لطيفة الحاج في “نواقيس العزلة” بين فانتازيا الحدث وفانتازيا الثقافة (1 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

في حكاية تعيد لشهرزاد صهوة السرد، تطلّ علينا الكاتبة الإماراتية لطيفة الحاج، برواية تحمل عنواناً رئيسياً هو (نواقيس العزلة) وعنواناً فرعياً هو (تبّاً للروايات)(1)، وتنوس الحكاية بين الثيمتين اللتين يحيل عليهما ذلكما العنوانان؛ حيث تعيش الشخصية الرئيسية التي تتولى زمام السرد (مريم) عزلتها الداخلية، بينما يحيط بها خارجياً أفراد أسرتها: ابنها وأبوها وأمها، وزوجها الروائي إضافة إلى أبطال الروايات الذين انسلخوا من الفضاء الطباعي، ليشاركوها أزمتها حتى النهاية:

(مريم) الساردة العائدة إلى بيت زوجها، مع ابنها، من مزرعة أبيها التي قضت فيها أسبوعين، تعاني صداعاً حاداً وأخلاطاً نفسية تتواتر بين الكوابيس وتهيّؤات اليقظة، مثلما تتواتر بين الحاضر الذي تعيشه في كنف زوجها الروائي، والماضي الذي عاشته في كنف أبيها وأمها.

تكشف الرواية أنّ مريم التي عاشت طفولتها (أو لعلّها لم تعشها) في مجتمع محافظ، تزوجت (راشد)، وأجهضت مرتين، وعانت من عقابيل ذلك، فأخذت حبوباً مهدئة وصفها لها الطبيب، بينما تعلّق زوجها الروائي بفكرة إنجاب ابن، ووجد في كتابة الروايات بعض العزاء، فكانت “تسع روايات في ست سنوات، تسعة أبناء”، ص30. أما هي فقد بقيت أسيرة الهلاوس التي تنقلها بغير انتظام بين الواقع الفني والخيال الفني، وبين عائلتها، وأبطال روايات راشد، أو روايات مشهورة قرأتها، في حبكة مثيرة، تكشف الكاتبة في نهايتها أنها غابت عن الوعي ثلاثة أيام في المستشفى، وفتحت عينيها على توءمين أنجبتهما، وأسرة محبة تحيط بها، وتمنحها السعادة والأمان.

كوازيمودو: من نوتردام إلى العين:

لا يتجاوز الفضاء الجغرافي لهذه الرواية مدينة العين الإماراتية، ولا تخترق إشاراتها المكانية هذا الفضاء، فالساردة تقف”أمام مدخل البناية التي نسكن فيها منذ زواجنا في منطقة عشارج”، ص16ـ 17، وتشير إلى أنّ “مستشفى توام ليس بعيداً عن شقتنا”، ص101، حتى إنّ كثيراً من استعاراتها المكانية مستحضرة من هذه المدينة؛ إذ تخاطب مريم التي تنصحها أن تكون ثقيلة: “لا تخشي على ثقلي، إنني جبل، أثقل من جبل حفيت، والفضل لك”، ص16.

وتستعين لطيفة الحاج في تأثيث مكانها الروائي بالأدوات والأصوات والروائح، مستثمرة دلالاتها إلى أقصى حدّ ممكن، فهي تشير مثلاً إلى شرخ نبت في طرف المرآة بين ليلة وضحاها، وتصرّ على أن تستبدل بها مرآة جديدة، رغم أنّ راشد يرى أنه مجرد شرخ، فمريم لا تحبّ الشروخ، والشروخ هنا ليست في المرآة فقد، بل في الروح التي ثلمتها غوائل الغيرة والإجهاض المتكرر التي تطبع إيقاع الرواية بطابعها: “يجب أن نستبدلها. لماذا؟ إنه مجرد شرخ. لا، لا أحب شكلها، يشتتني الجرح. تجاهليه، إنه لا يكاد يُرى يا مريم. لا أستطيع، ولا أحبّ الشروخ”، ص73.

ومثلما تمتزج الحكايات الواقعية بالخيالية يمتزج المكان الواقعي بالمكان الخيالي، وتبدي الساردة إعجابها بالمكان الذي يصنعه زوجها راشد في رواياته، وبوصفه “الدقيق للمنازل، كأنه دخلها كلها، وعرف كيف يقوم الجيران بترتيب غرف منازلهم، وتزيينها في مناسباتهم الخاصة، التفاصيل الحميمة في غرف المعيشة، والنوم وحتى الحمامات”، ص73، ويسيطر الوصف الروائي (داخل روايات راشد) على الساردة إلى درجة تجعلها تبحث حولها عن ذلك المكان: “(البكماء التي خطفها [لص النهار] تسكن شقة تقع في الطاابق الثاني). خرجتُ من الحمام، واتجهت إلى الشرفة. عيناي تدوران على جميع نوافذ وشرفات الشقق التي تقع في الطابق الثاني”، ص74.

كما تفيد الكاتبة من الأصوات والروائح في التأثيث، إذ تُقرع أجراس “كوازيمودو” بطل رواية “أحدب نوتردام”(2) في فضاء الرواية، بالإضافة إلى صراخ عبد الله ابن الساردة الذي لا يكاد يغيب عن ذلك الفضاء: “يعلو صراخ عبّودي، يكاد يمزّق طبلتي أذني، أصرخ: يكفي يا ولد.. بس.. مطارق تهوي على رأسي”، ص10.

وللرائحة حضور بارز أيضاً في هذا التأثيث، سواء أكانت رائحة جميلة أم غير جميلة، فالكاتبة تشتغل على جمالية الجمال اشتغالها على “جمالية القبح”، فتشير مرة إلى رائحة عباءة أم فطوم التي تستفزّ الذاكرة، ص2، بينما تشير مرات إلى رائحة التعب، ص72، ورائحة الخمر التي تفوح من أفواه السكارى، ص15، ورائحة العفونة والطعام الفاسد التي استقبلتها عند عتبة بيت الساردة، ص17، كما تشير إلى رائحة كوازيمودو التي تتسلل إلى جسدها من رواية أحدب نوتردام، ورائحة المتسولة التي تصل إلى ذاكرتها من إحدى روايات زوجها راشد:

“دخلت الحمام لأستحم، أبدو في حالة سيئة، رائحتي إفف، تشبه رائحة كوازي حين يبقى بلا استحمام لأيام، هه لذلك ابتسم وضمّني إليه، واضح أنه يعشق تلك الروائح، إنها تذكره برائحة محبوبته المتسولة”، ص72.

فإذا انتقلنا من الفضاء الجغرافي إلى الفضاء الطباعي وجدنا أنفسنا أمام عتبات متعددة منها الإهداء الذي يبدو شديد الصلة بالموضوع العام للرواية: “إلى أرواح الأجنّة التي تُجهض قسراً كلّ عام.. وإليه”. ص5، والتوطئة المأخوذة عن فرجينيا وولف(3) والتي تمتلك قدراً كبيراً من التمويه : “كلّ سر من أسرار الكاتب/ كلّ تجربة من تجارب حياته/ كلّ ميزة في فكره/ مكتوبة بوضوح في أعماقه”، ص7. هذا بالإضافة إلى العتبتين الأساسيتين اللتين هما الغلاف والعنوان. فالغلاف يغلب عليه اللون الرمادي الذي يتدرج نحو السواد، ويفتقر إلى الألوان القوية، يليق تماماً بامرأة لا تمتلك امتداداً، تشبه شجرة لا تمتلك جذوراً، امرأة تشبه تلك المرسومة على لوحة الغلاف، رأسها تملؤه الأخلاط والكوابيس، وعيناها غائرتان بانتظار حلم بعيد، وفمها مثل جرح مفتوح على حكايتي الألم والأمل.

أما فيما يتعلق بعنوان الرواية، فنحن أمام عنوان رئيسي هو “نواقيس العزلة”، يؤكّد المقولة العامة للرواية، ويسبر أغوار شخصية الساردة التي تقول عن نفسها: “نشأت منعزلة ومنطوية وجبانة”، ص13، وثمة عنوان فرعي، أراه جديراً بأن يكون رئيسياً، هو “تبّاً للروايات”؛ ذلك أنّ الروايات التي شكّلت لا وعيَ الساردة، بما فيها روايات راشد نفسه، صنعت جزءاً من أزمة الشخصية، ومن عالمها الكابوسي.

ولعلّ أكثر الروايات حضوراً في لا وعي الشخصية المأزومة كانت رواية “أحدب نوتردام” الذي تحوّل من قارع أجراس كنيسة في نوتردام إلى قارع جرس وحيد يقرعه في بيت الساردة، بل في رأسها، يطلّ في صورته التقليدية، متعلّقاً بحبله، فتعرفه مريم على الفور: “متعلّقاً بحبله ينزل ويجذبني (…) ألمح حدبة كبيرة على ظهره، تباً، إنه صورة طبق الأصل عن كوازيمودو في رواية أحدب نوتردام”، ص35. وتماماً مثلما يتحوّل كوازيمودو عند فيكتور هوغو من حكم الناس على مظهره إلى حكم أزميرالدا على جوهره، يتحول كذلك في نفس مريم، من مسخ إلى طفل كبير تغطيه عندما ينام. لنتأمل هذا الظهور المبكّر لكوزايمودو، بينما يده الخشنة تجذب الساردة إلى الأعلى: “يد خشنة تخنقني، تجذبني من خصري، وتحاول حملي لترقى بي إلى الحبل المتدلي من الجرس الكبير. إنه الأحدب مرة أخرى، بيده الأخرى الرشاد النحاسي الذي لا أعرف لماذا لا يفارقه. ابتعد عني أيها المسخ.”، ص41.

هذا المسخ يتحوّل فيما بعد إلى كائن أليف يتمدد قرب مريم على السرير، ويقترب منها بجرأة، أما هي فلم تعد تخافه: “ما عادت رؤيته تثير فيّ الرعب”، ص59، بل إنها تطلق عليه اسم “كوازي”، الذي يموّه نفسه بصور متعددة، على نحو ما نجد في السياق الذي تركض فيه مريم نحو غرفة ابنها عبد الله : “ركضت إلى غرفته الصغيرة، ووجدت راشد يجلس إلى يجلس على الأرض يهزّ منزّه، ولكنه كان أحدباً، كوازيييي لم أعد أخافك كما كنت أفعل”، ص71.

لقد انتقل كوازيمودو (كوازي)، بوساطة الألفة إلى صديق، يجفل من بكاء مريم “أكثر مما يجفل من بكاء عبودي”، ص 114؛ لذلك يصبح جديراً بأن تغطيه مثلما تغطي ابنها عندما يستسلم للنوم: “أقصد غرفة عبودي، أتأكد من أنه مغطى بشكل جيد، أراقب انتظام تنفسه، وحركة صدره، وألقي بلحاف على كوازي الذي استسلم للنوم”، ص123.

إنّ كوزيمودو الذي رافق الساردة في عالمها الكابوسي لم يتخلّ عنها حين عادت إلى الوعي، لقد كان حاضراً بقوّةِ الكابوس في لا وعيها، أما في وعيها فقد عاد بقوّةِ النبل الإنساني الذي حتّمَ عليه وداعها، كما يودّع الصديق صديقاً أثيراً، وذلك في السياق النهائي للرواية؛ ليكون وداعه لها، في الآن ذاته، وداعا للقارئ الذي ألف صحبتهما:

“رفعت بصري أترقب كوازيمودو متدلياً من الحبل في بطن الجرس الكبير يلوح لي برشاده، لكنني لم أجده. بقيت مشغولة البال عليه أتساءل عما حلّ به، لعله في الشقة يحرسها في غيابنا أنا وراشد. حين جلبوا عبد الله وميثا بعد ساعات من استفاقتي ووضعوهما على صدري رأيته يتسلق الحبل، وينظر نحونا مبتسماً، لوح لي برشاده، وغاب عني إلى الأبد”، ص187.

لقد كان الصوت المأزوم للساردة رافضاً لسيطرة كوازيمودو، وشخصيات روائية أخرى، على لا وعيها، لا سيّما أن كوازي بدأ يتداخل معها على أكثر من مستوى، وقد نجحت لطيفة الحاج في اللعب على هذا التداخل، فمزجت بين راشد وكوازي، كما رأينا في إشارة سابقة، وبينه وبين متسولة قرعت باب بيتها: “ثم استدارت وكانت هناك حدبة تبرز على ظهرها. يريد الأحدب التسلي إذن، ويظن أنه يستظرف معي”، ص56، وتوّلف توليفات إنسانية بينه وبين طفلها، مضيفة إليهما هذه المرة دمية عبودي (ميثانة): “لولا عبودي الذي انضمّت إليه صديقته ميثانة، وكوازي الذي يسلبني بحركاته البهلوانية، ويصم أذني بأجراسه كنتُ أصبت بالجنون”، ص154.

كما تؤلف لطيفة الحاج بين كوازيمودو وبين (غريغور سامسا) مسخ كافكا(4)، في مشاهد فانتازية مركبة، على نحو ما نجد في المشهدين التاليين:

  • “توقف المسخ الصرصار لوهلة ورمقني بطرف عينه المتناهية في الصغر، ورأيته يبتسم ابتسامة عريضة، كانت الأسنان أسنان كوازيمودو. تباً للروايات”، ص43.
  • “يتجه الأحدب نحو الجدار، يصبح رداؤه زلقاً لامعاً، تخرج أيدٍ قصيرة من جوانب ظهره، أصرخ حين تخونني يداي، وانزلق هاوية نحو الأسفل. تحول كوازيمودو إلى صرصار كبير. إنه يتحوّل إلى جريجور كافكا”، ص43.

(يتبع)…

………..

هوامش:

  • لطيفة الحاج: نواقيس العزلة ـ تبّاً للروايات، دار مداد للنشر والتوزيع، دبي، ط1، 2019.
  • رواية “أحدب نوتردام” للكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو (1802ـ 1885م) واحدة من أشهر الروايات التاريخية الرومانسية في الأدب العالمي، وهي تحكي حكاية الظلم الذي حاق بقارع أجراس كنيسة نوتردام كوازيمودو الذي وُلد أحدب مشوّهاً، وبقي رغم ما تعرّض له مخلصاً للنبل الإنساني، وما تضحياته المستمرة في سبيل أزميرالدا التي يحبها سوى تعبير عن انحيازه لذلك النبل الداخلي الذي يجعله إنساناً جميلاً.
  • فرجينيا وولف (1882ـ 1941م): كاتبة وناقدة إنكليزية شهيرة، من أوائل من اعتمد على لا وعي الشخصيات في الكتابة السردية، من أشهر رواياتها “مسز دللوي”.
  • غريغور سامسا: هو بطل رواية “المسخ” للكاتب الألماني فرانز كافكا (1883ـ 1924م)، وهي رواية قصيرة تدور حول تاجر يستيقظ صباحاً ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة، وتنتهي، وهو على تلك الحال، وتشير إلى تخلي الإنسان (أسرة غريغور) عن أخيه الإنسان عندما يفقد وضعه المادي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى