رواية “الدّجاجة التي حلمت بالطيران” ما وراء الأكمة (3 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

ولا شك أنّ إبساك كانت تدرك ضعفها أمام قوة ابن عرس وتتحاشاه، ولكنها حين تضطرُ إلى مواجهته، خاصة إذا تعلق الأمر بفرخها الصغير، تتحول إلى دجاجة مقاتلة: “ارتعب الرأس الأخضر، واستمرّ يصفق بجناحيه. أظهرت إبساك مخالبها، ونفشت ريشها، التقت عيناها عيني ابن عرس. قالت إبساك بلهجة تحدّ تدلّ على استعدادها لمواجهة الموت: كوك كوك، لن أسمح لك بالإمساك به”، ص132.

وفي معركة شرسة بينها وبين ابن عرس دافعت بشراسة عن الرأس الأخضر/ بايبي، وتدحرجت مع ابن عرس إلى أسفل الوادي، وتمتمت بصوت ضعيف، بعد أن كادت تفقد وعيها: “اهرب يا بايبي”، ص133.

كما تميزت بالتحدي والجرأة والإصرار على تحقيق أحلامها رغم الخطر الذي يتربّص بها، فعند إخراجها في عربة الدجاجات المحتضرة قالت في نفسها “لن أموت هكذا (…) لا يمكنني أن أموت بهذه الطريقة. ليس الآن على الأقل؛ أريد الذهاب إلى باحة الحظيرة”، ص26. كما قارعت الموت حين سارت بتشجيع من فرخ البط البري/ المتشرد، نحو نهاية الحفرة التي تحتوي جثث الدجاجات الميتة، وحين نجحت في ذلك سألها فرخ البط: إلى أين ستذهبين؟ فأجابت: “حسناً، لا أنوي العودة إلى القنّ بالتأكيد”، ص33، وعلى الرغم من عدم رغبة طيور الحظيرة بعودتها، لم تفقد إيجابيتها؛ لأنها غادرت القن، وها هي ذي تقول: “ليس هناك سبب كي أحزن؛ لأن أمنيتي الأولى قد تحققت”، ص48.

وقد قادها الإصرار على حرية فرخها الصغير أن تغادر الحظيرة، وتدخل إلى عالم المجهول: “غادرت الدجاجة المزرعة مع فرخ البط الصغير، ومرا أمام شجرة الخرنوب الأسود (…) كانت إبساك أكثر تصميماً، وهي تدخل عالم المجهول”، ص104، كما قادها إلى مواجهة رئيس البط، ومنعه من اصطحاب ابنها إلى الحظيرة من جديد، فقالت له: “أرجوك أن تأخذ عائلتك، وتغادر هذا المكان، نحن لن نعود”، ص119؛ لذلك لم يجد رئيس البط أخيراً بُدّاً من التعبير عن احترامه لها، وإعجابه بها: “أنت مختلفة عن دجاجة باحة الحظيرة، تبدين أكثر ثقة بنفسك، وأكثر مهابة”، ص174.

كما خاضت معركة أخرى مع زوجة المزارع التي أرادت، بعد المجزرة التي ارتكبها ابن عرس بحق الديك الصغير، أن تُدخل الرأس الأخضر إلى الحظيرة، وهو ما يعني أن إبساك لن تراه لاحقاً؛ لذلك هاجمت زوجة المزارع ونقرتها بشراسة: “حاولت زوجة المزارع إبعاد إبساك عنها؛ ولذلك أفلتت الحبل الذي يقيّد الرأس الأخضر”، ص152، فطار بناء على طلب إبساك واختفى سرعت وراء الجبل، وأسرعت إبساك إلى خارج باحة الحظيرة متفادية مكنسة زوجة المزارع.

أما أظهرُ صفات الدجاجة النفسية التي تحتل أهمية قصوى في هذه الرواية، فهو طموحها الذي أورثها قدرة على اتخاذ القرارات وتنفيذها، من أجل تحقيق أحلامها، حتى في أصعب ظروف المعاناة؛ فقد رفضت أن تبيض لأن بيضها يذهب إلى السوق،  ولا يتيح لها المزارع أن تصبح أمّاً، وهو ما أدى إلى شعورها بأن حياتها بلا جدوى: “كانت تشعر بفراغ في قلبها في كل مرة تأتي زوجة المزارع وتأخذ بيضها”، ص13، من هنا ظلّ حلم الأمومة يراودها، وقد أكّدت عليه غيرَ مرّةٍ، فقالت: “ليتني أتمكن من أن أجثم على بيوضي، وأن أراقبها عندما تفقس”، ص12، كما أعادت تكرار رغبتها لاحقاً: “أريد أن أحضن بيضي أنا، وأن أحصل على فراخ أهمس لها: لن أتخلى عنك أبداً”، ص27، وصرّحت بأمنيها دون مواربة: “عندي أمنية.. أريد أن يفقس البيض الذي أضعه، وتخرج منه فراخ صغيرة”، ص59، بل إنها حسدت دجاجة الحظيرة، ليس لأنها رشيقة فقط، بل لأنها “على وشك أن تحتضن فراخها”، ص44.

هذه الدجاجة الطموح، العنيدة المتمردة اتخذت قرارها بعدم وضع البيض، وقررت أن تفعل ما في وسعها؛ لتنفذ قرارها:

  • “لن يتكرّر هذا مجددا”، ص11.
  • “لا أريد وضع البيض مجدداً! أبداً”، ص18.

وحين تضرب عن الطعام وتهزل تعطي المزارع بيضة صغيرة بشعة وملوثة بالدماء (وغير صالحة للبيع)، فيلقي بها على الأرض؛ وإذ تنكسرُ تنكسرُ معها روح إبساك التوّاقة إلى الأمومة: “رمى المزارع تلك البيضة أرضاً، فتناثرت محتوياتها دون أن تُحدث أي صوت (…) بكت إبساك للمرّة الأولى في حياتها، وارتجفت بشدة، وأغلقت منقارها”، ص18.

لقد سعت إبساك إلى تحقيق حلمها الأول وبدأت بتحقيقه حين وجدت بيضة لا يرقد عليها أي طائر (بيضة البطة البيضاء)، وبدأ قلبها يخفق بسرعة: “لا تستطيع إبساك أن تترك البيضة بمفردها. بدأ قلبها يخفق بسرعة، وكانت قلقة من أن تموت البيضة إن لم تحضنها وتبقيها دافئة”، ص64، وقد وجدت في ذلك فرصة سانحة؛ لكي (تتبنى) بيضة لا أمّ لها، وتصبح أمّاً تأخذ دورها في منح الدفء وسرد الحكايات: “هذه بيضتي أنا. يمكنك يا صغيري أن تصغي إلى حكاياتي”، ص65، وقد “أحبت إبساك البيضة التي تضغط الآن على صدرها العاري”، ص65، و”تمكّنت من سماع دقات قلب الفرخ الصغير داخلها من خلال القشرة”، ص66. أما بعد خروج الفرخ من البيضة، فإنها لم تصدّق أنها تراه؛ إذ كان دافئاً وحقيقياً:

“أهذا أنت يا صغيري؟!

اندفعت إبساك إلى الفرخ الصغير الذي خرج حديثاً من البيضة، وأمسكته بجناحيها. كان حقيقياً وصغيراً ودافئاً”، ص87.ٍ

كانت إبساك أمّاً حقيقية تتعاطف مع صغيرها، وتحس بالإشفاق لأجله، حين يرفضه سرب البط الكبير، وحين يجلس بعيداً ويسبح وحيداً، وقد دأبت على حراسته، وهرّبته من الحظيرة قبل أن تقص زوجة المزاراع جناحيه، وقد كانت تلك الأم مثالية حتى النهاية؛ حين فرحت بالصغير الذي التحق بسرب البط، وطار معه إلى بلاد الدفء، على الرغم من أن ابتعاده عنها يسبب له الكثير من الألم.

  • “يجب عليك أن تغادر. ألا تعتقد أنه يجب عليك أن تكون مع عائلتك”، ص171.
  • “وقفت إبساك فوق التلة، وراقبته وهو ينضمّ إلى طيور البط البري، وشعرت بفراغ كبير في قلبها”، ص172.

وقد بدت إبساك في هذه الرواية أكثر رقّة مما يُنتظر منها، بوصفها أمّاً، ولا نقصد هنا الموقف السابق الذي تخلت فيه عن (ابنها) كي يلتحلق بأسرته، بل نقصد تعاطفها مع غريمتها أنثى ابن عرس التي تقضي حياتها في الجري من أجل صغارها: “إنها أم تركض في أنحاء الحقل عندما يحل الظلام، وهي الأم التي تضطر إلى العودة بسرعة من أجل صغار لم تفتح عيونها بعد. إنها الأم التي لن تتمكن من البقاء على قيد الحياة إذا لم تركض بمثل سرعة الرياح”، ص181.

وكما حققت حلم الأمومة بإصرارها انطلقت لتحقق حلمَيْ الحريّة والطيران، فمن أجل حلم الحرية غادرت القن، ومن أجله غادرت الحظيرة، وفيما بعد غادرت حقل القصب، بل إنها غادرت فكرة العش ذاتها، حتى تضمن حياتها الحرة وحياة صغيرها، فـ “صممت ألا تصنع عشاً لها في أي مكان من هذا العالم، وأن تظلّ يقظة، كي تلاحظ ظل الصياد قبل اقترابه منها”، ص125.

أما حلم الطيران فقد راودها مراراً،  و”كان أكثر ما تتمناه أن تتمكن الدجاجات من الطيران مثلما تفعل الطيور الأخرى”، ص118، وقد حققت ذلك الحلم واقعياً ورمزياً: واقعياً من خلال صغيرها الذي التحق بسرب طيور البط البري المهاجرة، بعد أن صرّح لأمه إبساك “أريد أن أطير.. أريد أن أطير بعيداً”، ص188، ورمزياً من خلال الحلم النهائي الذي شكّل السياق الختامي للرواية: “حركت إبساك جناحيها الكبيرين والجميلين، وطارت وهي تنظر إلى الأسفل. أجل كان كل شيء تحتها. رأت البركة، والحقل الذي غطته العاصفة الثلجية، وأنثى ابن عرس التي كانت تسير مرهقة، وهي تحمل دجاجة نحيلة”، ص190.

فإذا انتقلنا إلى الحديث عن فرخ البط البري المتشرد، المنبوذ من قبل سرب البط غير البري الذي يعيش في الحظيرة، نجد أنه كان ذا سمات مميزة، فهو “أخضر اللون مثل أوراق شجرة الخرنوب، ولهذا لم يكن يشبه بقية البطات”، ص17، وكان ثمة لون بني يخالط اخضراره، فيتميز بهذا الاختلاف عن الجميع، ويخسر فرصة انضمامه إلى أسرة البط. وقد امتاز هذا الفرخ المتشرّد بشهامة لا تتصف بها بقية البطات، وشجع إبساك على الخروج من حفرة الموت، حتى لا يظفر بها ابن عرس، على الرغم من أن هذا الفعل يعرضهما معاً لغضبه، وأنيابه، فقد قال يشجعها: “أنت لست ميتة، قفي بسرعة (…) لا تتكلمي. اركضي فقط، بسرعة (…) سيمسك بك إذا لم تخرجي من هناك”، ص28.

وقد شهدت حياته تطوراً مهماً حين وقع مع البطة البيضاء في شباك الغرام، وقد شاهدته إبساك، فشعرت على الرغم من غيرةٍ حَرَمَتْها صديقها، بالسعادة من أجله، “وهو يغطس في المياه مع البطة البيضاء، ثم يقفز على ظهرها. كانت إبساك سعيدة لأن فرخ البط البري الذي كان وحيداً على الدوام وجد رفيقة له”، ص60.

وتثمر هذه العلاقة عن بيضة وحيدة، لأن ابن عرس سرعان ما يفترس البطة البيضاء، فيبقى فرخ البط البري يحرس بيضة بطته التي رقدت عليها إبساك طول الليالي المتتابعة، ولا يغادر أجمة الورد إلا في الصباح، بعد أن يخوض ليلياً معارك دامية مع ابن عرس، دون أن تعرف إبساك سرّ علاقته بالبيضة، ودون أن تعرف سبب إحضاره سمكة كل يوم لكي تتناولها:

  • “كان فرخ البط يركض في بعض الأحيان وهو يصفق بجناحيه. اعتبرت إبساك الأمر غريباً؛ لأنه لم يكن يفعل ذلك في باحة الحظيرة”، ص71.
  • “في إحدى الليالي لم ينم فرخ البط البري مطلقاً، وظل يركض هنا وهناك، وكأن أحداً ما يلاحقه”، ص73.

لذلك كانت تعترض على ضجيجه،  وتقول له: “كنت لطيفاً معي وأنا ممتنة لك، ولن أنسى فضلك ما حييت. لكنني وكما تعلم، أعتني ببيضة”، ص73، ولكنّ البط البري يطمئنها أنه لن يزعجها للأبد، فيتمتم، “كأنه يحدّث نفسه: سأبقى فقط إلى أن تفقس البيضة”، ص74. وحين تحاول أن تفهم سبب إصابة جناحه، يختفي مزاجه الهادئ فجأة، وحين تسأله عن رفيقته البطة البيضاء يقول لها: “طلبتُ إليك ألا تتحدثي في هذا الموضوع”، ص78. وأخيراً تدرك كل شيء بعد أن يفترسه ابن عرس، فقد حماها وحمى بيضة بطته، وعارك ابن عرس، حتى تمكّن منه الأخير، فتقول: “كنت أباً عظيماً أيها المتشرد”، ص97، وتقدّر أنه طلب منها الذهاب مع الصغير إلى البركة، هرباً من مقصّ زوجة المزارع: “هل كان فرخ البط يعرف أن لأمر سوف يكون هكذا.. اذهبي إلى البركة وليس إلى باحة الحظيرة”، ص103، غير أنها تدرك حكمته وبعد نظره حين تعرف أنه أراد منها الذهاب مع الصغير إلى البركة؛ حيث تأتي أسراب البط البري كل عام: “سبق لفرخ البط البري أن أبلغ إبساك بضرورة الذهاب إلى البركة مع بايبي. ظنّت إبساك أنها فهمت ما يعنيه، لكن ذلك لم يكن صحيحاً، والآن فقط، فقد أراد فرخ البط البري أن يكبر صغيره ويطير كي يلحق بعائلته”، ص159.

لقد كان فرخ البط البري المتشرد أهلاً للصداقة، وكان من الطبيعي أن يكون جديراً بحزن إبساك بعد أن رأت بأم عينها ابن عرس، وهو يمسكه بين فكّيه: “سارت على غير هدى وسط الظلمة، وتمنت أن تعثر حتى على ريشة واحدة منه”، ص85، وراحت رغم ضعفها وعجزها تلوم نفسها: “مات المتشرد، لكنني لم أفعل شيئا، لم أتمكّن من التحرّك لأنني كنت خائفة”، ص86.

(يتبع)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى