العيون الأكثر زُرقةً لتوني موريسون .. إعادة قراءة ظاهرة العنصرية في المجتمع الأمريكي

د. موج يوسف | أكاديمية و ناقدة  عراقية

برغم أنَّ رواية (العيون الأكثر زرقة) للروائية الأمريكية توني موريسون قد نُشرت  عام 1970 وترجمها للعربية الشاعر والمترجم فاضل السلطاني عن دار الطليعة في دمشق عام 1997 م إلا أنَّ أحداثها ما زالت حاضرةً في المجتمع الأمريكي. وقد حصلت موريسن على جائزة نوبل سنة 1993 م. 

وقعت أحداث الرواية في مدينة ( لورين اوهاوير) الامريكية وهي مدينة الروائية ذاتها. 

تروي قصة فتاة تدعى بيكولا التي لطالما حلمتْ بعينين زرقاوين مع بشرتها السوداء وقد تعرضتْ إلى نعت وبشكل ممنهج بالقبيحة والسوداء ممّا كون عندها عقدة الدونية والعدائية، بيكولا شحيحة فقيرة لأنّها عاشت في زمن النكبة الاقتصادية والتي سميت بالانهيار الكبير عام 1941، وفي خريف العام ذاته لم تنمُ أزهار القطيفة لأنَّ بيكولا كانت حُبلى بطفل من أبيها.

الرواية روتها شخصية نسوية وهي الفتاة كلوديا فقد روتها في مراحل مختلفة من حياتها في رعاية عائلة بشكل مؤقت ويشاركها في روي السرد (الراوي بضمير الغائب) عالم بكلِّ ما يحدث (الراوي العليم) ويتضمن قصصاً مدرجة باستعمال ضمير المتكلم ايضاً.

كلوديا ذات التسعة أعوام وأختها فريدة ذات العشرة أعوام تعيشان مع والديهما في مدينة لورين ومستأجر يدعى هنري وبيكولا الطفلة التي تقوم العائلة برعايتها لأنَّ أمها تعمل في بيت أثرياء من البيض.

والدها سكير ذو شخصية غير سوية وعرف باسم (كولي)، وقد اعتمدت الروائية توني في سردها على تقنية الاسترجاع الزمني لتعود بالأحداث إلى الوراء وإلى الأعوام السابقة عندما كان والدا بيكولا (كولي وبولين) شابين يعانيان من الفقر والاضطهاد والعنصرية بسبب العرق والهوية والأصول ، وعملت والدتها خادمة في بيت الأثرياء البيض. 

يتكون البيت من عائلة صغيرة  من أم وأب وبنت ترعاها وقد اطلقت عليهم الساردة اسم  (الصيادون) وبينما أمها بولين منشغلة في العمل. يقوم الأب باغتصاب البنت (بيكولا) مرتين لأنّه لم يستطع أن يظهر حبّهُ لها إلّا عن طريق اغتصابه لها وينتهي المطاف بها بالجنون وزرقة العيون الحلم الذي راودها كثيراً إذ كان في الرواية بمثابة المعادل الموضوعي ترى عن طريقه الروائية أن الأبيض والأسود يجتمع في الإنسان وهذا الأخير وقع ضحية الهُويات التي فُرضت عليه منذ صرخته الأولى في  الحياة ، ولم يسلم من التميز العنصري والعرقي وهو من صناعة البشر الذي نشأ على حبِّ الشر والقوة وفرض الهوية وقد شاع في المجتمع الأمريكي هذه الاضطهادات بحق السود ممّا جعلتهم يناضلون لأجل ترسيخ هويتهم السوداء  (لقد غرسنا البذور عميقاً  ولم يكن في بال أي منا أن الأرض نفسها قد لا ملائمة . لقد اسقطنا بذورنا فوق تربة أرضنا الصغيرة السوداء) ص 6 الرواية . 

 فصول الرواية التي بدأت بالخريف حين أكثرت موريسون من ذكر ( الأبيض والأسود) وقد يؤدي هذا المظهر الفسيولوجي في المجتمعات دوره لإعلام الآخر في المجتمع عن هويته، ومثل هذه القضايا العنصرية جاءت من عمل التاريخ الاستعماري والعمل السياسي؛ لذلك قام السيناتور الجمهوري (بيل هولتزكلو) في أميركيا بحظر الرواية وحذفها من القراءة في المدارس والمكتبات في الولايات المتحدة.

لكنّ الأدب والرواية تحديداً الإبداعية تحمل الخلود حتى وإن كُتبت في مرحلة معينة وعالجت قضية اجتماعية أو ظاهرة، فيبقى الأبداع الأدبي قائماً بكلّ صلابة ويمكن القول: إنَّ التميز العنصري في أميركا لم ينتهِ لكنّه اختفى قليلاً من الإعلام وبهذا يكون الموضوع الذي كُتبت من أجله الرواية شاهداً على العنصرية محتفظاً بجنسه الأدبي، ولأن توني موريسون لم تنتمِ إلى أيديولوجية معينة بقيت روايتها محلقة في سماء الأدب.

وعند اندلاع الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة  استعدتُ قراءتها من جديد كوني قرأتها قبل أعوام وكنت أظن أنها رواية مرحلة وانتهت، لكنّ عند قراءتي لها بوعي جديد لاحظتُ أن الروائية قد تركت استشرافاً حقيقياً يرى أن العنصرية ستبقى ظاهرة لصيقة بالمجتمع الأمريكي فتقول:(هناك فرق بين أن نطرد من المنزل وبين أن نقذف في العراء ، اذا طردت من المنزل فبإمكانك أن تذهب إلى مكان آخر ، وإذا قذفت في العراء فليس هناك مكان يمكن أن تذهب إليه.

الاختلاف بينهما دقيق ولكنه نهائي، وهو نهاية الشيء ، متعذر التغير، واقعة مادية تعيّن وتكمل شرطنا الميتافيزيقي، ولكوننا أقلية في الطائفة والطبقة فإننا نتحرك على حافة الحياة باتجاه أي شيء … إن وجودنا الهامشي على أية حال هو شيء تعلمنا التعامل معه بسبب أنه وجود مجرد على الأرجح، ولكنّ مادية وجودك في العراء هي آخر مثل الفرق بين مفهوم الموت وبين أن أكون ميتاً فعلاً . الميت لا يتغير والعراء هو الباقي (ص 14 الرواية).

النص السردي كان يحاكي الواقع المعاش والحدث في تلك المرحلة لكنّ عند قراءتنا له في هذه المرحلة وبعد عقود طويلة مرّت على زمن كتابته نرى أنه يحاكي المستقبل بسبب تشظي الهوية السوداء في المجتمع فجاء استشراف الروائية مطابقاً لما يجري والرواية واثبتت نبوءتها، وأرى من الضروري العودة لقراءتها مرة أخرى لفهم أصل الحدث الحقيقي وإشكالية الصراع الذي ظل قائماً ولإثبات ديمومة الأدب الرفيع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى