“بُكرا شي نهار” لياسمين حنّاوي.. رواية الحبّ في زمن الحرب (4 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

 

ثامناً ـ شخصيات في مهبّ الهوى:

لعلّ أكثر الشخصيات الثانوية امتلاء من الناحية السيكولوجية شخصية سلمى؛ لأنّها عانت بالإضافة إلى ما عانته أختها، من الاغتصاب، ومن خيانة الحبيب، كما عانت من خيانة السرد الذي لم يعطها مساحة كافية من الفضاء الطباعي، وهي المأزومة التي عانت الاغتصاب الذي تزامن مع اغتصاب أرض الجنوب اللبناني، وجاء تحريرها عام 2000 متزامناً مع تحرير تلك الأرض، فراحت تقرأ “بعضاً من سيرة ستراديفاري، صانع الآلات الموسيقية الوترية الإيطالي، وإحساسه الخاص تجاه آلة الكمان التي وجدت فيها ضالتها”، ص78.

إنها سلمى التي عانت زمناً من التشتت والضياع، وحاولت بالموسيقى استعادة ذاتها، وكانت على الرغم من هشاشة أعصابها، قوية بما يكفي؛ كي تشق درب الموسيقى، وتدخل عبره بيت عائلة سامي، بوصفها معلّمة الكمان التي تعلّم سارة، وتثير سامي بثيابها التي تلائم تفاصيل جسدها، فبنطالها الأسود الذي يبرز فتنة ذلك الجسد “تعلوه كنزة صوفية خفيفة بلون البيج المتناسق مع كستنائية شعرها”، ص23.

لقد حافظت ابنة كركلا على قوة شخصيتها، وعلى فعل تمرّدها، مثلما حافظت على “نضارة بشرتها الحنطية، وجمال أسنانها المصفوفة بعناية ربّانية”، وتمرّدت على زواج المتعة، وعلى حبّ سامي، مثلما تمرّدت على الحجاب الذي “خلعته كرد فعل تمرّدي على كل ما واجهته”، ص55، فكانت أكثر انسجاماً مع نفسها، وأكثر إقناعاً للقارئ من شخصية سامي نفسها؛ إذ كان جريئة في حلّ تناقضات نفسها، فقالت له: “كل ما أستطيع تقديمه لك من حب هو أن أضحّي بك”، ص35، وتسامحه على مضاجعته لأختها زينب، في فعلٍ يبدو أكثر إثارة له من الغضب:

“ـ بالطبع سامحتك ودون أن أواجهك.

ـ إذاً دعينا نتزوج وأعدك أن…

ـ على رسلك وقبل أن تكمل، أنت تعرف رأيي في هذا الموضوع، وقبل أن يحصل بينكما ما حصل”، ص68.

أمّا زينب أخت سلمى، فإنها لا تستطيع حلّ تناقضاتها، ولا تسعى إلى تشكيل علامة في حياة سامي، على الرغم من أنها تحبّه: تقرأ القرآن، وتصلي الفرائض والسنن، وتحتشم في اللباس، وترفض النقاش “بأي أمر ديني أو شرعي خوفاً من المساس بأفكارها المكتسبة على مرّ السنين”، ص45، وتضعف أمام سامي، بما يناقض كل ما سبق، فتبدو معه، وكأنها تقامر بحياتها، على الرغم من أنه ليس مجرد رقم من الأرقام التي تتعلق بها: “لا مانع لدى ابنة الخامسة والعشرين أن تربط حياتها بمجملها برقم؛ إذ تقطع بطاقات (اللوتو) يومياً لعلها تربح جائزة نقدية”، ص44.

ولعلنا نشير هنا إلى أنّ ثمة صفات أوردتها الكاتبة لهذه الشخصية دون أن تفيد منها بشكلّ فعال، فإذا “تعطّل صنبور المياه في المطبخ فالحل عند زينب، وإذا احتاجوا إلى تركيب رف خشبي فهاتفها يحوي أرقام النجارين في المنطقة، وإن أرادوا تبديل قطعة أثاث فبمقدروها الاتفاق مع بضعة محلات”، ص78. وتبدو كل هذه التفاصيل غير مهمة، وغير موظفة في سياق لاحق.

لقد شكّلت كلتا الأختين المعشوقتين قطباً سالباً من قطبي هوى العائلة، أما القطب الموجب فقد شكّله زياد البسيط الذي يشبه نموذجاً إيجابياً، لا يأتيه النقصان من بين يديه، ولا من خلفه، سواء أتعلق ذلك ببنيته الجسمية أم بتركيبته النفسية، فهو “ببنطلونه الجينز وكنزته السوداء، وسترته السوداء التي خلعها وعلقها على ظهر المقعد بمجرد وصوله ليبدو في مظهر رياضي آخذ للألباب بأكتاف عريضة وقوام طويل”، ص158، وقد تربّى يتيماً، وهو الأمر الذي جعله قادراً على تحدّي الصعاب، فصنع من حزنه فرحاً يهديه لمن حوله؛ إذ “لم يترك وسيلة لزراعة الفرح في قلب صغيرتك سارة ولم يستعملها [كذا في الأصل]، ولم يدع طريقاً إلى تحقيق أحلامها، ولم يسلكه [كذا في الأصل] إلى جوارها”، ص57.

ولم يقتصر سعيه لإسعاد الناس على حبيبته فقط، إذ سعى إلى مساعدة أبناء منطقته، فـ “صيدليته ملاذ لكل أبناء المنطقة”، ص94، كما اختار أن يكون مسؤولاً عن أدوية وليد/ والد سارة: “سيكون المسؤول الأول بالإشراف على نوعيتها ومواعيدها، وسيجلبها بشكل دائم من صيدليته الخاصة”، ص118.

ولأنه لا يشبه سامي في استعداده لخوض مغامرات جنسية غير مشروعة دينيا وقانونياً، فإنه “لم يدنس حبّه بالنوم معها قبل الزواج”، ص159، وهو أمر يتسّق مع شخصية زياد، ولكنّه مستفّز للقارئ حين يُذكر (مترافقاً مع كلمة التدنيس) من قبل سامي الذي ضاجع الأختين سلمى وزينب، كما أن السياق يبدو غير منطقي، فسامي غير مؤهل لمعرفة هذا الأمر، وليس متوقعاً أبداً، أن يخبره زياد أو سارة باللقاء الجنسي في حال حدوثه.

ويبدو سالم/ صديق سامي شبيهاً لشخصية زياد، من حيث بساطته ونقاء سريرته إلا أن امتحانه أمام الحياة كان أصعب، واحتماله كان أضعف، وخياراته كانت أقلّ، فقد عاش قصة حب مخفقة، كانت تنوس بين رضا حبيبته وسخطها عليه، إضافة إلى أنه لم يلقَ الحبّ في أسرته التي عانت من خلافات مستمرة، وهذا ما ترافق مع صفات جسدية موازية، فـ “لو تأملت ملامحه تستغرب من أن شاباً ما زال في الرابعة والعشرين من عمره قد كسا الشيب رأسه. أحاطت عينيه التجاعيد، وامتلأت نظرته المتنوعة بعامل مشترك واحد، وهو الأسى”، ص97.

لم يكن سالم يستحق كلّ هذا الألم، فقد كان كما يقول سامي: “سالم الأكثر وفاء على هذه الأرض، رفيق الروح والصبا، شريك الصيد والجنون، وصاحب القلب الحنون. أخذ من الحبر ما يكفي ليكون واسع الحكمة والخبرة”، ص14.

ولم يكن يستحق أن يجرّب إحساس الفقد، بموت أمه المريضة، وموت أبيه محترقاً، ووقوع أخته نسرين في فخّ عبد الكريم الذي ينال جسدها، وتخفق كل محاولاته في إبعادها عنه، وعن الطريق الذي اختارته (من وجهة نظره)، بينما هي مجبرة عليه في الواقع، لأنها متورطة مع عبد الكريم، المطلوب أمنياً، والمتهم بأمور خطيرة كإدخال السلاح إلى البلاد، والتعاون مع مجموعات إرهابية، وهي مجبرة أن تقول: “أريده، وإن كان مجرماً”، ص39. وهي لا تجنِي من ذلك سوى مزيد من القهر؛ إذ كانت “الصاعقة الكبرى في اللحظة التي قدّمها هدية لأمير أهم الجماعات المتشددة (سلام الدين اللاذقاني) طمعاً في النفوذ، ورغبة في تلويث شرف عائلتها، فاستسلمت لأبشع ما يمكن أن تتعرض له أنثى في الوجود”، ص60.

 

تاسعاً ـ لغة السرد بين سوط اللهجة وصوت الأيديولوجيا:

لسنا متعصّبين تعصّباً أعمى للغة الفصيحة في مواجهة العامية؛ إذ نرى العامية تعبيراً عن نسق اجتماعي يتوجّب احترامُه، وعدُّه جزءاً من خزانة التراث المحلّي، وليس ثمة عداء بين اللغة واللهجة، ويمكن في نظرنا أن تتجاورا، في ثوب فسيفسائي، يحفظ للفصيحة بهاءها، ويضمن للعامية قدرتها على الوصول للمتلقي عبر حوار شخصيات غير مؤهلة للتحدث بلغة لا تناسب مستواها الفكري.

فإذا عدنا إلى لغة الرواية، التي تعدّ في المحصلة رواية ناجحة، وجدنا لهجة عامية طاغية، تجرح براءة اللغة الفصيحة، فهي لا تستخدم الفصيح البسيط المترجح بين الفصحى والعامية، بل تُغرق الأسلوب بعامية لا تستطيع الوصول إلى المتلقي الغريب عن المنطقة، ومن ذلك ما يقوله رامي الذي شوّهت الحرب إنسانيته، بعد أن ذبحت العصابات الإرهابية أهله، في أثناء حوار له مع سامي:

“ـ ببساطة زتّوهن بالسجن وخلصنا.. لشو الضرب والجلد وما بعرف شو؟

ـ أيوااا.. عمتسألني لشو؟ مو لشي بس كرمال أهلي اللي دبحوهن، وأرضنا اللي أخدوها، والأمان اللي سرقوه، والبلد اللي شعّلوها. الحقيقة ما في سبب بيخليني أضرب ولا واحد فيون وعفسوا بإجريي وادعس ع راسو!”، ص156.

وتكثر العامية في الحوار، فتصبغ الرواية بطابعها، وكان من الممكن أن نعذّها استراتيجية من استراتيجيات الكاتبة، لولا اعتمادها في سياقات حوارية قليلة على الفصيحة، ويمكن هنا أن نمثّل لما نقول من خلال مقتبسين حواريين، أحدهما عامي، والآخر فصيح:

  • “ـ الكنزة الرمادية تبعي. شفتيها شي؟

ـ إيه عيّن، ليكا آخر وحدة بالرف الفوقاني”، ص21.

  • “ـ سامي.. سااامي.. سااااااامي.

ـ نعم أبي.

ـ تعال بسرعة لرؤية هذا المشهد.

ـ لا أستطيع.

ـ تعال ولو لدقيقة”، ص29.

وقد استطاعت الروائية أن توظّف بعض السياقات الحوارية، لتحفيز الحدث، من مثل الحوار بين سامي وسائق سيارة الهيونداي الذي توقف ليحمله معه إلى مدخل اللاذقية:

“ـ لوين يا ابني؟

ـ عمدخل اللاذقية عمو.

ـ طلاع عمي طلاع.

ـ يعطيك العافية.. عنجد أنا ممنون.

ـ أديه إلك بالطريق؟

ـ ما بعرف بس كتير.

ـ يا لطيف شو هالدنيا الوسخة! ما بقى حدا عندو ضمير ولا أخلاق! ما فيهن غير يشوفوا حالن عهالعساكر المساكين، وهنن اللي عم يحموهن”، ص139.

وقد عانت لغة الرواية التي تجنح بشكل عام إلى الإخبارية على حساب الجمالية من وطأة الذهنية والتنظير الأيديولوجي، إذ تبدو ملفوظات الشخصية شبيهة بخطبة عصماء تلقيها على مسامع جمهرة من الناس. يقول سامي متحدّثاً عن حبّ سلمى: “إنه جزء لا يتجزّأ من حبي لوطني وديني وأهلي، أن أحبك وأثبت على حبك، فكلما امتلأ قلبي بك أصبحت أكثر تديناً وولاء”، ويقول لسارة: “حان الوقت كي تتقاسمي مع أمنا حقيقة إصابته بذلك المرض الخبيث، فتشاطريها الهم الخاص، حتى أعود لكم بالنصر، وبإبادة الهم العام من صدور كل السوريين بإذن الله”، ص115. ويتحدّث عن تجاربه في أثر الحرب الكونية على سورية: “ماذا بعد أن أنهكتنا الحرب الكونية وأدواتها المؤذية إلى درجة ترسبت فيها تفاصيل جديدة ما عهدناها، وتختلط بطاقة الحب القديمة؛ لتكون النتيجة شخصيات حانقة على الظروف، وعاجزة عن إيجاد الحلول”، ص28.

بينما تتحدث سلمى إلى سامي، في شبه بيان سياسي، عن “الآبار المعبأة بالدماء المسفوكة على يد جيش لبنان الجنوبي أو جيش لحد الذي لم يترك أفراده وسيلة لحماية المحتل ولم يتخذوها سواء من استعباد المواطنين أو الترهيب والسلب والنهب، ناهيك عن انتقاء الفتيات واغتصابهن”، ص77.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أننا، وإن كنّا نتفق مع المقولة الأيديولوجية العامة للرواية، فإننا نرى أن الرواية تعبّر عن الأيديولوجية التي تحملها عبر الاعتماد على شعرية السرد، وليست نصاً أدبياً نُلبسه بالرغم عنه ثوباً أيديولوجياً.

وبعيداً عن الأيديولوجية السياسية، تسربت إلى لغة الرواية المقولات الاجتماعية الذهنية التي نمثّل لها بالسياق المأخوذ من حديث سامي عن علاقة نسرين بعبد الكريم: “إننا نسمع دائماً عن تأثيرات التفكك الأسري على نفسيات الأبناء، إلا أن الأمر كان أكثر عمقاً مما يُكتب أو يحلّل، فمن يكبر وسط حبّ عائلي ليس كمن سواه”، ص42. وثمة سياقات أخرى تؤكد الأمر ذاته، منها: “مهما تفكّرنا في هذه الدنيا الغريبة نجد أن محاور مآسيها تدور غالباً حول الفقر”، ص118.

وقد أفادت الروائية إلى حدّ معقول من الإحالات الثقافية، فنجحت في توظيف بعضها، وأقحمت بعضها الآخر إقحاماً وسط السرد، فسامي يغلق كتاب “تأملات على الدهر”، لسامي كليب ثم يقول: “إن اضطررتَ للحرب ضع خطة للسلام (…) صدقت يا شريك اسمي”، ص20، ويستشهد السارد بقول التبريزي، “من يعرفني يرغب فيّ، ومن يرغب فيّ يبحث عني، ومن يبحث عني يحبني، ومن يحبني لا يختار [كذا في الأصل] أحداً سواي”، ص25، ويشير إلى حنا مينه في الحديث التالي عن اللاذقية: “فأنا كابنها البار حنّا مينه منذور للبحر وصيّاديه المطحونين بالفقر والقهر”، ص49. وثمة فصل تقدّمه الروائية بمقطع من قصيدة “سأقاوم” للشاعر الفلسطيني سميح القاسم،ص151، وتوظفه توظيفاً تمهيدياً لما يحدث في الفصل، كما تنجح أيضاً في توظيف مقطع لنزار قباني لرسم مشهد لقاء بين سارة وزياد: انتقي أنت المكان.. أيّ مقهى داخل في البحر كالسيف انتقي أي مكان، ص159..

هكذا بدت لنا رواية “بكرا شي نهار ـ أغنية مؤجلة” للروائية ياسمين حناوي: فيها الكثير من النقاط المضيئة، وفيها بعض الملاحظات التي يمكن لها أن تتجاوزها، فهي كاتبة موهوبة، وأظنّها ستقدّم للقارئ العربي في المستقبل روايات أكثر اكتمالاً وروعة وجمالاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى