اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (14)

مروان ياسين الدليمي | العراق

نوستالجيا
قبل أن يحين موعد إقلاع الطائرة التي سنعود على متنها إلى أربيل أحالنا الانتظار الطويل إلى الشعور بحالة من الإرهاق والضجر، ولكن الذي خفف عنا هذا الشعورتلك الأحاديث التي فتحت أبواب الحنين على مصراعيها، مع عائلة مسيحية أصولها من محلة السّاعة في مدينة الموصل القديمة، صادف أن جلست بالقرب منا، فاستحال الوقت معها إلى حيوات وأمكنة استعدنا صدى تراتيلها وانغامها من انفاق الزمن، بعد ان نفضنا عنها تراب النسيان، وما أصاب ملامحها الوديعة من خدوش وتشويه خلال العقدين الاخيرين، فاشرقت بدفء ايامها واخذتنا معها الى مباهج عفوية لم تعد الحياة تلتفت اليها .
كانت العائلة مكونة من أب وأم تجاوزا العقد السادس من عمرهما، وبرفقتهما ابنتاهما اللتان كانتا في سن المراهقة، اضافة الى ابنهما الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، وبسبب قسوة سنين الحصار الدولي على العراق في تسعينات القرن الماضي اختارت الهجرة الى الولايات المتحدة الاميركية، وهي في ذاك اليوم كانت تروم السفر الى اربيل لزيارة الاهل والاقارب للاطمئنان عليهم بعد ان اضطروا للنزوح الى اقليم كوردستان اثر احتلال الموصل من قبل تنظيم الخلافة.
تأملنا معا سجل ذكرياتنا الموصلية المشتركة وما يضمه من صور بقيت عصية على النسيان رغم تراكم الغبار على جمال لحظاتها، ومازالت كلما احتجنا الى ايقاظها تبعث فينا القشعريرة ما ان تتسلل رائحتها العطرة الى ستائر الذاكرة، وكل واحدة من تلك الصور كانت تشير الى حكايات محمّلة بنسمات ربيع موصلي لم نجد مثيلا له في اي مكان وصلنا اليه في غربتنا ،وما ان تمس شغاف القلب حتى تُشعِل فيه اللوعة.
حكايات تضم بين تفاصيلها وشخوصها وازمنتها مساحًة من الطمأنينة لاحدود لأفاقها، وما عاد عالمنا اليوم قادرًا على ان يشيعها بين سكانه، بينما كانت ازقة الموصل القديمة وشوارعها تمنحها دون شروط مسبقة.
تدفق الحديث متوهجا بمذاق اللهفة والحنين، وكأنَّ الذي بيننا وبينهم عِشرة تمتد الى سنين طويلة وليس لقاءً عابرًا جمعتنا به الصدفة في محطة انتظار ببلد غريب، ولاأدري كيف مضى بنا الوقت سريعا مثل سرعة الضوء، ونحن نحلق بمتعة اخيلتنا بعيدا عن حركة خطوط الملاحة الجوية ضاربين عرض الحائط قوانين الجاذبية الارضية، فحطت بنا اجنحة الذكريات عند عتبات تشتاق اليها العيون قبل الافئدة، لكنها مضت بافراحها وبراءتها الى غير رجعة، وفقدنا الطريق الذي يؤدي اليها بعد ان استحال الفجر الجديد الذي وعدتنا به افانين السياسة الى ليل طويل يخشاه الحالمون والعشاق والشرفاء.
الهروب نحو الماضي في احاديثنا كان شعوراً مثقلا باليأس، ما انفك ينأى بنا مسافات بعيدة ونحن نرى نداءات الحياة وهي تنطفي في مدينتنا التي كانت في ما مضى مملكة متوجة بانسجام الوانها المتنوعة، فكتبنا في صالة الانتظار ونحن نقرض الوقت، قصائد شوق لسماء كانت تمطر امالاً، فتستحيل المتاهات في دروب المحبين الى فراديس.
آوينا الى الصمت في ما تبقى من الوقت ونحن ننتظر موعد الاقلاع عن الارض والتحليق في الفضاء بعد ان تعبت مخيلتنا من لملمة شظايا مرآتنا المكسورة في الواقع، بينما كانت شاشة تلفزيونية كبيرة معلقة على جدار في صالة الانتظارتعرض وعبر نقل مباشر من قِبَلِ قناة الميادين موكبا حاشدا للشيعة وهم يؤدون طقوسهم الخاصة التي عادة ما يفيض منها البكاء واللطم اثناء احيائهم لذكرى مقتل الحسين، وتساءلت مع نفسي وانا اراقب مايجري في تفاصيل المشهد الكربلائي: على من تبكي هذه الجموع، على نفسها أم على الحسين؟

اذا ما سهونا
في اللحظة التي خرجنا فيها من مطار اربيل واستقلينا سيارة اجرة ونحن نروم العودة الى البيت ، غمرني احساس غريب من غير ان يكون بيني وبينه موعد مسبق، ولم اكن اتوقع ان يخطفني على تلك الصورة المحمَّلة بالشوق، ويكشف عما كان مخبوءًا من مشاعر حب ازاء علاقتي بهذه المدينة، مع انني غريب عنها وعن اهلها، ولم اختر العيش فيها بارادتي لتكون الوسادة التي اسند اليها راسي حتى انام مطمئنا، بعد ان امست حياتي قبل اكثر من ثلاثة عشر عاما في مدينة الموصل على حافة الخطر.
عندما خرجت بنا السيارة من محيط المطار ودخلنا الشارع الطويل الذي يمر بمحاذاة شقق زكريا، انتبهت الى ان حيويتي عادت لي، كما لو اني قد عثرت على شيء ثمين كنت قد فقدته، فأيقنت بان هذه المدينة كانت تمكث معي دون ان تعلن عن نفسها، وانني لااستطيع الافلات من اغوائها رغم اني لااتقن لغة اهلها، ففي بعض الاحيان قد ينال السهو منّا، فيسبب ضررًا في ذاكرتنا، عندها تنسدل غشاوة على اعيينا وتسقط في دائرة النسيان علاقة وثيقة تمثل جانبًا من حقيقتنا، كانت تربطنا بشخص او مكان او مدينة او شيء ما .
كنت مندهشًا منيّ، لاني كنتُ متعجِّلا بشكل لافت لاستعادة الرائحة الخاصة للمدينة التي آوتني عقدا ونيف من الزمان بعد ان البستني ثوب الامان، اخترقني هواؤها ونفذ الى كل خلية من جسدي، وكأني استعدت نفسي، وشعرت بقوة داخلية تحرضني على ان استعين ببراءة الطفولة لامد يدي الى الخارج حتى المس روحها في الهواء الساخن، وجدران الابنية وسيقان الاشجار المزروعة على الارصفة وفي كل ما كان يمر امامي سريعا وانا اتطلع اليها من خلف زجاج نافذة التاكسي. في تلك الظهيرة الحزيرانية التي وصلنا فيها الى البيت كانت المدينة وتحت ثقل القيظ تركن الى هدوء عجيب، لم يبدده الا فرحنا بلقاء ولدنا الذي استقبلنا بشكل طبيعي وهو ينزل الدرج من الطابق الاول وعيناه شبه مغمضتين من اثر النوم، كما لو اننا لم نغب عنه خمسة ايام . وكم شعرت بالامتنان للصديقين اكرم اسوفي ومحمد خيون، بعد ان اخبرني بانهما كانا على اتصال دائم به للاطمئنان عليه اثناء غيابنا.
بعودتنا الى اربيل فإن اربعة اسابيع تكون قد انقضت من هذه التجربة التي احالت حياتنا الى مايشبه الكابوس، حيث وجدنا انفسنا نقاتل ولوحدنا في معركة لم يكن متاحًا لنا فيها ان نخلد الى الراحة، حتى ان ايامنا بلياليها وصباحاتها بدت مبعثرة على دكة الارتداد الى الخلف مهما حاولنا ان نمسك بالزمن لعلنا نستفيق من الغيبوبة التي قلّمَت اغصان امنياتنا.
ما مضى كان المحطة الاولى وليست الاخيرة في هذه الرحلة المعبأة بالقلق، ولاشك في اننا تمكنا فيها من انتزاع الحياة قبل ان تسقط بين انياب القدر المحتوم، والتقطناها باسنانا واظافرنا مع ان هواجس مرعبة كانت تتسلل الينا ما أن تنفرد الذات بذاتها، واظهرت هي شخصيًّا قدرة غير متوقعة على ان تقف في مواجهة الرعب الذي كان يحيط بها في كل ثانية، خاصة عندما كانت تختلي بنفسها، وتبدأ محاولاتها في تحطيم حواجز الغيب التي كانت تفصل بينها وبين ما يخبئه الغد من مفاجاءات، وغالبًا ماكانت تقطع في هذه الرحلة المتخيلة مسافة طويلة من الافتراضات التي عادة ما كانت تنطفىء وتشتعل فيها الروح دون ان تصل الى ضفة الامان، ومع ذلك لم اجدها ترفع الراية البيضاء رغم ما كان يصيب دفاعاتها من اضرار.
ابتدأ من اليوم الذي اعقب عودتنا من بيروت كان عليها ان تقف عند خط البداية لتبدأ ماراثونها مع العلاج الكيمائي، وما جمعناه من معلومات عن هذه المرحلة فرض عليها ان تتسلح بالشجاعة القصوى لانها ادركت حجم ما ستكابده من اوجاع، وستكون امام صفحة جديدة ستترك عليها اثارًا نفسية ستلازمها فترة طويلة قبل ان تتجاوزها وتصبح في اضبارة ارشيفها من هذا المرض إذا ما حالفها الحظ .

رحلة بلا جدوى
عصر اليوم التالي كنا على موعد مع دكتور لقمان في عيادته بمركز ميديا، وكما اعتدنا في زياراتنا السابقة كانت صالة الانتظار مزدحمة بالنساء، حتى بدا المشهد على تلك الصورة روتينيا ، ولم يعد يشكل صدمة لي رغم ما يحمل بين تفاصيله من اشارات غير مطمئنة، كلها تؤكد على انتشار مرض سرطان الثدي بشكل مخيف بين نساء العراق . ومع ذلك كان من الصعب ان اتقبله باعتباره امرأ مألوفًا، لان من غير الممكن ان يقبله العقل ولكنه سيبقى هكذا على مايبدو، طالما كانت ابواب البلاد مشرعة امام متاهة الفساد . وبعد انتظار زاد عن ساعة من الزمن حان موعدنا مع دكتور لقمان، الذي لم يكن يتخلى ابدا عن صرامته التي تتناسب مع نحافته الشديدة وطوله الفارع وهيئته التي لايظهر منها اي ملامح تعاطف مع المريض، رغم انه في حقيقته على العكس مما يبدو عليه، فقد كان يملك ارادة قوية تجعله يتحمل ساعات طويلة من العمل دون ان يبدر منه اي انفعال مع انه عادة مايكون محاطًا بالعديد من المرضى الذين لايتمتعون باي قدر من الامل، وغالبًا ما يخضعون لسطوة احساسهم باقتراب نهايتهم، وان فرصتهم في اقتناص يوم جديد قبل ان يأتي اجلهم المحتوم لاسبيل الى تاكيدها، ولعل اكثر ما يلفت الانتباه اليهم ، ان الصمت الذي كان يغلفهم قد استحال الى عالم يحيط بهم ، واصبح جزءا من حياتهم، وكأنه تعبير عن شعور بالاستسلام لمشيئة القدر.
قدمنا له مغلفا ورقيا يحتوي على نتائج الفحوصات التي اجريناها في لبنان، وقبل ان يفتح المغلف ارتسمت على وجهه ابتسامة شحيحة، ثم توجه بالسؤال الى زوجتي ليطمئن على صحتها، بعدها فتح المغلف وبدأ في قراءة التقارير الخاصة بالفحص، فإذا به يرفع راسه عن ما كان بيده واخذ ينظر الينا، ثم هز راسه بحركة موضعية خفيفة كمن تفاجأ بامر لم يكن يتوقعه، عندها وجدت زوجتي تنظر نحوي وكانها كانت تستنجد بي، في محاولة منها لفهم ما صدر عنه من ردة فعل عبّرت عن صدمته مما قرأه، خاصة عندما رفع يديه الى الاعلى فاتحا كفيه، وكأنَّ لسان حاله يقول لنا : ” ماهذا ؟ ” .
وقعنا في حيرة من امرنا بعد ان رجع بكرسيه الى الخلف، وبقي يوزع نظراته بيننا ، وبدا واضحًا انه كان مستاءً بقدر ما كانت تعلو ملامحه علامات الاستغراب، لكنه تصرف في تلك اللحظات كمن يخاتل استياءه وغضبه، حتى لا يتسبب باي اذى نفسي لمريضه، ولهذا رسم ابتسامة مبتسرة على وجهه، ولم يكن من الصعب ملاحظة ما حصل من تغير في مزاجه، وما كان يشعر به من اسفٍ، عندما اخذ يهز راسه اكثر من مرة وهو يزم شفتيه .
لم نفهم الحالة العبثية التي وجدنا انفسنا فيها، ولانه لم يكن يسعى الى ان يضعنا في دائرة مقفلة من الحيرة، قطع علينا تساؤلاتنا الداخلية وقال لنا ” للاسف، لم يكن هناك اي جدوى من رحلتكم الى لبنان ” .
” لماذا ؟” سالتُه بعد ان شعرت وكأنني قد سقطت فجأة في بقعة مظلمة واحاول ان اتشبث باي شيء حتى اخرج الى النور .
” لان الفحص لم يكن بجهاز ال pet scan الذي اوصيت به في التقرير انما تم بجهاز ال cet scan وهو نفس الجهاز الموجود لدينا في المركز والذي يعمل عليه الطبيب الهندي ” .
“كان لدي احساس في حينه، بان هناك خطأ ما قد حصل، حتى انني تحدثت معي زوجي حول ذلك ” استدركت زوجتي باجابتها في محاولة منها لترميم الخطأ الذي وقعنا فيه والذي لم يعد ممكنا تصليحه، وهذا ماعبّر عنه الدكتور ايضا حين حسم الامر بسرعة وقال “لنطوِ هذه الصفحة الآن، وعلينا ان نبدأ بالعلاج الكيمائي باسرع وقت ” ثم وجه كلامه اليها ” يتوجب عليكِ ان تراجعي مستشفى نانا كلي صباح يوم غد الثلاثاء، وساكون موجودا هناك، حتى نفتح ملفا باسمك ويخصص له رقمًا ” .
كانت صدمتنا كبيرة بعد ان واجهَنا الدكتور بما وقَعنا به من خطأ في لبنان ،خاصة وان اي وسيلة لمعالجته كانت غير ممكنة بل ليست مجدية، لان الوقت لم يكن يمضي لصالحنا ابدا، وهذا ما اكد عليه اكثر من مرة واعاده على مسامعنا، حتى اننا وبعد ان عدنا الى البيت في ذلك المساء لم نستطع ان نتناول العشاء، وبقينا لفترة من الوقت نتداول ما اوقعنا انفسنا فيه من إشكال، فكنّا مرّة نلقي باللائمة على انفسنا واخرى نبرؤها، وظل الشعور بأننا قد خدعنا مسيطرا علينا، ولم نستطع ان نتخلص منه، فضلا عن اننا في رحلتنا كنا قد تحملنا خطورة السفر ومشاقه، اضافة الى ان مجموع تكاليف الرحلة التي وصلت الى 2200 دولار ذهبت كلها هباء منثورا، وبقدر ما شعرنا باننا نتحمل المسؤولية عن الخطأ، لاننا لم نسال ولم نستفسر بما يكفي خاصة عندما شكَّت زوجتي بالامر قبل وبعد الفحص، إلاَّ اننا ولاجل تخفيف العب عن كاهلنا حمّلنا الموظفتين الشابتين في مستشفى الجامعة الاميركية كامل المسؤولية ، بسبب استهتارهما اثناء العمل، ولكن بعد كل مداولة جرت بيننا حول الموضوع كنا نعود لنصل الى نتيجة واحدة بقينا نرددها مع انفسنا “ما فائدة الشكوى ؟ ” .

العثور على مستشفى نانا كلي

رغم عمليات البحث التي اجريتها عبر شبكة الانترنت الا انني لم اعثر على صورة واحدة للشخص الذي تبرع باقامة مشروع مستشفى نانا كلي الخاص بمعالحة مرضى السرطان، حتى اسعفني سائق التاكسي الذي سألته صباح يوم الثلاثاء إذا ما كان يعرف مكان المستشفى حتى يوصلنا اليها، فبادر بالحديث ما ان تحركت بنا السيارة، واخبرنا بان احدى قريباته تعمل فيها بصفة ممرضة، ومن خلالها اصبح لديه معلومة مؤكدة بان تاجرا كورديا اسمه احمد اسماعيل نانا كلي كان قد تبرع بالارض وتكفل ببناء المستشفى وتجهيزها بكافة المعدات، وتم افتتاحها عام 2004 ، كما خصص راتبا شهريا لجميع العاملين فيها قيمته مائة الف دينار يضاف الى راتبهم الشهري الذي يستلمونه من حكومة الاقليم باعتبارهم موظفين على الملاك الحكومي. وطيلة الطريق كان السائق يستعيد المواقف النبيلة التي اقدم عليها هذا التاجر لدعم المحتاجين فذكر لنا بانه خصص رواتب شهرية لعوائل كثيرة في كوردستان ليس لديها من يعيلها، وظل يؤكد على ان الرجل لاعلاقة له بالسياسة ابدا، كما انه يقيم في اغلب الاوقات في الاردن حيث يدير اعماله التجارية من هناك.
ادركت بعد سماعي لهذه المعلومات ان من الممكن للامنيات البسيطة التي عادة ما تراود عموم الناس في العلاج والرعاية الانسانية والحياة الكريمة ان تتحول الى حقائق ملموسة إذا ما ابدى الاغنياء القليل من الاهتمام ببلدهم.
انسابت في الروح نغمات تتدفق عذوبة، جعلتها ترفرف على ايقاع ينهمر منه فرح شفيف، رغم ما كان يثقل عليها من توجس ازاء ماينتظرها في قادم الايام، فقد كان لحديث السائق صدى عميق تناغم بسهولة مع ما احمله من رغبة في التشبث بخيوط الحلم، وكأن القدر بعث لنا اشارة عابرة يدعونا فيها الى ان نستعيد مالدينا من طاقة حتى نتمسك بقدرتنا على مواجهة الانهيار، وليس بغريب على الحياة ان يرتفع صوت النهار فيها من اعشاب يابسة، وان تنمو البذار بين صخور صلدة، ويتفتح الجمال وسط الخراب. وبكل الاحوال كان علينا ان نضبط ايقاع وجودنا على هذه الارض حتى نستعيد الاحساس برعشتنا ما أن يلمس ضوء الشمس اصابعنا، فنحن شئنا ام ابينا علينا ان ننال كفايتنا من العيش مهما نالت منا المقادير .
عندما دخلنا المستشفى تفاجأت بمساحتها الكبيرة، فالمبنى مؤلف من ثلاثة طوابق، كان الطابق الارضي مخصصا للادارة وعيادات الاطباء والمختبرات وقاعات مجهزة باسرة يستلقي عليها المرض عندما يتلقون العلاج الكيميائي، اضافة الى صيدلية توفر العلاج باسعار رمزية بل اقرب الى ان تكون مجانا، كما توجد تحت الارض غرف خاصة تتوفر فيها اجهزة سونار واشعة، والطابق الاول كان للنساء ويضم قاعات مجهزة باسرّة ومعدات واجهزة طبية، اما الطابق الثاني فقد تم تخصيصه للاطفال. ولفت انتباهي وجود عمليات بناء وتوسع لثلاث قاعات كبيرة على مساحة خالية داخل حدود المستشفى .

امرأة تنتظر
ما كان يخطر على بالي ابدًا ان اجد هذا العدد الكبير من المرضى، خاصة من النساء والاطفال، وكان امرا مفاجئأ لي عندما وجدت جميع العاملين على درجة عالية من الانضباط في التعامل مع المرض ومرافقيهم، وبما اننا قد تعودنا على غياب حسن الاستقبال في سلوك معظم الموظفين الحكوميين، لهذا كنت في كثير من الاحيان احسد المخلوقات الاخرى الهائمة في البرية لانها ليست من فصيلة البشر، وهي في غنى عن مراجعة المستشفيات اذا ما اصابها مرض.
كان من الصعب على زوجتي ان تتحمل الوقوف فترة طويلة في ظل مناخ ترتفع فيه درجة الحرارة بشكل كبير، ولكي ان لايكون الانتظار سببا في تدهور صحتها كنت قد اقترحت عليها ان تذهب لتستريح في اي مكان بعيد عن اشعة الشمس الى ان انتهي من اجراءات فتح الملف .
بعد فترة قصيرة شاهدتها تجلس الى جانب امرأة في الثلاثين من عمرها على مسطبة تحت ظل شجرة في حديقة المستشفى، واخبرتني في ما بعد ان تلك المرأة مصابة بسرطان القولون، وتتعالج منذ اكثر من تسعة اشهر، وحدَّثَتها عن تجربتها مع اول جرعة كيميائي اخذتها وعلِمت منها بانها لم تجد في تساقط شعرها مايدعوها الى الشعور بالالم، بل ان اكثر ما كان يؤلمها التفكير بمصير زوجها واطفالها الاربعة الصغار إذا ما صرعها المرض في وقت مبكر، انذاك من سيعتني بهم وكيف سيكون حالهم، خاصة وانهم يعيشون في مخيم للنازحين يقع في ناحية بحركا عند اطراف مدينة اربيل، كانوا قد لجأوا اليه بعد ان اجبرتهم ظروف الحرب الطائفية الى النزوح من مدينة بعقوبة في محافظة ديالى، بعد ان اختطف ابنهم الكبير الذي لم يتجاوز السنة العاشرة من عمره، ولانهم عجزوا عن توفير مبلغ الفدية مقابل اطلاق سراحه، وجدوه مقتولا على مسافة قريبة من بيتهم، وعلى اثر ذلك اصابها السرطان، وهم اليوم يتحملون ظروفًا معيشية بالغة القسوة داخل المخيم، وليس لديهم سوى سيارة قديمة لاتصلح ان تكون تاكسي، ولهذا يعمل عليها زوجها في نقل حاجيات الناس في المنطقة القريبة من المخيم، فيوفر من خلالها الحدود الدنيا من العيش الادمي.

رقم وملف

في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً اكتملت اجراءات فتح الملف وتم تسليمنا اياه مع الرقم الخاص به الذي كان مطبوعا على قطعة كارتون صغيرة صفراء اللون بحجم هوية الاحوال المدنية. وتم التأكيد من قبل الموظف الذي كان مكلفا بفتح الملفات على ضرورة ان نحتفظ بالرقم ونبرزه في كل مراحعة نقوم بها للمستشفى حتى يتم تسليمنا الملف ليدوِّنَ فيه الطبيب تطور الحالة المرضية ومراحل العلاج ، وبعد ان ننتهي من المراجعة نستعيد الرقم بعد ان نسلم الملف.
توجهنا على الفور الى غرفة الدكتور لقمان في الطابق الارضي، ونظرا لان عدد المرضى الذين كانوا ينتظرون في صالة الانتظار قد تجاوز الخمسين مريضا اغلبهم من النساء، كان لابد من ان ادون اسمها في سجل يتضمن حقلا خاصا بتسلسل المراجعين. وبعد انتظار دام ساعتين من الزمن حان موعدنا مع دكتورلقمان الذي لم يستغرق سوى دقائق معدودة ، إذ اكتفى بكتابة عدد من الاسطر باللغة الانكليزية في اول صفحة من الملف ووقع تحتها، ثم التفت ناحيتها وقال ” ستاخذين ست عشرة جرعة كيمائية على مدى ستة عشر شهرا وفي نفس الموعد من كل شهر، وابتدأ من اليوم ستاخذين الجرعة الاولى ” .
” الان ! ” ..استغربت زوجتي وانا معها ايضا، لاننا لم نكن نتوقع ان يكون الامربهذه السرعة.
“هل انت غير مستعدة ؟ ” سالها الدكتور لمّا وجدها قد تفاجأت .
” بالعكس انا مستعدة ” اجابته بثقة ودون تردد، ثم اضافت “انا لست خائفة، ولكن لم اكن اتوقع ان يكون اليوم موعدنا مع الجرعة الاولى”.

يتبع …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى