« باذبين ».. مسيرةٌ داخل الذّات

د. موج يوسف | ناقدة وأكاديمية من العراق

لا يُمكن فهم الحاضر والمستقبل إنْ لم يتم التجوّل في الماضي، والتاريخ وهذا الأخير يكمن في المكان والزمان والذاكرة. كتاب (باذبين) للشاعر علي محمود خضير الصادر مؤخراً عن دار الرافدين هو مسيرة داخل الذات الشاعرة عبّر العودة إلى (باذبين) مدينة الشاعر في طفولته، وعثرنا على ترجمة اللفظة في معجم البلدان لياقوت الحموي وتعني (بلدة تحت واسط ـــ العراق ـــ يسكنها سابقاً جماعة من الخيار ومن أهل العلم) تسمى حالياً (علي الغربي) وسكنها اليهود، والصابئة، والأكراد الفيلية والعربستان، والقبائل العربية

الشاعر عاد إلى التسمية القديمة للمكان؛ ليعيد الهويَّة الغائبة له بعد أنْ فقدتْ أجزاءً من عناصرها، واستحضار ذاكرة الطفولة والصبا، لا سيما أنها المساهمُ الأوَّل في تكوين الذات. وأحياناً الشعر الموزون لا يستوعب الذاكرة فيلجأ الشاعرُ إلى السرد بنصوصٍ تغوصُ في أعماق الذّات وهذا ما نجده عند الشاعر علي حين انقسمت نصوص كتاب (باذبين) بين التفعيلة وقصيدة النثر ذات السطر المتصل، وكان واعياً بتوظيف السطر المتصل مع سيرته، فعملَ بمزاوجةٍ بين جنسين أدبيين هما (أدب السيرة وقصيدة النثر) بشكلها الفرنسي وكتبَ النصوصَ بلغةٍ مركبةٍ (الفصيح واللهجة المحكية للمكان)، فيقول:( الظّهيرةُ منامٌ، فجأةً تخفتُ الأضواءٌ، يهدأ جسدُ المنزل ويكونُ عليكَ وداعُ ألعابك. المبرّدة خدراً في العظام، على الحصير تفوحُ رائحة الحلفاء بدعةٍ. والقطة كسلانةً تتمطى عند الفُرجة بين الهول والطارمة. كمْ مرَّة رُبطتُ إلى مسندٍ خشبٍ لأنّك تعصي الأوامر، وتفضلُ الرّقصَ في الحديقةِ مثل فراشةً). النصُ مشهدٌ من ذاكرةِ الشاعر فهو جزءٌ حيّ في ذاته، لكنّه أخرجه من جنس السيرة الذاتية وأدخله في قالبٍ شعري عبر تكثيف الجمل الشعرية، والخيال، وتوظيف الآخر، وهذا الأخير له الدور الأكبر ـ بمعنى أدق إنَّ الشاعر ـــ العقل الواعي ــــ الآن يخاطب الآخر وهذا الآخر هو (الطفل المتمرد) في قوله (لأنك تعصي الأوامر) وبالنتيجة يظهر الذات والآخر في الشخص نفسه هو الشاعر. ولا نغفل عن اللفظ المحكي (المبرّدة، حصير، الهول، الطارمة) وهي من اللهجة العراقية الدارجة وتوظيفها في النص أعطى هويّة خاصة لكل من يستعمل هذه اللهجة وتحديداً مناطق (الوسط والجنوب من العراق)، وأرى أنَّ هذه الألفاظ قيّدت النص؛ لكونها نسبته إلى هويّةٍ معينةٍ.

وفي قصيدة التفعيلة بعنوان (دحضُ الوقت) صوَّرَ الشاعرُ يوماً في باذبين فيقول:

مساءً/ يُوقدُ فانوسٌ الفاختات/ فيما جدّتي منهكةٌ/ بإيقاظِ النجوم/ ما من فجر في باذبين/ الفجرُ هو النّاس..

النص هو من ذاكرة الطفولة ومن سيرته وقد كتبهُ في قصيدة التفعيلة وعند تحللينا للنص أرى بعده عن السيرة لأسباب منها بؤرة النص في الحاضر بدليل استعماله الفعل المضارع والمصدر في (يوقدُ وإيقاظ) والتي تدل على الحاضر المستمر، والمصدر مجرد من الزمان، وهذا يعني أنَّ الذات في النص (الطفل) ما زالت حاضرة في أعماق الشاعر وسمحت له باستحضارها في رحلة التجربة العميقة، ثم يؤكد حضور هويّته عبّر المكان (باذبين) فاستحضار الذاكرة والمكان ما هو إلا إحياء هويّة الأصل.

وفي قصيدة بعنوان (سوق في التسعينيات) يقول: في السّوق المسقوفة

عوى الخواء طويلاً/ وقُضِيَ أنْ يهدر عمرٌ في الفرجة/ كانت أصابع تُفركُ في جيبٍ مهزول/ كان آباءٌ عجالى بلا آذان/ أمهاتُ يفتحنَ عيونهنَّ ولا يرينَ شيئاً/ وكانوا حفاةً يمشون على جمر النظرة المُفلسة.. 

الحدث يرتبطُ بالذاكرة ولا ينفك منها، والحصار الذي فُرض على العراق كذلك وهذا ما نجده حاضراً في ذاكرة الشاعر وهذا النص ما هو الاّ مشهد مرئي عاشهُ الشاعر في مدينته، لكنّ نلحظ عدم ذكره اسم المدينة (باذبين، علي الغربي) في النص؛ لكون مشهد الجوع والفقر هيمن على كلّ مدن العراق، لذلك نأى عن ذكر اسم المكان، فالحدث متجذر في الذاكرة الجمعية وليس الفردية.

وفي نص بعنوان (كاوليّة) يقول: (نهرٌ أثقله العطش يتمدّدُ بجسد الغجريّة وصافياً مثل سراب يلمعُ من عينيها الشهلاوتين. في طريق عودته، قمرٌ يرشحُ نوراً ناحلاً على الدرابين ضفادع تنقُّ من وراء البيوت. يسمع الصبي جَلبة مُضخَّم الصوت يملأُ الوقت بصراخ مغنِّ رديء). النص مشهد مرئي من ذاكرة الشاعر، وعمد إلى اختيار عنوان (كاوليّة) التي تعني الغجر وهؤلاء من الأقلية السكانية في العراق وتعود أصولهم إلى الهند ومهنتهم (الرقص والجنس) والشاعر يذكر في استفتاح النص (يأتين من تقاطع الظّلمة والتّيه ليرقصنَ في أعراس الشيوخ) وهذه المهنة الأساسية لهؤلاء الأقليّة والتي تعرضتْ لعمليات انتقامية بعد 2003 في العراق بسبب مهنتهم التي رفضها الإسلام السياسي في العراق، والشاعر لجأ إلى التسميّة في اللهجة العراقية الدراجة؛ ليقرب النص من القارئ ويعطي هويّة هؤلاء (الغجر).

كذلك فئة الكاولّية في العراق غير محترمين اجتماعياً فعمل الشاعر في النص على تجميل صورتهم حين جمّل صورة الغجريات وهذا يعني أنه ينظر إلى الإنسان بعيداً عن هويّته ومهنته. ومن ناحية أخرى نرى أنَّ ذات الشاعر عادت إلى الآخر عبّر الذاكرة (نهرٌ أثقلهُ العطش يتمدد بجسد الغجرية) فالنهر استعارة عن الشاعر هو الذات والآخر نفسه، أي الصبي الذي ظل حاضراً معه.

كتاب باذبين تجربةٌ شعرية جديدة وواعية، فهي ليست سيرة ذاتية بقدر ما هي جنس أدبي مفتوح على ثقافاتٍ متعددة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى