنيا 

ألا فارقتمونا فأرحتم واسترحتم؟!!!

لقد حصر هؤلاء الأطباء المتكسبون بالطب سبيلا واحدا يتوسل به المرضى إليهم؛ أولا وهو المال، فإن لم يكن: فلا شفيع لديهم ولا وسيط إليهم…فلا يتردد أحدهم بأن يرفض إجراء عملية جراحية لمريض لا يملك المال أو جزءا منه غير عابئ بما قد يترتب على ذلك من عواقب صحية وخيمة (لقد أمر مدير مستشفى استثماري الممرضين والعمال برمي مريض على قارعة الطريق لأنه فقير!!).

هذا واقع مر نعيشه، ولا تقل لي هذه حالات استثنائية لا تعد قاعدة، بل هي التى كادت تصبح قاعدة التعامل في مجال الطب بما ينذر بانهيار منظومة القيم الاخلاقية المستمدة من ديننا والتى هي عماد الأمم :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فيا إخوتى الأطباء:
أعلم كل العلم أنكم مظلومون، وأن لكم الحق المطلق في أن تعيشوا حياة كريمة تكافئ كدكم وكفاحكم حتى بلغتم ما بلغتموه، وأنكم وُجِدتُّم في أمة لا تكرم الطبيب ولا المعلم ولا تُعْنَى بشأنهما، فهي تضن عليهم بما تسخو على غيرهم ممن لا يخبون في ركابكم ولا يتعلقون بأذيالكم بل ولا يمشون في ترابهم .

ولكن :

أعيذكم بالله أن تذبحوا الناس بسيف ذُبِحتُم أنتم به. فأبقُوا على أنفسكم شيئا من إنسانيتها، وزكوا عن عملكم بأن تجعلوا فيه حقا للسائل والمحروم ، وما المحروم هنا إلا فقير تكاثرت العلل على جسده، ثم قصرت به يده عن التداوي فأضحى ضجيع الفراش وضاعت بمرضه أسرة لا كافل لها سواه. واعلموا أن ليس كل الكسب مالا تمتلئ به جيوبكم، بل إنَّ دعوةً يلهج بها لسان مضطر ربما كانت لك خيرا من الدنيا وما فيها.

فماذا عليكم لو خصصتم يوما في الأسبوع للفقراء والمساكين أو خصصتم ساعة في كل يوم لعلاجهم دونما جرح لمشاعرهم ؟

وماذا عليكم لو اهتممتم بمرضى المستشفيات العامة اهتمامَكم بمرضى عياداتكم الخاصة؟

وماذا عليكم لو اقتصرتم بالمرضى على ما يحتاجونه فقط من الدواء؟

وماذا عليكم لو حددتم أجوركم بما يناسب جهودكم بلا مغالاة ؟

بهذا تَسْتَبْقون على أنفسكم شيئا من إنسانيتكم دونما تاثير على دخولكم وأموالكم ؟!!

واعلموا أن هذا- إن فعلتموه – واجب عليكم وليس منة تمنون بها على الفقراء والبؤساء،؛وضريبة تؤدونها إلى أمة طالما أنفقت عليكم من أموالها في مراحل تعليمكم المختلفة حتى غدوتم أطباء ؛فلا يحسن بكم نسيان هذا .

إن أي طبيب ينفق عليه حتى يتخرج آلاف الجنيهات، وما جاءت هذه الأموال إلا من أيدي الناس يدفعونها بأي سبيل كان :ضرائب، أو تنمية موارد، أو رسوما ؛ ليكون منها ميزانية الدولة التى تخصص جزءا منها للتعليم ومنه كليات الطب ، فحين يطلب من الطبيب القيام بدوره في مداواة فقراء المرضى في المستشفيات العامة فإنما هو بذلك يرد جميلا أسدي إليه سالفا وليس يبتدئ جميلا منه للناس.فليكن الأطباء على ذكر كن هذا .

ويا أمتى الحبيبة
إن أي أمة لا ترتقي في معارج الحضارة إلا بسلامة عقلها وسلامة جسدها، ولا سلامة للعقل بلا تعليم، ولا سلامة للجسد بلا طب، وإن مدار التعليم على المعلم، ومدار الطب على الطبيب؛ فأكرمي أطباءك ومعلميك وأحسني إعدادهم تضمنى لك مكانا بين الأمم، وإلا فهو الشر الوبيل والداء المستطير:

إن المعلم والطبيب كلاهما
لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه
واصبر لجهلك إن جفوت معلما

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى