النقد والدوائر المغلقة في الشعر والأخلاق (4)

مصطفى سليمان| سوريا 

في المقالات الفائتة دخلنا دوائرالغموض والإبهام واللفظة الشعرية والوحدة العضوية. واليوم دائرة الشعر والأخلاق؛ لنكتشف الدوران في فلك المفاهيم الواحدة قديماً وحديثاً مع اختلاف الصياغات.
ابن سلّام الجمحي في (طبقات فحول الشعراء) لم يعتمد المعيار الأخلاقي أو الديني في تصنيف الشعراء، وإنما اعتمد معايير فنية جمالية؛ فوضع امرأ القيس والنابغة في الطبقة الأولى، وهما من شعراء الوثنية الجاهلية.

وفي بعض شعرهما تهتُّك وفجور ومجون ولم يضع قبلهما أي شاعر إسلامي دافع عن القيم الأخلاقية أو الدينية .
والآمدي، في (الموازنة بين الطائيين – أبي تمام والبحتري)، يوجب على الشاعر: (أن يحسن تأليفه، ولا يزيد فيه شيئاً على قدر حاجته) . وإحسان التأليف عنده هو الإتقان الفني بعيداً عن أي اعتبار أخلاقي.
أما ابن المعتز فقد اعتمد موقفاً فنياً جريئاً في الفصل بين الفن والأخلاق:
(لم يؤسِّس الشعرَ بانيه على أن يكون المبرِّزُ في ميدانه مَن اقتصر على الصدق، ولم يقرّ بصبوة، ولم يرخص في هفوة. ولو سُلِك بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتقدمين أُميّة بن الصّلْت، والشاعر عدي بن زيد؛ إذ كانا أكثر تذكيراً ومواعظ في أشعارهما من امرئ القيس والنابغة. وهل يتناشد الناس أشعار امرئ القيس والأعشى والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وبشّار وأبي نواس على تعَهُّرهم، ومهاجاة جرير والأخطل والفرزدق إلا على ملأ من الناس وفي حلقات المساجد؟ وهل يروي أشعارهم إلا العلماء الموثوق بصدقهم. وما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر)!.
وقدامة بن جعفر: (على الشاعر، إذا شرع في أي شعر كان(!) من الرفعة والضعة والرفث والنزاهة وغير ذلك من المعاني الحميدة والذميمة، أن يتوخّى البلوغ من التجويد في ذلك إلى النهاية المطلوبة).
فالمهم الجمال الفني وليس القيم الأخلاقية . لذلك قال ابن خلدون: (ظللنا نسمع أن مَن يحاول القول في الزهديات والربانيات والنبويات يسقط سقوطاً ذريعاً ). طبعاً يقصد سقوطاً فنيّاً.
وللأصمعي قول مشهور: (طريق الشعر إذا أدخلتَه في باب الخبر.. لإنَ) !!
ومؤيدو هذا النظرية النقدية المثيرة يوازنون بين شعر حسان بن ثابت في الجاهلية والإسلام. ويذكرون تسويغ شاعر المعلقات الجاهلي (لبيد) صمتَه عن قول الشعر في الإسلام، أو قلَّتَه، بأن الله أبدله به سورةَ مريم ! وليست العبرة بالكثرة والقلّة بل بالجودة الفنية الجمالية .
في عصرنا الحديث رفض طه حسين تسخير الأدب للشؤون الأخلاقية الإصلاحية فقط .
ففي كتابه (خصام ونقد) يقول: (الإصلاح وترقية شؤون الإنسانية تصدر عن الأدب صدورًا طبيعياً كما يصدر الضوء عن الشمس والعبير عن الزهرة ….والذين يريدون الفن للفن لا يرتفعون بأنفسهم عن الجماعات الإنسانية، ولا يلتزمون هذه الخرافة التي تسمى البرج العاجي ولكنهم يرون للجماعات الإنسانية ولأنفسهم أن تخلص بعض وقتها للجمال).
ويقرر محمد مندور: (إن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية… ومن أجوده مجرد التصوير الفني).
ويدافع العقاد في كتابه (ساعات بين الكتب) عن الشاعر الرجيم (بودلير)- كما وصفوه – وصاحب ديوان ( أزهار الشر) بقوله:
(إن الشر والجمال قد اجتمعا كثيراً في الطبيعة والحياة فلماذا لا يجتمعان في القصيدة وسائر الفنون؟ بل لقد كان القبح نفسه – وهو نقيض الجمال- موضوعاً للفنون الجميلة من شعر وتصوير وتمثيل. ولم يمنعنا دور القبح أو الشر أن نعرف فيه مزية الأداء الجيد الجميل).
والعقاد يتفرّد برفض كون الشر( وحده) موضوعاً للتصوير الفني الجميل: (وإلا كان الشاعر ممسوخاً منحرفاً منقوص الحظ من العبقرية).
وهذا يذكّرنا بكتابه النقدي الفذ:(ابن الرومي- حياته من شعره) حيث تحدث عن تصوير ابن الرومي الأحدب تصويراً فنياً حسياً تجسيدياً وحركياً، أَنسانا معه قبحَ الحدبة على ظهر الأحدب، ومتَّعنا جمالياً بهذا التصوير الفني البديع. فغاب التشكيل الحسي غير الجميل ، وبرز الفن الجميل.
ألم ننفعل إنسانياً مع (أحدب نوتردام)، الذي جسّده الممثل العبقري أنطوني كوين في رواية فيكتور هوغو، وكيف تعاطفت معه بل أحبته (إزميرالدا) بتجسيد فني مدهش، وقيم أخلاقية إنسانية نبيلة، من طرف الممثلة الإيطالية الرائعة”جينا لولو بريجيدا ؟؟
ونورد هنا الشعر الأخلاقي النبيل للشاعر المخضرم ” عمرو بن معديكرب الزبيدي”:
(ليس الجمال بمئزرٍ
فاعلمْ وإن رُدِّيت بُردا
إن الجمال معادنٌ
ومناقبٌ أورثْنَ مجدا).
يتبع….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى