جميل السلحوت يكتب: ذكريات طريفة

شاعر متزوّج وعنده أبناء

أثناء مهرجان القدس الثقافي الذي أقامته مجلة العودة التي كان يرأس تحريرها الشاعر لإبراهيم القراعين عام 1991، أدرت أمسيّة شعريّة ابتدأت بالشاعر الكبير الراحل سميح القاسم، وجاء بعده الشاعر جمال قعوار من النّاصرة، وقبل الدّخول إلى الأمسية بحثت عن معلومات حول الشاعر قعوار وسألت بعض الكتب الموجودين عنه، فقال لي أحد الروائيين:” أعلم أنّه شاعر متزوّج وعنده أبناء”! ولا يعرف شيئا آخر، وفي الأمسية وقفت لتقديمه فقلت باسما: سألت البعض عن معلومات عن الشاعر جمال قعوار، فقال لي أحدهم: أنّه شاعر متزوّج وعنده أولاد” وبناء عليه نرحّب بالشّاعر المتزوّج وعنده أولاد” فانفرط الحضور ضاحكين” وهمس لي الشاعر سميح القاسم الذي كان يجلس بجانبي وهو يضحك:” هذا أقوى تقديم شاهدته وسمعته في حياتي.”

رمضانيات

عام 1975 وأثناء عملي في صحيفة الفجر المقدسية، وعندما حلّ شهر رمضان ذلك العام، قمت بتحرير صفحة أسميناها “رمضانيات يحرّرها الشّيخ جميل السلحوت”، كتبت فيها عن جوانب مضيئة في التاريخ الإسلامي وبطريقة مغايرة لكلّ ما كان يكتب في الصحافة، وذات يوم اتّصل بي أحد رجال الدّين المرموقين، وسبق أن علّمني في المرحلة الثّانوية، وقال لي:

 “الشّيوخ الحقيقيّون يتهرّبون من كتابة لقب”الشّيخ” أمام أسمائهم، فلماذا تكتب أنت هذا اللقب أمام اسمك؟”

 فسألته: وما يمنع ذلك؟ وهل أكتب شيئا مخالفا للدّين؟

فقال لي: لا…لكنك تطرق مواضيع لا يتطرّق لها آخرون.

نعي الأحياء

ذات يوم من العام 1975 جاء رجلان من إحدى عائلات القدس يرتدي كل منهما بدلة وربطة عنق، ويتظاهران بالحزن، ووضعا على الصفحة الأولى إعلان نعي لقريب لهم، وظهر اليوم التالي جاء “الفقيد حاملا بلطة، وهجم على مكاتب الصّحيفة، وتبيّن أنّ الرّجل المسنّ يعاني مشاكل نفسيّة، وأمضى حياته عازبا، ونعاه أبناء عموته للاستيلاء على ميراثه في الأردن، وقامت الجريدة بنشر إعلان اعتذار وتؤكّد أنّ الرجل على قيد الحياة لمدّة ثلاثة أيّام.

هيبة رئيس التّحرير

في العام 1991 عملت رئيس تحرير لصحيفة “الصدى” المقدسيّة، والتي كان مقرّها في مدخل بلدة الرّام، وكنت أترك باب مكتبي مفتوحا، وذات يوم طرقت الباب فتاة، فقلت لها تفضّلي.

نظرت إليّ وقالت: أريد رئيس التّحرير.

فقلت لها: أهلا بك، ماذا تأمرين؟

فاستدارت خارجة ولم تقل شيئا، وعادت تسأل على ما أذكر الأخت ديمة السّمان -التي كنت وإيّاها نصدر الصّحيفة- عن رئيس التّحرير، فأشارت لها إلى مكتبي. فعادت الفتاة ودخلت تسأل دون أن تطرح السلام:

هل أنت رئيس التّحرير؟

فأجبتها: نعم. ماذا تريدين؟

فقالت: لا يبدو عليك أنّك رئيس تحرير لصحيفة؟

فابتسمت لها وسألتها: وكيف يبدو رئيس التّحرير؟

فأجابت: يكون له سكرتيرة في غرفة أمام مكتبه المغلق، وعلى من يريد مقابلته أن ينتظر لفترة معيّنة حتّى يسمح له بالدّخول، ورئيس التّحرير يتكلمّ من “مناخيره”.

وعدت أسألها: ماذا تريدين؟

فأخرجت من حقيبتها اليدويّة رسالة من كليّة الصحافة في جامعة بير زيت، تطلب استيعابها للتّدريب في الصّحيفة لمدّة ثلاثة أشهر حتّى تتخرّج.

فرحّبت بها، وكانت في غاية السّعادة بتدريبها عندنا.

أسلوبه ضعيف

عملت محرّرا في مجلّة الكاتب لصاحبها ورئيس تحريرها الأديب أسعد الأسعد منذ العام 1978 وحتى توقّفها عن الصّدور بداية تسعينات القرن الفارط، وكنت وقتئذ مدرّسا للغة العربيّة في المدرسة الرّشيديّة، واكتشفت أنّ أحد طلابي يجيد كتابة القصّة القصيرة، وكان الاتّفاق في هيئة التّحرير أن يقرّ كلّ مادة تنشر ثلاثة من هيئة التّحرير، وبعد عودتي من رحلة إلى الخارج، أخذت قصّة للطالب وقلت لهيئة التّحرير هذه قصة من مجموعة قصص لكاتب فلسطينيّ يقيم في سوريّا أحضرتها معي، فقرأ زميلاي القصّة وأعجبا بها ووافقا على نشرها، وبعد أن نشرنا له ثلاث قصص قلت لهيئة التّحرير:

الكاتب طالب في الرشيديّة وعمره 16 سنة، فقال أحدهم:

هذا واضح فأسلوبه فيه ضعف. فرددت ضاحكا على زميلي بشتيمة لاذعة.

غيبة ونميمة

عندما تخرجت من الجامعة عام 1974م بليسانس لغة عربيّة، أعلنت إحدى مدارس البنات الخاصّة الثّانويّة عن حاجتها لمدرس لغة عربيّة، فقدّمت طلبا للوظيفة، وبعد أيّام وبينما كنت أجلس بجانب سائق سيّارة أجرة في طريقي لزيارة مريض في مستشفى المقاصد القائم على قمّة جبل الزّيتون، جلس خلفي شيخ معمّم كان –رحمه الله- من خطباء المسجد الأقصى، وجلست بجانبه سيّدة، فطلبت السّيّدة من الشّيخ أن يتدخّل لدى إدارة المدرسة لمنع تعيين معلم جديد وذكرت اسمي، وقالت فيّ أكثر ممّا قال مالك في الخمر وأنا أستمع، وبعد أن انتهت من حديثها سألتها:

هل تعرفين ذلك الرّجل؟

فأجابت: نعم أعرفه.

وعدت أسألها: هل سبق وأن تحرّش بك؟

فأجابت: نعم. تحرّش بي وبغيري.

فعدت أسألها: هل تعرفينه إذا ما رأيته؟

فأجابت: نعم.

بعد ذلك قلت لها بحدّة: أنا المقصود؟ من أين تعرفينني؟ وشتمتها، وتدخلّ الرّكاب الآخرون لإسكاتي. فطلبتْ من السّائق أن يتوقف ونزلتْ خائبة. وتبيّن لاحقا أنّها معلّمة في تلك المدرسة وأنّها تريد الوظيفة لزوجها، رغم أنّ القانون لا يسمح بعمل زوجين في مؤسّسة واحدة.

التّعليم مرّة أخرى:

        ذات يوم في العام 1975 وأثناء عملي في صحيفة الفجر، جاءنا إعلان في منتصف الأسبوع عن وظيفة معلم لغة عربيّة في إحدى المدارس الخاصّة التابعة للأوقاف، وطلب منّا أن ننشر الإعلان يوم السّبت القادم، فذهبت في اليوم التّالي لتقديم طلب في مكتب التّربية الذي كان يتّخذ من دار الأيتام الإسلاميّة مقرّا له.

فقال لي المدير المسؤول: جئت متأخرا يا ابني، فقد تمّ ملء الشّاغر!

خرجت من عنده مذهولا، ويوم السّبت ظهر الإعلان في أسفل الصّفحة، وفوقه مقالة لي شرحت فيها ما جرى معي، ووضعت سهما عريضا باللون الأحمر يشير إلى الإعلان. وتبيّن أنّ الإعلان جاء بناء على القانون.

التّعليم مرّة ثالثة

أثناء عملي كمدرّس في المدرسة الرشيديّة الثّانوية في القدس، عملت اختبارا للطلبة، وكان نصّ أحد الاسئلة:

 اجمع ما يجوز جمعه من الأسماء التّالية جمع مذكّر سالما، وإذا كان لا يجوز جمعه اذكر سبب ذلك؟ ووضعت لهم عشرة أسماء سبعة منها لا يجوز جمعها جمع مذكّر سالما؟ وبعد تصحيح الأوراق جاء أحد الآباء يسأل عنّي دون سابق معرفة، وانتحى بي جانبا وقال لي:

أنا لا أريد أن أؤذيك، فأنت وضعت علامة الخطأ على إجابات ابني الصّحيحة! فقلت له: جلّ من لا يسهو والخطأ يتمّ التّراجع عنه، وأرسلتُ “الفرّاش” ليحضر ابنه، جاء الابن وطلبت منه ورقة الامتحان، فوجدته قد جمع الأسماء جمع تكسير وليس جمع مذكّر سالم، وبيّنت ذلك لوالد الطفل فلم يقتنع، وقال لي:

اسمع…لا تظنّني جاهلا، أنا تعلّمت حتّى الصّفّ السّادس وأعرف كلّ شيء.

فقلت له: أنا أحمل شهادة جامعيّة ولا لأعلم كلّ شيء، لكنّني أعرف ما أقول.

غضب الرّجل وذهب إلى المدير راتب الرّابي يشكوني، ولم يستطع المدير إقناعه فتركه وطلب منه الخروج.

مع الأديب محمود شاهين:

عام 1982 مررت بدمشق في طريقي إلى موسكو للعلاج، والتقيت بالأديب يحيى يخلف رئيس اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين وقتئذ، فذهبنا لزيارة ابن بلدتنا الأديب محمود شاهين، الذي عرفته منذ طفولتنا، عندما كنّا نرعى الأغنام في براري قريتنا السّواحرة، ووقتها كان يكثر من العزف على “الشّبّابة والمجوز”، وافترقنا في حرب عام 1967 حيث نزح محمود إلى الأردن، ولمّا رأيته في مكتبه لم أعرفه ولم يعرفني، وتصافحنا باليد، فسأله الأديب يحيى يخلف عنّي وإذا ما كان يعرفني؟ فأجاب:

طبعا أعرفه جيّدا. وأخذ يستفسر عنّي.

عندها عرّفته على نفسي فقام من جديد وعانقني.

في موسكو

في صيف العام 1984 زرت موسكو للعلاج، ومكثت فيها شهرا ونصف الشّهر، وقبل انتهاء زيارتي بيوم واحد، سألني المترجم فيكتور الذي يرافقني، والذي يعرف اللهجات العربيّة جيّدا، ويفاخر بأنّه ترجم كتاب “خريف الغضب للصّحفي محمّد حسنين هيكل، وأنّه علّم الشّاعر محمود درويش في المدرسة الحزبيّة:

ما الفرق بين الاتّحاد السّوفييتي ودول أوروبا الغربيّة أو أمريكا؟ وأضاف: قبل أن تجيب: هل زرت دولا أوروبّيّة؟

 فأجبته: نعم زرت اليونان.

 فقال لي: اليونان شبيهة بدول الشّرق الأوسط ولا تعطي انطباعا عن حياة الأوروبّيّين.

فقلت له: احمدوا ربّكم أنّكم تعيشون في دولة اشتراكيّة توفّر لكم كلّ شيء.

فقال لي: سأروي لك هذه الحكاية وهي:

 يحكى أنّ صديقين ماتا، فذهب أحدهما إلى الجنّة والثّاني إلى النّار، وبقي من في الجنّة يصلي ويصوم ويعبد الله، وذات يوم خرج من الجنّة ليستطلع أحوال أهل النّار، فرأى صديقه وأمامه موقد شواء وزجاجة ويسكي وبجانبه فتاتان حسناوتان، فقرّر أن ينتقل إلى النّار، لكنّ خازنها طلب منه أن يحضر شهادة انتقال من خازن الجنّة، فذهب إلى خازن الجنّة يطلب الانتقال إلى النّار، فقال له:

 إذا خرجت من هنا فلن تعود ثانية.

فقال: لن أعود.

وعندما سلّم شهادة الانتقال لخازن النّار، أمسكه من رقبته ودفعه بعنف جعله يتدحرج مرّات كثيرة، فسأله غاضبا:

 ماذا تفعل؟ هذا لم أره عندما أطللت عليكم زائرا.

فقال له خازن النّار: السّياحة ليست كالإقامة!

 أمّا فقد سألت فيكتور عمّا يقصده من هذه الحكاية؟

فأجابني: افهمها كيفما تشاء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى