مسيرة النمو

د. بشار عيسى | سوريا

ليس في العالم شيء أشد إثارة للدهشة من مراقبة الإنسان و هو ينمو و يتطور و قد يبدو للناظرين ذلك في أول الأمر و كأنما هو مجرد عملية نمو و لكن لا يكاد الإنسان يبدأ في أداء بعض الأعمال حتى يبدو للعيان أنه يتعلم حيل الحياة وأساليبها، بيد أن هذه العملية في الحقيقة هي أشد تعقيداً وأعمق مغذى من ذلك فكل إنسان يكرر في تطوره ونموه تاريخ النسل البشري بكامله خطوة فخطوة سواء كان ذلك من الزاوية المادية أو من الزاوية الروحية فالإنسان يبدأ أولى خطوات النمو في رحم أمه كخلية واحدة دقيقة وتتكون لها خياشيم كخياشيم الأسماك بنفس الطريقة التي ظهر بها أول شيء حي في سائر البحار و المحيطات و في أواخر العام الأول من عمر الإنسان يبدأ في تعلم الوقوف على قدميه محتفلاً بذكرى مرور ملايين الأعوام على بدء أجداده بالانتقال إلى مرحلة السير على قدمين فقط و في تلك الفترة أيضاً يتعلم بدقة كيف يستخدم أصابع يديه بمهارة ودقة ملفتة أسوة بمن استطاعوا بأيديهم إنجاز أشياء أعظم فائدة مما ينجزونه بالسير على الأقدام و الكلام فقط، وبعد سن السادسة من العمر يبدأ الإنسان بالتخلي عن جزء من اعتماده الكلي على رعاية أبويه و يأمل بالتطلع نحو الوصول إلى طريقة يتكيف بها مع العالم الخارجي خارج نطاق أسرته وناظراً بجدية إلى أحكام و قوانين الحياة المتمحورة في تكوين مجتمعات كبيرة تفرض التدرب على ضبط النفس والتعاون بآن واحد طبقاً للأنظمة والقوانين المرعية والسائدة بدلاً من الاعتماد على إدارة و توجيه رب الأسرة .

يختلف نمو الإنسان و تطوره من شخص إلى آخر وهو مزيج فريد و معقد من الأنماط المختلفة ويتوقف هذا التطور في الدرجة الأولى على عنصر الوراثة الطبيعية العادية لا الوراثة الناشئة عن الأخطاء و العثرات والآثام وتكون كثير من الأمور الفيزيولوجية أشياء موروثة عميقة الجذور في شتى الأسر و لكنها تتفاوت في نفس الأسرة أيضاً لأن إرث الأسرة الواحدة هو نفسه مزيج من عناصر كثيرة، و يُعتبر الذكاء خلافاً للتطور والنمو الآلي أشد تأثراً بالمحيط منه بالوراثة و لعل الذكاء الذي يتناول طاقات التفكير والذاكرة لا يمكن البدء باختباره وقياسه قبل بلوغ الإنسان عدة سنوات من العمر و تُعد العلاقة بين تطور النمو و الذكاء علاقة واهية بوضوح لأن العديد من الاختبارات و الإحصائيات دلت على أن الذين يُبدون بطئاً في التطور يكونون عادة من ذوي المستوى الطبيعي من الذكاء، ويعتمد التطور الاجتماعي والعاطفي إلى حد ما على المزاج الذي يُولد مع الإنسان كأن يكون هادئاً أو نشيطاً و فعالاً جداً و لكن العنصر الأساسي الذي يعتمد عليه كذلك هو التجارب التي سبق للإنسان أن اكتسبها و من المعلوم بأنه ليس هناك أي دليل على أن هنالك أنواع محددة من الاضطراب أو الانحراف الخُلقي تُعد صفات وراثية .

تأتي غريزة العناد مع الإنسان إذا أُرغم على عمل لا يريده و كذلك غريزة التأفف من قبول أي غذاء لا يستثيغه، يُضاف إلى أن الإنسان لا يُقبل دائماً على صنف واحد من الطعام بالقدر نفسه من الشهية و لذلك فإن إرغامه في هذه الحالة يؤدي إلى انخفاض شهيته أو فقدانها كلياً لأن الشهية تختلف باختلاف طبائع الإنسان فكل شخص يأتي إلى هذه الدنيا بقدر من الشهية و نمط من الذوق يلائم تكوينه، ويُعتبر الوقت وحده كفيل بإزالة معظم الآثار السيئة التي تتركها الصراعات مع النفس في شتى المعضلات وعموم المنغصات، ويظن البعض أن السبب الرئيسي الوحيد في السمنة المفرطة في عملية النمو يعود إلى سوء عمل الغدد ولكنه في الواقع هناك الكثير من صنوف العوامل الأخرى المؤدية إلى ذلك و من أهمها الوراثة و المزاج و الشهية و الراحة النفسية والشعور بالسعادة، كما أن حالة القلق وتطلب النمو السريع وشعور الانعزال للإنسان من العوامل التي تلعب دوراً عكسياً في زيادة الإقبال و الإكثار من الطعام، و بناءً عليه فإن التنظيم الغذائي مهم وضروري وكفيل لحفظ سلامة النمو وعاملاً مؤثراً في تحقيق مصطلح الصحة العامة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى