“بُكرا شي نهار” لياسمين حنّاوي.. رواية الحبّ في زمن الحرب (2 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

رابعاً ـ حدود المكان: الآن هنا:

تجري أحداث الرواية بين سورية المكان الأساسي، ولبنان الذي يشكّل الامتداد العاطفي، والترسيخ العملي لـ (سوا ربينا)، حيث يميل قلب كل من سامي وأخته سارة إلى لبنان: سامي المترجّح بين سلمى وزينب، وسارة التي عشقت زياد حدَّ الوله، وانتهت قصة حبهما بزواج رومانسي ناجح.

ويستطيع القارئ أن يلمس الاهتمام بالمكان، من خلال محطات تحيل عليه في الفضاءين الجغرافيين المشار إليهما، وبشكل خاص في الفضاء اللاذقاني عبر إشارات متعددة، منها ما يشير إلى “منزلنا في الرمل الشمالي”، ص15 ومنها ما يشير إلى “كسب العزيزة الممتلئة بذكريات الطفولة”، ص52. وحتى يناسب المكان مقولتي الحب والحرب اللتين تدور الرواية في فلكهما، فإن الحدث ينتقل من فضاء رومانسي يجمع عاشقين إلى فضاء إخباري يجمع المتطوعين المدافعين عن سورية، على نحو ما نرى في المقتبسين التاليين:

  • “سأدعوها في زيارتها المقبلة لشرب القهوة معي على طاولة واحدة، ولكن هذه المرة في مقهى (ناي)، فربما يمنحها تأثيراً رقيقاً يشبه الجمال الذي تنثره لنا”، ص16.
  • “على قمة جبلية تقارب الـ 1300 متر عن سطح البحر، ووسط منطقة غاية في الوعورة، وصعبة المسالك، وصلنا إلى محيط كبانة إحدى قرانا الغالية المطلة على سهل الغاب”، ص129.

وتنتبه الروائية إلى أمر يغفل عنه كثير من الروائيين؛ إذ تستثمر الوصف السردي في كثير من الأحيان، بديلاً عن الوصف الإنشائي الذي يتطلب توقفاً سردياً، فهي تجعل الوصف سياقاً سردياً بصرياً ينتقل إلينا عبر لغة الشخصية الساردة، من مثل السياق التالي: “كعادتي بقيت أتأمل الجدران الصفراء المنحنية، وأسير بعيني نحو الأرصفة التي حفظت ما يعلوها قطعة قطعة، فهنا بعض الفوانيس المعتّقة، وهناك ثمة قطع نحاسية قديمة”، ص37.

ومثلما احتفلت الروائية بتأثيث المكان بصرياً وشميّاً وصوتياً، كما رأينا في سياقات سابقة، فإنها احتفلت أيضاً بتأثيث ذاكرة المكان، عبر وصف المائدة في أكثر من مرة، وهي مائدة تحتوي عناصر موصوفة ذات قدرة على الغوص في ذاكرة القارئ، بسبب اعتمادها على المشترَك الّذي يكوّن ذاكرة وطن:

“وأنت تتناول وجبة عشائك الفاخرة المحضّرة بعناية لا متناهية، الخيار المغسول خمس مرات، والمقشّر والمقطّع كل قطعة توأم لأختها، وطبق اللبنة المغمور بالزيت تعلوه رشة من النعناع الميبّس، والفلفل الأحمر، والجبنة المشللة المحلاة بالمياه عدة مرات، إضافة للطماطم المشابهة في طريقة صفّها للخيار، ونوعان من الزيتون الأخضر المكسّر والأسود”، ص69.

كما تستثمر الروائية تقنية المفتوح والمغلق في تأثيث فضاء الرواية، عبر الإشارة إلى الصندوق الذي تلقاه سامي ضمن قائمة الهدايا في عيد ميلاده “محتوى متكامل من السعادة” ص84، غير أنّ القاصة لا تراوغنا، ولا تثير تشوّقنا لمعرفة محتوياته، بل سرعان ما يتم فتحه بشكل جماعي، ص ص84ـ 85، لنتعرف معاً إلى العناصر التالية: 

  • علبة صغيرة فيها سوار جلدي، تتوسطه قطعة فضية لامعة، محفورة عليها عبارة: يا شام عاد الصيف.
  • زجاجة عطرية من خليط المسك والزعفران والفانيليا والعود، مكتوب عليها باللون الذهبي: صاحب السمو.
  • كوب أبيض كُتب عليه: ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ ـ إلا رأيتُ خيالاً منك في الكاسِ.
  • صورة كبيرة تتسع لمئة صورة صغيرة: عمر سامي الكامل وذكريات طفولته وصداقته ورحلاته ومغامراته.
  • نظارة شمسية سوداء ري ـ بان تليق ببشرة سامي البيضاء.
  • كنزة بلون أحمر يميل للعنابي، ياقتها على شكل حرف V مرسوم عليها طائر الفينيق السوري.
  • بطاقة مكتوب عليها: كل يوم بيمرق بدعيلك.. بحطك بعيوني وما بشيلك.. وبعتم الليل بضويلك جوا بقلبي.. زينب.

ويلاحظ القارئ أنّ العناصر الواصفة الّتي يتألف منها كل موصوف تشير إلى اهتمام كبير بها، فللعلبة صفاتها، وللزجاجة العطرية ما يميّزها، ويصدق الأمر على بقية العناصر، غير أنّ ما يفاجئ القارئ أنّ الصندوق نفسه مُرسَل من زينب، بعد أن يتوقّع أن كل هذه الرومانسية تدلّ على شخصية أخرى هي سلمى التي تعزف الكمان، والتي تثير الإحساس بأنها الحب الحقيقي في حياة سامي.

 

خامساً ـ السرد والحكاية:

تقدّم الروائية حكايتها من خلال ساردٍ رجل، ولا تستأثر بأنوثة السرد الشهرزادية، على الرغم من انطواء ذلك التذكير على مخاطر كبيرة؛ إذ إنّ سيكولوجيا المرأة مغايرة تماماً لسيكولوجية الرجل، والنظامان اللغويان متغايران بفعل التربية الاجتماعية، وتحتاج المرأة حتى تعبّر بلسان الرجل إلى جهد قد لا يستطيعه الآخرون، شأنها في ذلك شأن الرجل الذي يعبّر عن المرأة. وباستثناءات قليلة، تتعلق بلغة الجسد، فقد نجحت “ياسمين” في هذه المغامرة، وقدّمت حكايتها بوساطة السارد الأساسي الذي كان سارداً مشاركاً لا شاهداً فقط، من خلال أربعة عشر فصلاً، تحمل جميعها عناوين أغانٍ لجوليا بطرس، وترتبط كلّ أغنية منها ارتباطاً عضوياً بحكاية الفصل الذي تمهّد له، وهي على التوالي: لمّا التقينا/ احكيلي عالسهر/ البحر الهادي/ وبينكسر هاللليل/ قالوا مشينا/ ع بالي حب كبير/ وين مسافر/ عم تغفى الساعات/ يا أيها الكبار/ ربما/ وبيمرق أيام/ جاية تودّعني/ اسودّ الليل/ بكرا شي نهار.

ولا يقتصر استثمار هذه الأغنيات على عنونة الفصول، ولا على نجاحها في التقديم للمتون الفصلية، بل يتعدّى ذلك إلى القيام بدور محفّز الأحداث، والتأثير على لغة السرد، ومن ذلك أغنية “يا ريت” التي تتم الإفادة منها في النسق اللغوي التالي: “يا ريته الماضي احترق والصار ما كان صار. أصبح من الضرورة بمكان أن أكمل كلماتها الآن، وأنا أمام هذه الطاولة الخشبية”، ص25، ومن ذلك أيضاً الإفادة من أغنية “احكي لي ع السهر” الّتي تتم الإفادة منها في صوغ المقتبس التالي: “وما زلت أتساءل حتى اللحظةِ عن تلك النسمة على الوتر التي رغبتُ فعلاً أن تزيل الضجر من بال الغريبة”، ص29، حتى إنّ الأحداث الفارقة في الراوية يُستعان فيها بالأغاني، ولنا أن نقرأ السرد التالي الذي يصف سارة، ويلازم إعلان سامي عن رغبته في التطوع: “إلا أن القدرة على التحكم التي تتمتع بها، قد مكنتها من السيطرة على لغة جسدها كل مرة ترعف بها، وعيناها تنضحان ألماً؛ لتقولا لي: وين مسافر؟ أوعى تسافر.. آخر مرة بقلّك هيك”، ص114، كما أنّ حالة المرض التي كانت تهدّد بغياب والد سامي تجعل السرد يمتزج بأغنية جوليا: “لو بتغيب بيخلص حلمي.. وبتضيع حدود المدى.. لا تغب أرجوك”، ص200.

ولعلّ العبارة التي اقتطفتها من مقدّمة د. نضال الصالح في بداية الدراسة، والتي يشبّه فيها السرد بالسيمفونية الثالثة للموسيقي البولوني هنريك غوريسكي، إنما يعود إلى احتفال السرد بأغنيات جوليا، والبناء عليها، إضافة إلى البناء على المسلسلات التلفزيونية، والأفلام، وإدراجها ضمن السياق السردي، من مثل فيلم “رسائل الكرز” الذي يتم استثماره في حوار بين سامي وسارة، ومسلسل “الانتظار” الذي يرد ذكره في السياق التالي: “عندما كنت طفلاً شاهدت مسلسل (الانتظار) للكاتب حسن سامي يوسف، ولم أدرك قساوة العنوان إلا بعد أن عشته للعمق الأقصى”، ص17.

غير أنّ ما يعوّق سير الحكاية، ويسمها بالبطء الشديد، هو اعتماد الكاتبة على الخواطر غير السردية، التي تصلح أن تكون مسكوكات لغوية، يمكن نقلها خارج النص، ويكثر ذلك في بدايات الفصول، حيث يتوقف الحدث، لتشرح لنا الروائية جزءاً من فلسفتها في الحياة، في موقع كان يمكن استثماره في تطوير الأحداث، على نحو ما نجد في الافتتاحين التاليين:

  • “تسلك بعض الأشياء في الحياة مساراً معاكساً لمسارنا.. وبسبب تعلقنا الشديد بها نسعى لنقف حجرة عثرة أمامها”، ص44.
  • “في الوقت الذي تنتهي فيه بعض القصص نهاية مأساوية ويسدل الستار على الفصل الأخير منها، تنمو بذرة الحب في منزل آخر”، ص93.

ولا تقتصر هذه الخواطر غير السردية على بدايات الفصول، بل ثمة أمثلة كثيرة لها في تضاعيف السرد، فهي تنبتُ فجأة، وتغرق في الذهنية، أو في التفاصيل، قبل أن تعود إلى عالم الحدث والشخصيات من جديد، على نحو ما نجد في المقتبسات التالية:

  • “البكاء ليس دوماً رفيقاً للحزن، فأحياناً يكون سببه الامتلاء، ولذا يبكي السعيد، ويبكي الخائف، ويبكي المتحمس”، ص34.
  • “بعض الحقائق تظل غائبة عن وعي المرء إلى أن تحدث نقطة تحوّل ما”، ص36.
  • “تدعى تلك الفترة الفاصلة بين لحظتي الميلاد والموت بشكل مجازي (العُمر)، وخلال ذلك العمر يعيش أغلبنا على مبدأ الانتظار”، ص53
  • “قد تبدأ أسوأ العلاقات بهفوة صادقة، وقد تستند أنجس التصرفات على أساس بريء”، ص63.

وإذا كان هذا الأمر يعوّق السرد ويوقفه لصالح لغة ذهنية، فإن الروائية اتبعت تقنية أسلوبية أسهمت في غموض الحكاية، أو في تأخّر تلقيها، فهي تستخدم بشكل متعمّد ضميراً يعود على شخصية غير مسمّاة، ثم يكتشف المتلقي بعد جهدٍ تلكَ الشخصيةَ. وإذا كان هذا الأمر يبدو مقبولا مرّة أو مرّتين، ومسوّغاً بغرض التشويق، فإن جعله استراتيجية أسلوبية لا يسهم إلا في الغموض والتعمية، والوقوع في فخّ التكرار، ومن ذلك الاقتباسات التالية:

  • “ما زلتَ تائهاً بكلمات (أنا بعشق البحر) لمحبوبتك نجاة، تدندنها بين الفينة والأخرى، غير آبه بجدية التحولات الجذرية التي تحصل في الخارطة السورية”.
  • “ها هما يمران معاً من ساحة رياض الصلح في بيروت بالتزامن مع اعتصامات رافضة لخطط التقشف، ومنددة بالفساد. هذا المكان الأكثر غرابة في دولة لا نعلم جميعاً على أي المبادئ تسير”، ص72.
  • الشأن الجديد البارز في حياته أنه بدأ بتقبلها كما هي بكافة تفاصيلها المؤلمة قبل المفرحة محاولاً الموازنة ما بين قلبه وعقله”، ص96.

فالتعمية تنبع هنا من أنّ الضمير يعود على متأخر في اللفظ والرتبة، ليس في الجملة ذاتها، ولا في الفقرة ذاتها، بل ربما بعد نصف صفحة أو أكثر، ما يجعل المتابعة مرهقة حتى للقارئ المتخصص.

(يتبع)…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى