أدب

حلم دبابة ميّتة

قصة: السيد حمزة
السراب حط على الأرض شرقاً وغرباً، الجو حار، نفخت الدبابة المذبوحة .. أطرقت قليلاً، بلّلت سبابتها بريقها، مدّت أصبعها خلف قفاها، كتلميذة خائبة، تمحوا الاسم المدقوق على ظهر البرج، تآكل أصبعها!!! ولم ينمح المنقوش بالدم، زهقت الدبابة ، رفست قوالب طوب الطفلة ،التى تحرسها من جهة القناة؛ فزع حشد الأطفال الملتفّين حولها، هرعوا إلى الأتوبيس الواقف على الإسفلت، ينفخ أيصاً. تسلّلت ببطء يائسة، ركبت الطريق الإسفلتى، اتجهت نحو معدية الفردان، كل من رآها.. تسير تخرخش بقبقابها المتهالك، تُحدث تزييقاً عالياً، وصريراً مزعجاً، يفرّ مخافة العفاريت أو الويل. العربات المقابلة لها على الإسفلت، هجّت نعاجاً شاردة، على غير هدى فى الصحراء، أطلت بماسورتها على مهبط المعدية، كادت العيون تسقط من المحاجر، سقطت بالفعل الأجساد.
ابتسمت الدبابة، لكن سرعان ماقطّبت بين حاجبيها، عبست لمّا آلمتها شفتها المشرومة من دانته!!! نطّت السيارات بمختلف أنواعها، دون تفكير فى القناة؛ هأهأت بالكاد، وهى تضغط على بطنها المفتوحة، تنزّ الصدأ.
قفزت على المعدية، انطلقت بها إلى البر الغربى، صاح الواقفون على رصيف المعدية:
_ الدبابة راكبها عفريت ؟!!
لم يستطع صف العربات الواقف، ينتظر دوره للعبور شرقاً الفرار، تخبّطوا كعساكر “البولينج” حين تركلهم الكرة الثقيلة، داستهم.. وتلفّتت داهية، راحت ترسل القبلات الحميمات، أشعلت الحب فى نفوس الطيور.. والزروع.. والحيوانات.. والبشر؛ ماتوا ولهاً فى أماكنهم، لمحت النصب التذكارى لجنود الحروب القريبة والبعيدة “سونكى البندقية” قبالة الإسماعيلية، المشرع يبقر بطن الفصاء، بصقت عليه اهتز!!! لم يقع، قبّلته وقع. طارت صورالبانوراما.. والجداريات، عامت على صفحة الماء صورالجنودالذين…..والذين….. وهياكل المدافع وبقايا الطائرات، وغاصت إلى القاع المجنزرات و….. و…..
فرمتها رفّاسات لنشات مرشدين القناة، وناقلات البترول، وحاملات الطائرات، عملت منها كُبّيبة وكفتة ؟!!
*******
وقفت وسط الزروع.. والطيور .. والحيوانات.. والبشر، ابتسمت.. وقالت :
_ تعرفوا .. إن العشق قاتل ؟؟؟!
تهارشت الزروع:
_ عشقناك … وخلاص .
غرّدت الطيور :
_ روحنا متعلقهبيكى .
نعّرت الحيوانات :
_ أنت أبونا وأمنا.
شهقوا البشر ودبُّوا على صدورهم :
_ وميّتين فى دباديبك .
قالت المعشوقة ، بعد ما حسّست على رجلها ، وأمسكت نحْرها :
_ أموت فيكم ،وحياتىبيكم .. شربة ميّه .. وبيته .
حطّت الطيور على جنبها ،تهفهف عليه محبّة، والزروع.. قبّلت خدّها، وطالت الحيوانات الخد الثانى . والبشر باسوا رجلها الوجعانة ؛ قلعت “انْدرويرها ” الدبابة، هلّلوا ملوّحين .. انحنت.. أشاروا لها على نبع المياة ؛ وبيته .
تركتهم فرحانين، مشت حتى المجرى ، نزلت بدلال شربت، ملأت بطنها، استحمّت.. وطلعت ، هزّت جسمها برعشة وعافية، شكل الكلب المبلول.. تقاطرالماء على الأرض، انبسطت جداً .. رقدت بعرض السكة، تمرّغت .. لعل الاسم يلطّخ بالطين .
قامت مرتاحة شوية، راحت بتؤدة خبّطت على باب بيته، فتح لها عيّل صغير فى يده كتاب، نتشته.. لم تجد فيه صورتها ولا اسمها !!! ضحكت بينها وبين نفسها. سألته :
_ أنت .. ابن مين يا عيّل ؟
قال لها :
_ أنا .. ابنه .
قالت له :
_ ناد عليه .
رد الولد :
_ أبويا راح يشتغل .
ضربت الدبابة جدار البيت .. وقع . تعرّى كل ما فيه.. لخلق الله. جرى الولد لحضن أمه ..التى شافتها من ظهرها ، سألت ابنها :
_ هىّ .. قالت لك إيه ؟؟؟
قال لها الولد :
_ سألت عن أبويا .
لطمت خدّها وصوّتت وقالت :
_ ربنا يسترها عليك يا روحى .. .
*******
نزلت الدبابة المجرى أخذت غطساً آخر، شربت ..وخرجت فايقة .. ترسل القبلات لكل المبانى الواقفة ، تضرب لها تعظيم سلام ..عظّم لها كل الناس الناظرين من الشبابيك و” البلكونات” صفّق لها الماشون .. الذين هلّلو :
_ الدبابة رايحه المتحف الحربى ..فى القلعة ، زهقت من الوقفة لوحدها فى البر الشرقى !!!
اسمه مكتوب على قفاها ، صرخوا به .. اغتاظت.. قالت فى سرّها :
_ يا ولاد الجزمة.. هو كان ورثنى عن أبوه .؟
جرت أخذت فى وشّها القلعة ، وطائرتين من جنب البانوراما الجديدة ، لفّت عليه “الإرة”. كانت تحط عند العربان، سكان الحضر والبوادى، تأكل وتشرب عندهم ، وتسوّى معاهم دحيّه “فرانكو” باتتفى فراشهم الناعم .. حلمت به .. بكّرت قلقة، رحلت إلى بلد آخر ،ربما يكون فيه، أكلت وشربت وقضت حاجتها فى بيت أ دبهم، سألت عليه. اغتمّت فى قعر بطنها، لمّا وجدته رحل للأرض المجاورة. بكت.. رحلت.. تفاولت بالسم الهارى، وشربت المنقوع.. مصّت سيرته من تحت ضرسها ،وتقهْونت . قالوا لها :
_ ويش ..بدّك منه ؟؟؟
قالت رافعة كتفيها عاوجة رقبتها :
_ عيْزاهفى كلمتين .. من زمان .
قالوا لها بعبط ..بخبث ..بخيبة :
_ روّح بلده فى سحّارة .. تعيشى من العمر مليون سنة .
شهقت مندهشة ، وقالت وهى ماسكة ذقنها ، وسبابتها المبرّية تحت شفتها المشرومة :
_ مين عملها معاه ؟!!
انكســـــــــــــــــــــــفوا.
وقفت .. تأمّلت .. ابتسمت وغلبها الضحك. وهى راجعة.. كل من يقابلها يحس سعادتها.. التى فشلت فى مداراتها.. صاح بعضهم :
_ الدبابة زهقت من الوقفة فى المتحف.. راجعه تانىالبر الشرقى !!!
اتسعت بسمتها.. قهقهت حتى أن الزغطّة.. أمسكتها فترة طويلة،وجدتا لنسوة، يلبسن جلابيب الحداد.. جنب الجدارالواقع؛ شددن رءوسهن بالطرّات السود، لفت نظرها تراب الجنازة، يتصاعد من أحد أركان القرية، أسرعت إلى المقابر .
كان الملقّن يدعوا :
_ اللهم اسكنه فسيح جنّاتك .
رفعت ماسورتها لأعلى ، هوت بها على مؤخّرته ، انطلق مسرعاً ، ومن خلفه المشيعون ، تفرّقوا فى أنحاء الجبّانة ، مدّت يدها من باب المقبرة ، جذبت الجسد الملفوف بالبياض ، هبشت غطاء رأسه ، نظرت إلى الوجه الشاحب المغمض العينين ، لطشته بالكف ؛ بعد أن تحسّست رجلها ونحرها ..
ومشت …
مطمئنة …
تعبث .
كان العيال يلعبون لعبة الحرب ، يفرقعون “البُمب” ويكبّرون رافعين العلم المعمول، من جلباب أحدهم على كومة “السباخ”. تربّطت الدبابة فى وسط الحلقة المشتعلة بالصياح . ضرب عيّل ” بُمْبة “فى رجلها التى تزك بها أوجعتها، بينما تابع رفاقه ضرب “البمب” والصواريخ المصنوعة من سلكة المواعين، المسروقة من الأمهات الفقيرات. تفكّكت المهتوكة.. تمزّقت أحشاؤها. هلّل العيال ، وكبّروا “فحتوا” ودفنوها فى سابع أرض .. جنب…
كومة …
السباخ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى