تدمر ـ دمشق ـ تدمر

خالد جمعة | فلسطين المحتلة

يا رفيقَ الصحراء، احمل عني حزنَ المدنِ كي أعطيكَ لقباً لم يحلم به الرسل!

دعنا في الطريقِ إلى دمشقَ نغتسلُ بالحكاياتِ كي نقصَّ هذا المللَ الأنيقَ عن ظهورِ جِمالنا.

دعنا نزرعُ الشجرَ بين هؤلاء القتلى على الطرقات الخاوية، ونسمي باسم كلّ شهيدٍ شجرةً علّ روحُهُ تهدأُ، الروحُ تقلقُ إلى الأبد حين لا تعرفُ لماذا قتلوا صاحبَها، دعنا نجرّبُ الغناءَ في طريقِ العودةِ، كي تسيلَ الأوقاتُ الجامدةُ وتعثرَ على راوٍ أمينٍ لا يزيّفُ خطواتِنا من تدمرَ إلى دمشقَ ومن دمشقَ إلى تدمرْ.

أخفِ هذه القلادة التي أعطتك إياها الملكةُ حين أرشدتَها إلى قاتلِ نصفِها، ولا تلاطف لصّاً أظهَرَتْهُ الحضارةُ مثلَ سيّدِ قبيلةٍ معزّزٍ باللغة، واحفظ ذاكرتكَ في قِربةِ ماءٍ فالذاكرةُ في الحياةِ كالماءِ في الصحراء، ولا تلعن الليلَ حينَ يحلُّ، فهو فعلُ الطبيعةِ، ما يستحقُّ اللعنَ فعلٌ بشريٌّ يا رفيقَ الصحراء، فكلُّ ما أتى من خارجِ النفسِ لا سلطةَ للنفس عليه، خَيارُكَ أن تحبّه أو ترفضَ مجيئهُ، وإن استطعتَ قتلَ الخارجينَ عن ذمّةِ الحياةِ فافعل، فمن لا يحبُّ الحياةَ لن يحبَّ أن يحبّها سواه.

ستنتفضُ روما على جرحِها، وتردمَ تدمر تحتَ إبطِ الخوفِ، لن يسمحَ الجارُ الفاتكُ لجارِهِ الودود أن يُفسِدَ أولادَهُ ويكونَ مثالاً للتمرّدِ، ستموتُ السيوفُ وتنتصرُ الحضارةُ، لكنّ هذا لن يكونَ إلا على جثثٍ كثيرةٍ تكفي لتصنع جسراً بين ضفتي دجلة العظيم، ليست نبوءةً تلك، لكني أقرأ الغدَ كما قرأتُ الأمسَ، سأجرّبُ أن أحفظَ تدمر والزبّاءُ في خاصرةِ حصانيَ العربي، ستموتُ الملكةُ، لكنها ستعيشُ معي إلى الأبد، ليسَ أبدي وحدي يا رفيقيَ المتذمّر من حرارةِ الرؤيا، بل أبد الوقت.

سنمرُّ ألف مرةٍ من تدمرَ إلى دمشق، وألف مثلها من دمشق إلى تدمر، وأعلمُ يقيناً أن الموتَ سيدركنا يوماً بينهما، لا في دمشق ولا في تدمر، وأعلمُ أن زمانين كاملين يفصلان المدينتين والحضارتين والفكرتين، لكننا نقطع الوقتَ كما ترى، كما نقطع المسافةَ، فلا سلطة للحدودِ على الفكرةِ، رأيتَ هذا بعينِ روحكَ حينَ تحسَّستَ نواصي الخيلِ في بغداد التي لم تنشأ بعد، سألتَني عن أمرٍ يدوّخُ العرّافينَ فأجبتُك: عليكَ أن تعرفَ الفرقَ بينَ العرّافين وبين من يرونَ بأعين قلوبهم، تماماً كالفرقِ بين من يعبدُ صنماً وبين من يعبد الله.

تذكّر احتفالاتِ تدمر بأعراسِها، تذكّر ملوكها وملكاتها، عبيدها وكهنتها، عشائرها وأحلافها، نخيلها وقنواتها، أبارها وأحواضها، تذكر مسارحها وأقواسها ومعابدها، تذكر قلاعها وينابيعها وأسبلتها، تذكر مدافنها وحماماتها وأسوارها، تَذَكّرْ أناملَ الخزّافين، أباريقهم وجرارهم، تذكّر أصوات الشعراء، مدائحهم وهجاءاتهم، تذكّر مطارق الحدّادين وأصواتَ الرنين، تذكّر بهجةَ الزُّرّاعِ بأولِ ثمارِ أشجارِهمْ، تذكّر إلى أن تفيضَ الذكرى عن حدودِ جِلدِكَ.

في الطريقِ من تدمرَ إلى دمشق، من دمشق إلى تدمر، رافقتنا دائماً حورياتُ الأمنيات، كنّ يحقّقن الأمنياتِ قبلَ أن تخطرَ على قلوبنا، وحين توقَّفَتْ الحورياتُ عن السيرِ في ظلّ قافلتنا، صارَ الموتُ في الطريقِ بين دمشق وتدمر مرافقاً لسيرِ الشمسِ، ولا نجم يدلّ على وقتِ قدومِهِ.

يا لدمشق

يا لتدمر

يا للمسافة التي لم يعد أحد يجرؤ على قطعِها.

ــــــــــــــ

* تدمر إحدى أهم المدن الأثرية عالمياً، وتعني المعجزة، أو البلد التي لا تقهر، تقع في وسط سوريا وتتبع لمحافظة حمص، كانت عاصمة مملكة تدمر وهي اليوم مدينة سياحية. تبعد 215 كيلومتر شمال شرق دمشق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى