اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (7)

مروان ياسين الدليمي | العراق

نحن مثل بقية الأشياء،مثل ورق الأشجار، أو طائر يحلق في الفضاء، مثل قطرة ماء وذرة هواء، نحن جزء من هذا الحضور اللامتناهي، يجمعنا ويحركنا شيء غامض، مكانه ليس ببعيد عنا، إنه كامِن بداخلنا، ومع ذلك فأنا أجهل أين يكون، هل في أصابعنا أم في أضلعنا أم في رؤوسنا أم في شرايينا ، أم … ؟ دائما ما أفكر في كيفية الوصول إليه، وهو أشبه بشعاع من نور يرسل طاقة الحياة فينا، مع إن العتمة شديدة حولنا.

وفي ما يتعلق بها،هي أيضا تعيش حياتها مثلي تحت سطوة هذا الغياب الذي يقلقني، لكنها أبعد ما تكون من أن تشبهني، لأن غيابه يعني حضوره كاملا فيها، وفي كل ثانية تمر عليها تشعر به وتسبِّحُ باسمه، فلا يقلقها أين يكون، طالما هو كائن في كل شيء، لأنها تعرفه في غيابه أكثر مما تعرفه في حضوره . . فهل أحسدها ؟

 

                               فوضوي واقتراح عبقري

لم تنقطع عن أداء واجباتها المنزلية التي اعتادت عليها، رغم ما كانت تعانيه من متاعب صحية والضعف الذي بدا واضحا في قدرتها البدنية، اضافة إلى ما كانت تسببه لها من ازعاج، العلبة البلاستيكية التي كانت تتدلى من تحت ثيابها وتتأرجح أمام قدميها فترتطم بها أثناء قيامها بأي حركة، خاصة عندما تمتلىء بالدم والسوائل اللزجة، وفشلت كل محاولاتنا لإقناعها بأن تجلس على الكنبة وتستريح، وسنتحمل بدلا عنها، أنا وابني محمد، نجاز ما يحتاجه البيت من اشغال، بما في ذلك التنظيف والطبخ إلى أن يتم رفع الأنابيب والعلبة عنها في نهاية الأسبوع، وما عليها سوى أن توجِّهنا فقط . كانت تنظر إلينا بزاوية من عينيها ثم تكتفي بابتسامة خفيفة ساخرة ترسمها على شفتيها ثم تقول ” اقتراح عبقري” وتتبعها بجملة قصيرة دائما ما كانت ترددها ” في هذه المسألة لافائدة منكما، لأنكما تخربّان المعمور” ثم تمضي إلى المطبخ بحركة بطيئة فيها حرص شديد على أن لاترتطم  قدمها اليسرى بالعلبة، ومن دون أن تلتفت إلينا بعد أن أخذتَنا نوبة من الضحك .

لا أذكر في يوم ما انني دخلت المطبخ ووقفت إلى جانبها لأجل أن أساعدها  أو أتعلم منها، فعالم الطبخ بالنسبة لي أعقد من عالم الرياضيات، ومن ناحيتها فهي على يقين من أنني إذا ما اقتحمته فسأحيله إلى فوضى، فما من شيء سيبقى في مكانه، لا علب بهارات ولا قنينة زيت الزيتون ولاكيس فانيلا، وستصاب بالذهول وتفقد أعصابها قبل أن تعيد كل شيء إلى مكانه المعتاد، ولأجل أن يبقى النظام فيه سائدا وفق ما تشاء وترغب، اقتصرت مهمتي على أن استلم ورقة صغيرة بين يوم وآخر مكتوبا عليها قائمة بالمشتريات الغذائية ويتوجب علي شرائها من سوق شيخ الله وسط مدينة أربيل. ولهذا لم أجد غرابة في إصرارها على أن تبقى تمارس دورها التقليدي باعتبارها ربة المنزل والمسؤولة عن رعايته ورعايتنا رغم مرضها ووزنها الذي تناقص بشكل واضح خلال أسبوع واحد بعد العملية الجراحية، وحتى عندما كانت تتأفف وتبدي تذمرا لم يكن لدي أدنى شك من أن ذلك لم يكن بسبب تقاعسها عن العمل، إنما لأن جرح العملية لم يندمل بعد ، وقواها مازالت ضعيفة، فكانت تجد صعوبة في إتمام عملها، وهذا ما كان يزعجها.

لا أستطيع أن أنكر بأن ضميري بات يؤنبني،عندما  كنت أتابعها وهي تتحرك ببطىء وتثاقل واضحين بينما هي تتنقل بين أركان البيت لأجل أن تحافظ عليه نظيفا ولاتسوده الفوضى . وماكان أمامنا إلا أن نرضخ لإرادتها وننساق مع رغباتها مراعاة لحالتها النفسية، بعد أن وجدناها تستعيد شيئا من حيوتها ويختفي توترها ما أن تكون مشغولة بالعمل، ولهذا لم نعد نحاول ثنيها عن الاستمرار بأعمال الطبخ والتنظيف، وبدأنا نبذل جهدا في مساعدتها، ومع ذلك لم تنقطع سخريتها منّا إزاء ما ننجزه من أعمال، وفي الواقع أننا كنا نتعمَّد أنا ومحمد ارتكاب بعض الهفوات الصغيرة عندما نساعدها في غسل أواني الطعام ، مثل أن نترك أثرا بسيطا من بقايا الأكل في واحد من الأواني لأننا نعلم جيدا بأنها ستبدأ في إطلاق سيل من تعليقاتها الساخرة باعتبارنا لانصلح للقيام بأي عمل. وكان هدفنا من ذلك أن تشعر كما لو أنها تمارس حياتها بشكل طبيعي فتنسى مرضها، ولهذا حرصنا على أن نفتعل القليل من المرح الذي افتقدناه، فكانت المفارقة في هذه اللعبة تكمن في فوضويتي لأنها تتقاطع تماما مع صرامة تعليماتها إزاء ما ينبغي أن يكون عليه البيت من تنظيم ونظافة، وهي بذلك تتشابه مع معظم نساء الموصل في حرصهن على  إدارة شؤون المنزل بأكمل صورة. ومما زاد في وتيرة انتقاداتها أنني اورثتُ ولدي جزءًا من فوضويتي، وإنْ كان لايصل إلى ما أنا عليه من مستوى متقدم .  

 

                                     تباين وانسجام

طيلة أكثر من ربع قرن كان التباين بيننا قد بدأ يتضح يوما بعد آخر، وحاول كل واحد منا أن يبقى متحصنا وراء ما يؤمن به من أفكار دون أن يتزحزح عن موقعه، ساعيا بنفس الوقت لسحب الآخر إلى جهته أخذا به إلى حيث خياره الداخلي، ولكن لم يفلح كلانا بهذا المسعى، ولم يكن من السهل علينا نحن الاثنان أن نستدير عمّا يملؤنا من أفكار نهتدي بها في تحديد هويتنا التي نطل من خلالها على الحياة، ورغم بقائنا على ما تغفو عليه جفوننا وتنفتح عليه شرفات عقولنا من آيات الاطمئنان إلاَّ أن ذلك لم يحدث خدشا في علاقتنا مع بعضنا، ولم يتمكن الصقيع من أن يحقن برودته في حقل مودتنا، فالحياة بين اثنين يعيشان تحت سقف واحد لفترة طويلة لاتعني ان يكونا نسخة طبق الأصل عن بعضهما، كما لو أن أحدهما ينظر إلى نفسه في المرآة، ودائما ما كنتُ اعتقد ان هذا النمط من العلاقة بين زوجين إذا ما وجِد فإنني لا أشك أبدا في أنه يعكس حالة من القمع يمارسها أحدهما ضد شريكه الآخر وعادة ما يكون الرجل، مستثمرا تواطوء الواقع معه، بفعل عوامل عديدة ومختلفة، عادة ما تستمد قوتها من الموروث، الذي يملأ شرايين الفرد بثوابته ويمنحه القوة ويحميه من أي تبعات تدينه، لِما له من قداسة، ومن جانبي أرى السبب الرئيس في هذا الاختلال يعود إلى ضعف كبير في شخصية واحد منهما، ودائما ما تكون المرأة ، وهذا ما يدفعها إلى أن تتنازل عن ذاتها كليا لصالح شريكها، ربما بسبب الحب أحيانا، وليس بسبب سلطة الخوف الاجتماعي، وغالبا ما يكون الخوف هو السبب لأن سطوته كبيرة وقادرة على أن تسد منافذ الهواء أمام المرأة وتكسر اجنحتها، بالتالي سيبدو الانسجام قائما بينهما أمام الآخرين، ولكنه انسجام مزيف، لأنهما يفتقدانه، طالما علاقتهما قائمة على مبدأ الاستحواذ الذكوري الذي شرعنَتهُ تمائم وأعراف مخزونة في شقوق جدران متهالكة، أجازت للرجل أن يحيل  المرأة إلى ظل باهت يتبعه، فلاغرابة ان ينهار السقف عليهما في أية لحظة إذا ما نال الطرف المقموع حريته أو استيقظ هذا الظل في لحظة ما من غفوته. وهذا ما لاحظته مع كثير من أصدقائي الذين هاجروا إلى اوربا، إذ تفاجأت بأن أغلبهم يعيشون منفصلين عن  زوجاتهم، وفي معظم الحالات كانت الزوجة هي التي تطلب الطلاق، بعد أن وجدت قوانين بلد اللجوء تنصفها، وتمنحها ما كانت محرومة منه في بلدها .

من ناحيتي لم أتوقف أمام ما كنا نختلف عليه، خاصة في ما يتعلق بالشكليات  الذي نعبِّر من خلالها عن قناعاتنا الروحية، وإن كانت مسألة الحفاظ على التوازن في هذا الاختلاف لن تمر في مسالك معبَّدةٍ لفترة طويلة من الزمن من دون أن تنفجر فيها انفعالات وخلافات ربما لأسباب تافهة، وهذا ما مررنا به، وهو أمر طبيعي جدا في حياة مشتركة بين اثنين تجمعهما رابطة قدَّستها قوانين السماء والارض،وسيكون امرا طبيعيا ان تعصف بهما الخلافات احيانا، فمسالة الانسجام ليست بتلك البساطة،انما هي بغاية الصعوبة اذا لم يكن الاثنان يحملان قدرا ادنى من الاستعداد لاحترام حرية الاخر في قناعاته،واظننا بمرور السنين ادركنا ذلك فتعاملنا مع مانختلف عليه باعتباره مسألة لاخلاف فيها ولاعليها .

 

                                     وصايا الدكتور

بعد ان رفع الدكتور جمال الانبوبين من مكان العملية،لم يعد هناك ضرورة للعلبة ايضا،ولهذا بات لزاما علينا ان نتهيأ في تمام الساعة الرابعة عصرا لمغادرة البيت يوميا ولمدة اسبوعين،ونتوجه عبر سيارة اجرة الى عيادته حتى يتولى بنفسه سحب السوائل ،إذ بدأت تشكو من صعوبة في تحريك ذراعها ما ان تتجمع تحت ابطها الايسر.وكان لتلك المراجعات اثر كبير في رفع معنوياتها التي كانت قد بدأت تهرم تحت سطوة الظنون والهواجس المسكونة بالخوف،فأخذت تنزاح عنها مشاعر القلق بعد كل جلسة كانت تجمعنا معه، فمارس دوره كطبيب على اكمل صورة وهو يسدي اليها النصائح ويفتح امامها نوافذ الامل،وبدأت وساوس الخنوع والخضوع تحت سلطة اليأس تبتعد عن تفكيرها،وارتفعت عاليا اشرعة الثقة بنفسها،واطلت في داخلها امكانية عودة الشمس لتعانق الظلال المعتمة التي ركنت اليها في الايام الماضية،وبذلك يعود اليه الفضل في انها بدأت  تشعر بالاطمئنان على وضعها الصحي،وأن من الممكن ان تطوى هذه الصفحة من حياتها نهائيا وتصبح مجرد ذكرى إذا ما استمرت على تكملة مراحل علاجها والتزمت بوصاياه حرفيا، خاصة في ما يتعلق بالغذاء،فقد حذرها من تناول السكريات نهائيا،واذكر انني  ابتسمت بعد ان خطفتُ نظرة سريعة ناحيتها عندما وجدته يطلب منها ان لاتقترب نهائيا من كل انواع الحلويات،وبفطنته ادرك سبب ابتسامتي،فاعاد عليها وصيته محذرا اياها من تناولها،كما اوصاها بالابتعاد عن احتساء المشروبات الغازية وانواع الاطعمة المعلبة،والوجبات الغذائية التي تزيد فيها نسبة الدهون عن 30 % وان تحرص على التقليل من تناول اللحوم الحمراء.في المقابل اكَّدَ عليها بأن تكثر من تناول الخضروات مثل الكرنب والقرنبيط والبروكلي والفجل واللفت والملفوف الأحمر مرّة أو مرّتين أسبوعيا ،والأفضل ان تتناولها خلال وجبة الغداء ،لانها تحمي خلايا الجسد من السرطان،نظرا لما تحتويه من كيميائيات نباتية تحفز على إنتاج الإنزيمات وتوقف الضرر الناجم عن المسرطنات، ،وكلما قل طهيها كلما احتفظت بخصائصها الغذائية،اضافة الى تناول الثوم والبصل لانهما تحتويان على مواد مضادة للأكسدة والالتهاب والميكروبات،ومن الضروري ايضا ان تكون بعض الخضروات مثل الطماطم والقرع والبنجر(الشمندر)وكذلك الجزر مادة اساسية في وجباتها الغذائية لانها غنية بمضادات الأكسدة التي تقي الخلايا من الشيخوخة،بالاضافة الى الحمضيات مثل البرتقال واليوسفي والليمون والكيوي والأناناس لان هذه الفواكه عادة ما تكون غنية بفيتامين “ج” فتقاوم أنواع العدوى وتحمي الأوعية الدموية.

 

                                       اتصال هاتفي

قبل منتصف الليل تمكنت شقيقتها الوسطى من الاتصال بها عبر الموبايل من الموصل،بعد اكثر من محاولة فاشلة لان الاشارة كانت ضعيفة،فبدا صوتها متقطعا وبالكاد ان يُسمع،وهذا ماضطرها الى ان تصعد السلالم لتكون فوق سطح الدار واختارت زاوية وقرفصت فيها،فعبّرت لها عن المها الشديد لما اصابها،وتمنّت ان تكون الى جانبها لترعاها وتخدمها،ولكن ذلك غير ممكن مع بقاء المدينة تحت سلطة تنظيم الخلافة،واخبرتها بما تعرضت له قبل بضعة ايام من موقف زرع في داخلها الخوف من قبل اثنين  ينتميان الى مايسمى بهيئة الحَسبة التابعة لتنظيم الخلافة،فبينما كانت متوجهة مع ابنتها الصغرى التي لم تتجاوز الستة اعوام الى الاسواق القريبة من البيت فإذا باحدهما ينادي عليها بصوت عالي، ولما انتبهت الى انها كانت هي المقصودة،التفت الى ناحية الصوت، فإذا بهما  ينهالان عليها بسيل من كلمات التوبيخ والتقريع والتخويف لان ابنتها لم تكن ترتدي الحجاب، واجبراها على ان تعود مع ابنتها الى البيت وتضع على راسها الحجاب . واخذت تدعو من الله ان يرفع عنهم هذه البلوى ، ثم عادت لتطمئن على صحتها ولتعيد عليها هذا السؤال اكثر من مرة وكأنها تريد ان تؤكد لنفسها بان موضوع مرضها ليس خطيرا،وبدا عليها الوقوع تحت تاثير ما كانت تعانيه شقيقتها من  احساس بالشوق اليها والى جميع اهلها اكثر مما كانت تعانيه بسبب المرض  فاحتبس صوتها وتوقفت اكثر من مرة عن اكمال ما كانت تتحدث به معها واخذت تتنهد،فإذا بها بدأت تبكي ما أن قالت لها بانها يوميا مع اولادها وزوجها لايضعون الاكل في فمهم إلاّ بعد ان يرفعوا ايديهم نحو السماء ويدعون لها بالشفاء التام ،ثم انفرطت بنوبة نحيب مكتوم ٍ خشية ان يسمعها الجيران،ويصل بالتالي امرالمكالمة الى عناصر امن الخلافة.

 

                                      قوائم انتظار  

خلال مراجعتنا اليومية للعيادة كنّا مرغمين على ان ننتظر لفترة زمنية تزيد عن الثلاث ساعات قبل ان يحين موعدنا،لكثرة النساء  المصابات بمرض سرطان الثدي فالعدد يوميا يتجاوز الخمسين امرأة كانت تنتظر دورها وعلامات الشحوب بادية على وجوههن جميعا،فاصابنا بالهلع إذ لم نكن نتوقع ان نجد مثل هذا العدد مسجلا على قائمة انتظار الامل في عيادة دكتور واحد فقط،فماذا عن بقية النساء المنتظرات في قوائم الاطباء الاخرين ؟ عند هذا التساؤل الذي داهمني وانا معلق على مشجب الانتظار تشكلت في راسي صورة قاتمة عن التركة الثقيلة التي خلفتها الحروب في هذه البلاد التعيسة والتي ستعاني منها الاجيال القادمة ايضا .

كانت الصالة تضيق بالنساء ومن جميع مدن العراق،خاصة تلك التي سقطت تحت سلطة تنظيم الخلافة،ومازالت ترزح تحت مخالبه مثل الموصل والانبار وتكريت.ودائما ماكانت هناك وجوه جديدة نلاحظها تضاف يوميا على قائمة الانتظار. دفعني هذا المنظر الذي اعتدت على رؤيته خلال اسبوعين الى رسم صورة مرعبة في مخيلتي عن حقيقة تفشي هذا المرض،إذ لم يكن لدينا اي تصور عنه مهما حاولنا ان نتخيله،فاصبحت على يقين من ان ما يطفو على السطح من حقائق اقل بكثير مما يسكن في العمق ويضرب في عظام المجتمع.وتمكنت من الحصول على مجموعة بيانات كان قد اصدرها مجلس السرطان في العراق تشير الى تزايد حالات الاصابة بالسرطان في العراق مابين عامي(1991 – 2016 )وكانت عدد الاصابات(5,720 )وبمعدل(%31,05 )عام (1991 )في حين ارتفع عدد الاصابات ليصل الى(25,556 )وبمعدل(%67.4 )عام (2016 )لكل (100,000)نسمة .

 

                                       حكايات منسيّة

بدأت تتكشف امامنا حكايات كثيرة،التقطتها مسامعنا من افواه النساء بعد ثلاثة ايام من مراجعتنا لعيادة دكتور جمال،كلها كانت تعكس جوانب اخرى من العذاب الذي يعاني منه المصابون بمرض السرطان،لم يكن يلتفت اليها احد ،طالما كانت تنبت مثل الصبار في ارض قاحلة،لتكمل بقسوة تفاصيلها ما كنا نراه ونسمعه من حكايات في عيادات الاطباء وممرات المستشفيات . انها حكايات منسية مع سبق اصرار وتعمد حكومي،تختفي بين سطورها مخلوقات ادمية تنزوي بألامها في بيوتٍ خزائنها فارغة مثل بطون اصحابها،ونوافذها مفتوحة على غموض ايامها القادمة،فالواقع موحش جدا ولايبعث على الامل بسبب ارتفاع نفقات العلاج،فالعملية الجراحية تصل تكلفتها الى خمسة الاف دولار وكل جلسة من جلسات العلاج الكيمائي تصل تكلفتها الى مئتي دولار،ومثلها جلسات  العلاج بالليزر،وعادة ما يحتاج المصاب الى  عِدَّة جلسات وليس الى جلسة واحدة وعلى الاكثر تصل الى ست عشرة جلسة في مرحلة العلاج الكيمائي ومثلها عند العلاج باشعة الليزر،وعلى ذلك سيكون من الصعب على الفقراء ان يخرجوا من براثن هذا المرض اذا ما نال منهم،ومن لايملك المال عليه ان يستسلم للقدر،لان المستشفيات الحكومية في جميع مدن العراق بعد العام 2003 تفتقر الى الادوية واجهزة الفحص والى ابسط الخدمات العلاجية.

 

                                       نموذج واقعي

اذكرُ ان احدى النساء كانت قد جلست هي وزوجها الى جانبنا اثناء ما كنا ننتظر دورنا في العيادة،وأكثر ما لفت انتباهنا ذاك الشحوب الذي كان يصبغ لون بشرتها اضافة الى بنيتها الضامرة بشكل مخيف،واثناء ما كانت تتحدث معها زوجتي وتستفسر منها عن حالتها اخبرتها بانها لولا تبرعات الجيران والاقارب لما تمكنت من اجراء العملية الجراحية لازالة الثدي،لانهم فقدوا بيتهم ومزرعتهم وكل ما يملكونه عندما سيطر تنظيم الخلافة على محافظة نينوى،وهذا ما اضطرهم الى الهرب بجلدهم من قريتهم الكائنة في منطقة برطلة عند اطراف مدينة الموصل،لان تنظيم الخلافة اعتبر ابناء اقليتها الشَّبكية كفَرة،ويستحقون الموت حالهم حال ابناء الطائفة الايزيدية،فما كان امامهم سوى خيار النجاة بانفسهم،ولينتهي بهم الحال في مبنى خاص بالنازحين بمدينة اربيل،ويعتمدون في معيشتهم على ماتقدمه لهم المنظمات الدولية من مساعدات غذائية.

 

                                 الجرَّاح يستعد للسفر

بعد ان واظبنا على مراجعته يوميا لسحب السوائل ابلغنا الدكتور جمال في نهاية الاسبوع بانه سيسافر بعد يومين الى انكلترا ليستمتع باجازته السنوية حيث سيبقى لمدة ثلاثين يوما الى جانب عائلته التي تقيم هناك،وابلغنا بانه قد كلف احد تلامذته من الاطباء في مستشفى ويلفر بان يتولى عملية سحب السائل بدلا عنه اذا ما تجمع خلال الايام القادمة،كما اوصانا بضرورة ان لانتأخر خلال اليومين القادمين  في مراجعة الدكتور لقمان نانا كلي المختص بالعلاج الكيميائي في عيادته الكائنة  في نفس الطابق ونفس المبنى الذي تقع فيه عيادته،واكد لنا بانه من افضل الاطباء المختصين العلاج الكيميائي.  

                         

                                     الخروج من الأوهام

قادتني رحلة العلاج في اولى مراحلها الى اكتشاف الوجه الآخر للحياة بينما كنا نتسابق مع الزمن،في محاولة منا لتفادي عبوسها ولسعاتها القارسة،علَّنا نعثر على ظل نحتمي به من غلاظة مشاعرها،ونسترد القليل من انفاسنا المتقطعة.

لم استطع الافلات  من كابوس الافكار التي باتت تلاحقني،من بعد ان وجدت نفسي اشبه بمن يدخل صدفة الى ممر طويل يؤدي به الى عالم سفلي يختفي تحت زيف عالمنا الواقعي. فكنت اصبُّ اللعنات على الحروب وعلى من تسبب بها ويدعو اليها كلما استعيد صور الاعداد الكبيرة من المصابين بمرض السرطان من النساء والاطفال والرجال الذين كنت التقيهم في عيادة دكتور جمال وفي ممرات المستشفى،وبقدر ما قد قادتني هذه الرحلة الى داخل نفق معتم إلاّ انها اخرجتني من غابة اوهام كانت تسكنني .

يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى