د. يوسف زيدان: المقوقس حذاء هرقل الباطش بالمسيحيين ولم يكن مصريا

 

لما استقر الرأىُ فى إيليا على ضرورة توحيد المذاهب المسيحية، اخترع الأساقفة لهرقل مذهباً تلفيقياً سموه (المونوثيلية) أى: مذهب الإرادة الواحدة لله. واقترحوا عليه تعميم المذهب الجديد فى مصر، فلا يختلف أهل الديانة فيما بينهم..

وكان هرقل، بالطبع، يشجِّع اتفاق رعاياه من أهل الديانة على مذهبٍ واحدٍ، فلا تثور بينهم المشكلات وترُاق بسبب العقيدة الدماء، وبالتالى يضمن الولاء من الجميع. خاصةً أنه كان يريد أن يرتاح بعد سنوات من الكفاح، ويسعد بزواجه من (مرتينا) ابنة أخته، وهى فتاة باهرة الجمال أراد خالها هرقل أن ينالها، فاعترض بعضُ الأساقفة ووافق البعض.. وبعد شدٍّ وجذب، تزوَّجها.

ولما كان من المعروف عن المصريين (اليعاقبة) عنادهم، فقد كان من المهم أن يُعهد بتعميم المذهب الجديد، إلى شخصٍ حازمٍ وقوىٍّ بإمكانه تحقيق هذا الأمر، وإلزام المصريين المسيحيين جميعاً، بمذهبٍ عقائدىٍّ واحد.

فاقترح البعضُ على هرقل، أن يأتى من بلاد القوقاز (قَوْقس) بأسقف بلدة فاسيس، الواقعة حالياً بجمهورية جورجيا، ليكون لأول مرة (ولآخر مرة) فى تاريخ مصر: الحاكم الدينى والدنيوى، معاً..

وتمت صياغة المذهب (المونوثيلى) على عجل، وعلى عجلٍ استدعى هرقل الأسقف القوقازى، ودرس هذا الرجلُ المذهبَ (المخترَع) وذهب به إلى مصر ليخلف الأسقف جورجيوس بن مينا، الذى يسميه العرب (جريج بن مينا) وليكون أيضاً قائداً عاماً للجيش، وملكاً أو أميراً يحكم مصر لصالح هرقل. وكان وصول هذا الأسقف القوقازى (المقوقس) إلى الإسكندرية عاصمة مصر آنذاك، فى خريف سنة ٦٣١ ميلادية.

وهو الأمر الذى أكَّدته المصادر التاريخية (يمكن مراجعة هذه النقطة المهمة، فى كتاب «ألفريد بتلر» عن فتح مصر).

ولنلاحظ هنا، أن وفاة النبى محمد (ص) كانت فى ربيع سنة ٦٣٢ ميلادية، أى بعد شهورٍ من مجىء المقوقس.

وبالتالى، فلا صحة لما توهَّمه عديدٌ من القراء، الذين ظنوا أن هناك خطأ فى الأحداث التاريخية المذكورة عَرَضاً فى روايتى «النبطى»، خصوصاً فيما يتعلق بمجىء السيدة (مارية القبطية، أم المؤمنين).. فالخطأ التاريخى ليس فى الرواية، وإنما فى أذهاننا.

وحين وصل المقوقس إلى مصر، كان للمسيحيين المصريين (الملكانيين) كبيرٌ منهم اسمه الأنبا صفرونيوس، وللمسيحيين المصريين (اليعاقبة) كبيرٌ اسمه الأنبا بنيامين..

وعرض الأسقف/ الأمير «قيرس» الذى سماه المصريون «امِّقَوْقس» المذهب الجديد على الملكانيين، فارتمى صفرونيوس تحت أقدامه، ونزفت عيناه دماً (حسبما يقول ساويرس بن المقفع) وصرخ متألماً، راجياً من الأسقف المقوقس أن يصرف النظر عن هدفه ونيَّته إلزامَ الجميع بالمذهب الجديد.

فأهانه المقوقس، لكنه لم يستطع أن يبالغ فى إيذائه، لأن الملكانيين كانوا آنذاك هم «أصحاب البلد» وكان بأيديهم المال والاقتصاد والتبعية المباشرة لكنيسة العاصمة الإمبراطورية «بيزنطة»

أما الكبيرُ الآخر، الأنبا بنيامين، فإنه لم يذهب إلى المقوقس ليفاوضه، أو يرجوه، أو يتحداه، ساعياً للشهادة. وإنما هرب من الإسكندرية، بعدما أوصى أتباعه بأن يصمدوا.

وقد قبض المقوقس على (مينا) المسكين، الأخ الأصغر للأنبا بنيامين، أملاً فى أن يعود أخوه الأنبا الهارب، فيلزمه المقوقسُ بالمذهب الجديد المخترَع. لكن بنيامين لم يرجع إلى الإسكندرية، واختفى عن الأنظار فى الصعيد، فاكتوى أخوه المسكين (مينا) بنار المقوقس وأتباعه.

فقد تفننوا فى تعذيبه بدنياً، ثم علَّقه المقوقس من ذراعيه وأوقد حوله ناراً حامية أذابت شحم جسمه، ثم أخذه إلى مركب وعلَّق بقدميه أثقالاً، وعرض عليه أن يقبل المذهب الجديد، أو يُلقى به فى البحر.. وآثر «مينا» الموت، فأغرقوه فى البحر، فصار شهيد المذهب اليعقوبى!

وآثر بنيامين البقاء هارباً، ومختفياً، وظل كذلك طيلة الثلاث عشرة سنة التالية، حتى جاءه من قلب الصحراء، الفاتحُ البديع (عمرو بن العاص) فأعاده إلى الإسكندرية بعدما أعطاه (الأمان) الشهير، وأوكل إليه رعاية أهل مِلَّته .

لم يهدأ المقوقس بعد مقتل مينا، وإنما قام بحسب ما روته المصادر المسيحية، بتهديد الناس وسَلْب الكنائس (اليعقوبية) وإحراقها، وجمع من هؤلاء الناس «اليعاقبة» عشرين ألف شخص فى ميدان بوكاليا بالإسكندرية (محطة الرمل، حالياً) وعرض عليهم المذهب الجديد، فرفضوا قبوله، لأن الأب بنيامين أوصاهم قبل هروبه، بالثبات على العقيدة القويمة، حتى لو دفعوا حياتهم ثمناً لها.

وقد دفعوا بالفعل حياتهم ثمناً لها، فقد قتلهم المقوقس جميعاً، وجرت دماؤهم فى شوارع الإسكندرية كالأنهار.. (راجع فى ذلك: تاريخ البطاركة، لساويرس بن المقفع) .

تمثال لهرقل ?

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. من‏ ‏الواضح‏ ‏أن‏ ‏قيرس‏ ‏هو‏ ‏المقوقس‏ ‏الذي‏ ‏عينه‏ ‏هرقل‏ ‏حاكما‏ ‏وبطريركا‏ ‏دخيلا‏ ‏علي‏ ‏الإسكندرية‏, ‏وأن‏ ‏مؤرخي‏ ‏العرب‏ ‏الذين‏ ‏يذكرون‏ ‏اسم‏ ‏المقوقس‏ ‏ليس‏ ‏لديهم‏ ‏إدراك‏ ‏لمعني‏ ‏ذلك‏ ‏اللفظ‏ ‏ولا‏ ‏لاشتقاقاته‏ ‏وقد‏ ‏قصدوا‏ ‏به‏ ‏حاكم‏ ‏مصر‏, ‏ويمكن‏ ‏أن‏ ‏نلخص‏ ‏موقفهم‏ ‏في‏ ‏أنهم‏ ‏أطلقوا‏ ‏لفظ‏ ‏المقوقس‏ ‏علي‏ ‏الحاكم‏ ‏الذي‏ ‏جاءه‏ ‏كتاب‏ ‏النبي‏ ‏قبل‏ ‏الفتح‏ ‏بسنوات‏ ‏وأيضا‏ ‏علي‏ ‏الحاكم‏ ‏الذي‏ ‏كان‏ ‏وقت‏ ‏الفتح‏, ‏ومن‏ ‏المؤكد‏ ‏أن‏ ‏المقوقس‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏قبطيا‏ ‏وبالتالي‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ”‏عظيم‏ ‏القبط‏” ‏بل‏ ‏كان‏ ‏حاكما‏ ‏أجنبيا‏ ‏علي‏ ‏مصر‏ ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏مفروضا‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏الإمبراطور‏ ‏البيزنطي‏ ‏ويظهر‏ ‏أن‏ ‏دوره‏ ‏انتهي‏ ‏بعد‏ ‏دخول‏ ‏العرب‏ ‏مصر‏ ‏ولم‏ ‏يعد‏ ‏يذكره‏ ‏التاريخ‏ ‏علي‏ ‏عكس‏ ‏الأنبا‏ ‏بنيامين‏ ‏بطريرك‏ ‏الأقباط‏ ‏الحقيقي‏ ‏الذي‏ ‏استمر‏ ‏التاريخ‏ ‏يذكره‏ ‏حتي‏ ‏نياحته‏ ‏في‏8 ‏طوبة‏ (‏يناير‏) 662 ‏م‏.‏
    تذكر‏ ‏بعض‏ ‏المصادر‏ ‏التاريخية‏ ‏أن‏ ‏قيرس‏ ‏حزن‏ ‏علي‏ ‏خيانته‏ ‏لمصر‏ ‏وتسليمها‏ ‏للعرب‏ ‏ومرض‏ ‏بالدوسنتاريا‏ ‏ومات‏ ‏يوم‏ ‏أحد‏ ‏الشعانين‏ ‏في‏ ‏مارس‏ 642 ‏م‏, ‏ودفن‏ ‏في‏ ‏كنيسة‏ ‏أبو‏ ‏يحنس‏ ‏بالحبالين‏ ‏بالإسكندرية‏, ‏ويلاحظ‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الكنيسة‏ ‏كانت‏ ‏في‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏ملكية‏ ‏يونانية‏ ‏مما‏ ‏يؤكد‏ ‏كونه‏ ‏غير‏ ‏قبطي‏.‏(السؤال الآن للكاتب البديع يوسف زيدان: هل هذه المعلومات التي اقتبستها من موقع مسيحي صحيحة؟ أرجو التفضل بالإجابة مشكوراً.علماً ان ما ذكرته من حقائق أوسع من هذا الاقتباس لكن للتأكيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى