الدوران حول كعبة النص في “كتابة الصمت”

نداء يونس | فلسطين

“الطين‏؛ ‏ليس سرا فقط/ بل سريرًا/ لكنما‏؛ عيناهُ معصوبتا‏ن و‏قنديلٌ في يدِه‏/ ‏هكذا علمتهُ المسالك/ يُغطي الوشمَ بالآياتِ التي على حجرٍ/ ويمضي فيَّ‏؛‏ مثلَ الدُّخانِ/ في فضاءٍ أَعمى”، أثار هذا المقطع من ديوان “كتابة الصمت” الانتباه حيث رأى البعض انه يحمل ازدواجية في المعنى.

إن هذا النص لا يحمل أوجه المعنى اعتباطا، فأوجه الشيء تتأتى من معرفتك بأنه يمكنك الدوران حوله وهذا مفهوم ظاهراتي.
إن شرح الشعر يحوله نثرا، كما إن مفاتيح النص أو العلامات هي بصمة الشاعر نفسه، بمعنى أن الشاعر يقدم علاقات جديدة بين دوال ومدلولات تشكل بكليتها علامة، ويعتمد تفسيرها على ثقافة القارئ في الحقل المعرفي أي اشتراكه مع الشاعر في السنن الثقافي.
ما قد يزيد صعوبة فهم الشعر هو طريقة تلقيه ويمكن تلخيصها من خلال ثنائية الوعي والإدراك والفرق بينهما، ففيما إن الوعي جمعي ومكتسب وموروث فإن الإدراك فردي، إنه يخضع الجسد إلى تجربته الخاصة ومن خلالها يزود العالم بتسمية له أي إنه يمتلك أدوات السيطرة، وهذا الذي جعل الشاعر في مواجهة حرب من كافة السلطات، خصوصا الدينية ما لم يلتق معها في إعادة إنتاج علامات السلطة وترسيخ الوعي العام والفكر الذي تم تحديده سابقا حتى في العلم كما يدلل فوكو على ذلك.
إن أعضاء الشاعر تشكل معرفتها عن العالم، لهذا كان الجسد، والذي يفهم لدى الوعي الجمعي ببعده الإيروتيكي فقط، محورا لـ”كتابة الصمت”، العمل الذي يقدم الجسد كأداة معرفة ووسيلة لتشكيلها بمعزل عن الوعي السابق الذي تمت صناعته.

عمل الجسد في كتابة الصمت على تشكيل إدراك الشاعرة بالعالم وبه يصبح الحاضر الذي هو وجهة نظر لحظة من الزمن كما كافة التأويلات والتفسيرات، كما يقول ميرلوبونتي.

إذن لا شيء يورَّث، هذه النتيجة مؤرقة لسلطات الخطاب التي تعمل على توريث علامات الخطاب التي تم تشكيلها عبر الزمن.
بالشعر إذن يتحول الجسد الفاني من خلال الإدراك إلى بنية كبرى ويتحول من بعد أفقي إلى عمودي لكنه يقدم نفسه كفكرة مثله مثل الموضوعات الأخرى وبالتالي يتحول إلى كما أسماه ميرلوبونتي إلى أداة لفهم الأفق- البنية ويمكنه بذلك أن يرى زاوية الشيء أو يخترقه وأن يرى زواياه ويجرده من لا مرئيته، وهكذا يمكنه أن يُسقط مقولة البنية كحقيقة.
إن الشاعر بهذا يهز أركان العالم كله من خلال اللغة والزمن، إنه يقتل الوعي كما قتل هيجل الإله (بمعنى البنية كنص غير قابل للنقاش) ويحول سجننا في التعاقب الذي لا يمكنننا التأكد منه ولا إخضاعه للإمبريقيا أي التجربة إلى فعل تزامني ينتج علائق تمثل نظرته وإدراكه للأشياء والتي تصبح هي ليس فقط وسيلتنا في التواصل بل وفي شرعنة تصرفاتنا أمام العالم، هكذا يصبح إدراك الجسد، الذاتي الفردي، هو الذي يكتب التاريخ والرواية من خلال قدرته على رؤية العالم واختزاله وتكثيفه وإعطائه التسمية من خلال إدراكه وليس من خلال قوالب التفكير الموروثة.
إن تجربة الشاعر هي التي تصيع سيميوزه الخاص ثم يتحول ذلك السيميوز إلى سنن وبالتالي فإن التشابه مع الشاعر في التجربة الشخصية مفاتيح مهمة لفهم نصه.
إن تجربة الفقد بالنسبة للشاعر مثلا سواء كان انفصاله عن الموروث أو التجربة بذاتها كتعطل الشعور تشبه بتر الأعضاء، إذ تظل “أنا” الشاعر تتحرك بكليتها تجاه النقص وتطرح الأسئلة على الغائب، وبهذا تتحدد في الجسد مناطق صمت، وهذا ما يتحدث عنه كتابة الصمت: إنه ما يقول الصمت عن الغياب وتعطل الحضور الذي يسحق كل وعي بالعالم مقابل هذا الوعي الفردي الذي يحرك النص فيه وإليه.
ومن هنا يمكن قراءة كتابة الصمت عموديا كأن تفسر المقطع السابق على إنه وصف للحبيب الذي حفظ الخرائط إلى جسد حبيبته، ويذهب إليها معصوب العينين ويمارس اشتغاله الجسدي فيها بينما يحمل قنديله أي ناره ويعرج أو يسمو كالدخان في فضائها الجاهل أو الأعمى، فالفعل الإيروتيكي هنا هو فعل تسام وصعود واعتياد على نشوة تصنع إدراكه بها وبعلاقته بها دون التفات إلى شيء ويستدل على ذلك من خلال إشارات في الديوان كله مثل “يصعد في لات الأنثى/ كما زرادشت/على بغلته ذات الأجنحة” أو “يَتهجّى كتابَ الصَّمتِ/يُفكِّكُ لغزَ الضَّبابِ الذي يحيطُ به/ كلمَّا عرَجَ” أو “إليه سيَّرَ دَمِي/ طُيوري، جسدي، ليلِي، خيالاتِي وخُيلائي/ يصعدُ/ ترفَّقْ بالطريقِ إلى الأَعلى” كما يمكن ان يقرأ افقيا من خلال علاقة النص بمجمل المفاتيح مثل “بينما يصعدُ العدمُ من جمرةٍ بين ضُلوعِها البَّاردة” أو “لؤلؤةٌ للبحرِ النائمِ/ موجةٌ ليدِ الرَمل/ وهو الأعمَى أمامَ عرشِ الضوءِ والرغبة”، وبالتالي تفهم على أنه رجل لا يرى في جسد المرأة سرا بل سريرا وبهذا يذهب إليها باعتياد وينطلق فيها كالدخان بلا أثر وهو يحمل جمرة لكنها جمرة العدم.
إن علاقتنا مع الآخر وفيه علاقة إدراك ذاتي لا يمكن القبض عليها إلا من خلال اللغة، لكن المراوغة في كتابة الصمت عالية وتقدم المخفي والظاهر وهما لعبتان ظاهراتيتيان بشكل يؤسس لمعنى الغائب من خلال ما يحضر ولمعنى الحاضر في ظل ما يغيب، إنه يقفز على المعنى من خلال ألعاب اللغة كما يقدمها فنجشتاين ويبنى عليها ليوتار كسلطة، بحيث يترك لكل وعي فردي فرصته في تقديم رؤيته للجانب الآخر من النص، وحيث إن كل نص يمكن الدوران عليه وتقديم ما يراه كل من جانبه.
الشعر هنا اشتغال متعدد، لهذا يستلزم أدوات متعددة للفهم الذي يكتشف القارىء أنه بالمحصلة تحريض له ليدخل تجربة قراءة النص لا بوعيه الجمعي بل بجسده أي بتجربته الخاصة في التفاعل وإدراكه الخاص رغم أن “أنا” القارئ ستظل تتجه بلا وعي منها تجاه الوعي المبتور أو الفكر الجاهز في محاولة منها لإيجاد معنى يتفق مع القالب وهنا يصبح فهم الشعر أصعب، إذ يرفض القارئ استقلالية الفهم وبتر الماضي الجاهز، لكنه يدرك بالنهاية أن المعنى هو ما يراه من زاويته أمام كعبة النص.
يقدم كتابة الصمت مفهوما ظاهراتيا لفهم العالم كما يقدم نصا يُقرأ على عدة إحالات داخل سياقه وخارجه. لا أعلم إذا كان هذا سهلا أو مألوفا، لكنه جزء من التجريب في الشعر والحياة والفلسفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى