“بُكرا شي نهار” لياسمين حنّاوي.. رواية الحبّ في زمن الحرب (1 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

1 ـ تمهيد:

تنتمي رواية “بكرا شي نهار ـ أغنية مؤجلة”، لياسمين حنّاوي(1) موضوعياً إلى الروايات التي كتبت عن الحرب الظالمة التي تدور رحاها في سورية، وتختلف هذه الرواية عن كثيرٍ مما  قرأتُ في ذلك الإطار بكونها تترك مساحة كبيرة للحبّ الذي يكوّن إيقاعاً مهمّاً من إيقاعاتها، وتدور في جوهرها حول أسرة سورية نموذجية تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، لا تعاني من ويلات الفقر أو الحرب بشكل مباشر، ولكنها تنتمي بفطرتها إلى الخيار الوطني، وهي أسرة تتألف من الأب (وليد) والأم (أميرة) والابن (سامي) والابنة (سارة): تعيش هذه الأسرة مع أجواء الحرب، وتنتصر للحياة بفعل الموسيقى، مثلما تنتصر بفعل الحب الذي جمع بين وليد وأميرة، وبين سامي وسلمى (وزينب)، وبين سارة وزياد، إضافة إلى علاقات حب أخرى بين شخصيات ثانوية.

تلعب حبكة الرواية لعبة البناء الدائري للحكاية، فتبدأ المقدمة من أزمة سامي/ السارد الأساسي الذي يعلن: “غداً هو آخر أيامي في هذه الحياة. سأفارق الدنيا مجاهداً منتشياً عاشقاً”، ص13.ثم تعرض الروائية حكاية الحبّ والحرب، وتصور ويلات المذابح وجهاد النكاح، وتَشَوُّهِ النفوس، وتَشَتُّتِ الناس على مستوى الجغرافيا والولاءات الفكرية؛ لتعود بعد نحو مئتي صفحة، إثر وفاة والد سامي بالسرطان، إلى إعلان سامي الافتتاحي: “طالما أنك سلمت الروح إلى بارئها، وأسدل الستار على وجودك في الدنيا، فغداً هو يومي الأخير في هذه الدنيا. سأفارق الدّنيا منتشياً، ومجاهداً، عاشقاً”، ص206.

غير أن سامي الذي قرر أن يفجّر نفسه بين الإرهابيين دفاعاً عن سوريا، يتراجع عن قراره حتى لا يشبههم في شأن الاستهانة بالحياة. ولأنّ الكاتبة تريد ترسيخ معنى انتصار الحياة بالحب، فإن المستقبل الذي لا يظهر في صيغته اللغوية، يحضر رديفاً لتراجع سامي عن فكرة تفجير نفسه من خلال المقطع الأخير، في صورة لا تنقصها دلالة الإشراق: “وين بلاقيك يا بابا، بكرا بحطّك بالصورة، وبلوّن فيك أيامي، بفيّا ونورا، روح وخليك ضلّك عينيّ زورا.. بكرا شي نهار”، ص222.

2 ـ عتبات الرواية:

نبدأ بعتبة العنوان التي تتألف من مقطعين: أولهما عامّي، وثانيهما فصيح: بكرة شي نهار: أغنية المطربة اللبنانية جوليا بطرس التي تعطي إحساساً بأهمية هذه المغنية في نفس البطل سامي، وفي نفس الروائية أيضاً، بالإضافة إلى أهميتها في بناء حبكة الرواية، وهذا الإحساس لا يخيب لدى القارئ، لأنّ جوليا حاضرة دائماً في عناوين الفصول، وفي السرد، وفي توجيه الحكاية، كما سنرى لاحقاً، وحاضرة أيضاً في زمنٍ حاضر يبحث عن مستقبل؛ لذلك كان الجزء الثاني من العنوان: أغنية مؤجلة الذي يؤشر إلى انتظار فجر قادم لن يتأخر بزوغه، ولا سيّما أن عنوان الرواية هو عنوان الفصل الأخير، وأنّ السياق الروائي الختامي تتبعه كلمة (البداية)، لا النهاية، حتى يخطو المتلقي نحو ذلك الفجر المشرق، خارج إطار الرواية. ويبدو لي تجاور ثنائية العامية والفصحى مقبولاً، لأنّ طرفها الأول يقوم على محاكاة الأصل، وهو أمر له تسويغه، إلا إذا صبغ السرد بسمته، وهذا ما سنفصّل فيه القول عن الحديث عن لغة الرواية.

وتأتي عتبة الغلاف الذي يضم بالإضافة للتصديرين الكتابيين، وصورة الروائية، لوحةً فنية لريان عيّاد الجوهري تعرض خارطة سورية باللون الدموي الذي يحاصر الأب والأم والشعب والأحلام والبلاد، بينما تستند إلى خلفية خضراء؛ لتؤكّد أنّ الغد قادم على الرغم من بشاعة المجزرة. ومن أسفٍ أن الكاتبة لم تنتبه إلى أنّ لواء اسكنرون الذي سلبته تركيا ليس موجوداً في هذه الخارطة الحمراء، فقد جاء لونه مشابهاً للحدود البرية والبحرية التي تحيط بسورية.

فإذا انتقلنا إلى عتبة المقدمة، وجدنا تقديماً يشيد فيه د. نضال الصّالح بالرواية وحكايتها المشوقة التي تعي مغامرات الرواية العربية، كما يشيد بلغتها “إلى الحد الذي يشعر به القارئ معه أنه لا يقرأ رواية، بل يصغي إلى السيمفونية الثالثة للموسيقي البولوني هنريك غوريسكي، أو إلى بكائية أمٍّ أنهك روحها وجعٌ تضيق بجمره بلاد”، ص6.

أما عتبة الإهداء الّتي كنتُ أفضّل أن تسبق المقدّمة، فتهدي فيها ياسمين روايتها إلى روح أبيها، وإلى صوت جوليا، وهما عنصران تتجلّى أهميتهما في السرد، من خلال الاهتمام بالتظهير الإنساني المثالي لكل من شخصيتي الأب وليد، والمطربة جوليا بطرس.

 

3 ـ الماضي والحاضر والتّأسيس للمستقبل:

تعيش الشخصيات الروائية الماضي بكل أبعاده الثقافية والاجتماعية؛ حيث يحضر من خلال المكان الراسخ، والعادات والأطعمة والأغنيات، غير أنّ الروائية في بعض الأحيان تحتفل فيه احتفالاً مبالغاً فيه، وتحشد رموزه في سياقات متجاورة، تعرقل السرد، من أجل غاية سامية، لا تسوّغها الضرورة الفنية، ومنه السياق التالي الذي يشير فيه سامي إلى حديث الماضي “المرويّ على مسامعي من جدي كامل، عندما أدخل المرحوم عزيز خبازة صندوق الفرجة (…) وعندما كانت النزهة الأجمل هي لمسبح فارس في الكورنيش القديم، عهد أبو أمينة بائع الأنتيكات، وبانكو بائع العبيد، وجلال بائع الضنضرما، وأبو شكري بائع ألذّ عيران في العالم، وأبو علي عجمي بائع السمبوسك… إلخ”، ص137.

وإذا كان الحاضر يبرز من خلال التطور الذي تعرضه الأحداث والحوادث فإنّه يبدو في كثير من الأحيان طرفاً في ثنائية الأمس واليوم، وذلك من خلال استحضارات الذاكرة التي تواجه اللحظة الحاضرة حيث “أبناء نكاح الجهاد وغيرها من المسميات صاروا ظاهرة ملموسة”، ص136. ويمكن أن تشير إلى بعض الاستحضارات من خلال السياقين التاليين اللذين يؤثثان الماضي والحاضر بالصوت والرائحة:

  • “ما زال صوت محرك القارب المائي الذي يسير بنا في النهر الكبير الشمالي يرنُّ في أذني، وكأن القصة حصلت في الأمس”، ص52.
  • “كان هواؤنا نقياً صافياً مخلوطاً برائحة الياسمين، واليوم أضحى أصفر ملوثاً بكوليرا الدبابات والعبوات الناسفة، والخيانات المتتالية”، ص ص136.

أمّا المستقبل الّذي ما زال مجهولاً، فإن الكاتبة لم تعمل على تصوّره من خلال الاستباقات اللغوية التي يمكن أن ترسم ملامحه، ولكنها تركت ما يكفي من المؤشرات لنثق به، وننتظر مجتمع ما بعد الرواية الّذي سيكون أكثر توهجاً، وأقّل قلقاً، ما دامت نهاية الرواية مجرّد بداية جديدة.

وعلى الرغم من أنّ الزمن الواقعي كان بطيئاً جدّاً، خاصة في النصف الثاني من الرواية، فقد أفادت ياسمين حناوي، في أحيانٍ قليلة، من تقنيات تسريع الزمن السردي، فلجأت إلى التخليص على نحو ما نجد في عرض الأيام الثلاثة في حياة سامي وسلمى في السّياق التالي:

“رغم تخبطاتي الداخلية العميقة، وكالحلم الساحر، مضت الأيام الثلاثة برفقتها في كسب وأم الطيور والبدروسية وبحيرة 16 تشرين وغابات الفرلّق وسد بلوران، غنينا، عزفنا، وضحكنا، ورقصنا، وسبحنا، ومارسنا الجنون بعشرة أنواع، دون التفات لماض أو مستقبل”، ص56.

كما أفادت الروائية من تقنية الثغرة الزمنية التي تتجاوز زمناً بسرعة لا نهائية، لتعرض زمناً آخر في سياق سردي واحد، دون إشارة سردية إلى فترة فاصلة، ويمكن هنا أن نمثل بسياقين روائيين، يقفز الأول مباشرة من زمن قرار مصارحة سالم إلى الحديث معه، ويقفز الثاني من زمن حادثة الاغتصاب التي تعرّضت لها سلمى إلى حديثها عن تلك الحادثة:

  • “سألجأ كعادتي لسالم، لأصارحه بما لا أجرؤ على قوله حتى لنفسي:

ـ لقد أحببتها وانتهى الأمر (قلتُ).

ـ كيف؟ منذ متى؟ هل أنت متأكّد؟ (أجابني)”، ص18.

  • “أتخيل أن يكون خلف ستار الحزن ذلك حادثة اغتصاب مقيتة، تعرّضت لها سلمى على يد أفراد معدومي الإنسانية من جيش لحد.

ما زلتُ أذكر بوضوح تلك الحادثة في السابع عشر من أيار عام 1989 عندما اقتحموا منزلنا في كفر كلّا”، ص24.

وتشحن الروائية زمنها بكثافة نفسية تعبّر فيها عن مشاعر سامي تجاه الذات والمكان والشخصيات، عبر الاتّكاء على زمن محدد، ومن ذلك قوله عن شتاء اللاذقية: “يتميّز الشتاء في اللاذقية بطعم الفرح”، ص20. ومن ذلك أيضاً حديثه عن العلاقة بين خريف اللاذقية وخريف وليد، في سياق شاعري، قلّ أن يجود بمثله سرد ياسمين الحناوي بين صفحات الرواية: “لخريف عمرك وقع مميز على عائلتنا؛ تماماً كخريف اللاذقية، تتساقط زنابقه الوردية على أرض غاباتها… إلخ”، ص120. وتتّكئ الروائية في سياق آخر على ثياب سامي القديمة لتحمّل الزمن الماضي المشاعر الدافئة تجاهه، فنقرأ على لسان سامي: “لم أشأ يوماً أن أتخلى عن ثيابي القديمة، فمع كل قطعة عشت ذكرى جميلة”، ص20.

(يتبع)…

…………….

الهوامش:

  • ياسمين الحناوي: بكرا شي نهار (أغنية مؤجلة)، رواية، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، بيروت، ط1، 2020.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى