يوميات فلسطيني في بلاد العم سام (1)

جميل السلحوت | القدس العربية – عاصمة فلسطين

“البلوز” واستقبال الحفيدة لينا

      لم تكن بي رغبة لزيارة أمريكا هذا العام 2015، فالانزلاق الغضروفيّ أسفل ظهري يؤلمني ويرهقني ويعيق حركتي، لكنّ شوقنا اللا محدود لرؤية حفيدتنا لينا بِكر ابننا قيس وزوجته مروة جنّح التّونسيّة العربيّة، دفعنا بقوّة أنا وزوجتي لحضور ولادة هذه الحفيدة، فغادرنا الوطن الذّبيح والقدس الشّريف في 11 أيّارـ مايو ـ 2015 إلى شيكاغو مرورا بمطار Newark في نيوجرسي، لنصل شيكاغو قرابة منتصف الّليل حسب توقيتها، بعد أن أمضينا أربعا وعشرين ساعة في المطارات والأجواء، منها خمس عشرة ساعة طيران.

       احتجت حوالي أسبوع حتّى تتأقلم ساعتي “البيولوجيّة” مع توقيت شيكاغو الذي يتقدّم على توقيت القدس بثماني ساعات.

       وجدت قيس وزوجته قد أعدّا لنا برنامجا ثقافيّا يحرصان فيه على اسعادنا قدر المستطاع، يتضمّن حضور حفلات مسرحيّة، موسيقيّة، غنائيّة هادفة، وآخر لزيارة متاحف شيكاغو ومعالمها الثّقافية….وقد زرت في سنوات سابقة بصحبة شقيقي داود متحف شيكاغو، والمتحف البحري الذي يحوي مختلف أنواع الأحياء البحرية من أسماك صغيرة مختلفة حتى الحيتان وأسماك القرش. ومع أنّ مروة كانت في أيّام حملها الأخيرة إلّا أنّنا ذهبنا لحضور حفل غناء من أغاني “البلوز” Blues الشّهيرة مساء 17 أيّار 2015، وهي أغاني للحرّية أبدعها السّود الأمريكيّون في جنوب الولايات المتحدة أثناء الحرب الأهليّة الأمريكيّة.

       وفي الحيّ الرّاقي شمال مركز شيكاغو Downtown مباشرة، هناك شارع كامل يعجّ بالمطاعم والمسارح التي تقدّم هذه الفنّ، اختار لنا قيس ومروة أقدم مسرح يقدّم هذا الفنّ، فيه قاعتان صغيرتان، لا تتّسعان لمئة شخص، في آخره مطعم صغير يقدّم ساندويشات صغيرة، أو صحنا من الدّجاج المسحوب، والمشوي على طريقة BBQ  Wings”، الطّاولات مرتفعة وعرضها لا يزيد عن ثلاثين سنتميتر، حفاظا على التقاليد القديمة.

وصلنا المكان في التّاسعة مساء، مع أنّ الحفل يبدأ في العاشرة على خشبة المسرح، كان شاب أسود يغنّي وخلفه أربعة موسيقيّين، الموسيقى تراثيّة وطربيّة، صوت “المغنّي” ليس كما يجب، وقد نوّه لذلك بقوله بأنّه سيشغل وقت الفراغ حتّى يأتي المطرب المحترف في العاشرة والنّصف، شرع يغنّي قائلا:

زوجتي مجنونة…من منكم له زوجة مجنونة مثلها؟

والعجيب أنّ نساء ورجالا رقصوا وهم يصرخون ويرفعون أيديهم تحيّة له.

        في تلك الّليلة توفي في لاس فيجاس أسطورة أغاني البلوز الأمريكي الأسود بي. بي. كينج B.B.King  عن عمر يناهز تسعة وثمانين عاما.

ميلاد الحفيدة لينا

     صباح يوم الخميس 21 أيّار ـ مايو ـ2015 وفي الخامسة وتسع وأربعين دقيقة حسب توقيت شيكاغو أطلقت لينا ابنة قيس ومروة صرختها الأولى معلنة قدومها إلى هذه الحياة. ولدت في مستشفى Hinsdale Hospital وهو مستشفى يقع وسط أشجار كثيفة ومتقدّم بطريقة لافتة…له حديقة جميلة فيها نوافير عجيبة، في الغرفة التي توضع فيها الوالدة يدخل الزّائر، فيجد أمامه متّسعا بعرض يزيد قليلا عن المتر، خلفه حاجز، في آخره سخّان كهربائيّ لتحضير القهوة والشّاي، وبجانبه ثلاجة فيها عصائر مختلفة…بجانب سرير الوالدة هناك كنبات مريحة، احداها تفتح لتشكّل سريرا ينام عليه المرافق إن وجد. طبيبات من تخصّصات مختلفة زرن الوالدة للاطمئنان عليها، والمولودة لفحصها…زارتها طبيبات: قلب، عيون، أمراض داخلية، مفاصل، سمع. وغيرها.

      لينا الطفل الوحيد الذي احتضنته في حياتي وهو ابن ساعات، غمرتني بالسّعادة التي ملأت قلبي ووجداني.

         وكما يبدو فإنّ المستشفيات الأمريكيّة على مستويات مختلفة، تماما مثلما هو التّأمين الصّحي أيضا، والتأمين الصّحّي لقيس ومروة مع شركة من أضخم شركات التّأمين الصّحّيّ في أمريكا، ومع ذلك، فهي لا تغطّي سوى 90% من التّكلفة، وهذا يعني دفع 4500 دولار بعد التّأمين لتغطية تكاليف الولادة.

 

أمور لا تصدّق

            ومن غرائب هذا المستشفى أنّ ممرّضة جاءت تشرح لمروة أنّهم احتفظوا لها بالمشيمة كي تطبخها وتأكلها لفوائدها العظيمة! وقبل أن تشرح عن كيفية طبخها، أخبرتها مروة أنّها لا تريد ذلك، فقالت:

 إذن خذوها لتبيعوها فهي غالية الثّمن! وسنعطيكم عناوين تشتريها!

 فضحكنا من العرض وقالت مروة:

خذيها أنت لتأكليها أو تبيعينها.

 

تصوير وخمسة وخميسة

       في أمريكا متخصّصون لتصوير الأطفال في أسبوعهم الأوّل، والسّيّدة المختصّة بتصوير الأطفال تبدي سعادتها بالأطفال العرب كون عيونهم واسعة ويفتحونها، كما يوجد على رؤوسهم شَعَر –حسب رأيها- وهي تمضي ساعات في تصوير لينا عبّرت عن سعادتها الأموميّة بلينا، في حين كانت مروة والدة لينا تردّد باللغة العربيّة “خمسة وخميسة” وفهمت لاحقا منها أنّها تعويذة تردّدها النّساء في تونس؛ لطرد العيون الحاسدة عن الأطفال، فضحكنا كما لم نضحك من قبل، وبقيت أردّد خمسة وخميسة من باب المزاح، وتذكّرت والدتي وهي ترقي أحفادها ومنهم قيس والد لينا، حيث كانت تملأ قبضتها ملحا، تحوم بها حول الطّفل وهي تردّد:

حوّطتك بالله من عيني وعيون خلق الله

من دار لك باله يِشْغل حاله في باله

كرشته غطا عينيه مانيش أقدر من ربّي عليه.

   غير أنّ الفرق بين رقية “كنّتي” مروة، ورقية والدتي، أن أمّي كانت ترقي الذّكور ولا ترقي الاناث، لايمانها بأن لا أحد يحسد الاناث.

25 حزيران 2015

 

مكتبة حفيدتي لينا

            لحفيدتي الرّائعة لينا المولودة في شيكاغو صباح 21 أيار – مايو- 2015 مكتبة بيتيّة، ليس بفضل والديها، ولا بفضل جدّيها لأبيها الّلذين يزعمان بأنّهما كاتبان، ولكن بفضل عمل والدتها، فزميلات والدتها التي تعمل في برمجة الحاسوب، اخترن هديّة لزميلتهنّ والدة لينا بمناسبة ولادتها للينا مجموعة من كتب الأطفال في سنّ مبكّرة، أيّ من أوّل يوم لولادة الطفل حتّى الاحتفال بدخوله العام الثّاني من عمره أو يزيد، وهذا يعني أنّ ثقافة اهداء الكتب سائدة، ولم تكتف زميلات مروة – وهنّ أمّهات أيضا بتقديم الهديّة فقط- بل شرحن لها أن تقرأ بهدوء لابنتها يوميّا، فالأطفال يسمعون ويفهمون حتّى وهم أجنّة في أرحام أمّهاتهم. وأوصينها أن تحتفظ بالكتب؛ حتى تكبر لينا وتنظر الرّسومات المرافقة لكتب الأطفال التي سمعتها وهي في المهد! وهذه الكتب الأنيقة مطبوعة على ورق مقوّى كما الكرتون، ويصاحبها رسومات جميلة مفروزة الألوان.

         وتبيّن لي أنّ قيس ومروة كانا يُسمعان لينا قطعة موسيقيّة كلاسيكيّة هادئة وهي جنين في رحم أمّها، وبعد أن خرجت إلى الحياة الدّنيا كانت تصغي لتلك القطعة الموسيقيّة، بهدوء وبنظرات ثابتة لمصدر الموسيقى، حاولنا تغيير الموسيقى بغيرها ضمن تذاكي الكبار على الصّغار، فلم تتقبّل ذلك باكية…كرّرنا ذلك مرارا لنرى ردّات فعل لينا هل كانت عفويّة أم مقصودة؟…وأصبحنا على قناعة بأنّها مقصودة.

       لا أخفي عليكم أنّني ذهلت ممّا سمعت ورأيت بهذا الخصوص، فلم أكن أعلم أنّ على الآباء أن يقرّأوا لأطفالهم منذ الأيّام الأولى لولادتهم، فأنا شخصيّا وأزعم أنّني حرصت على تنمية ثقافة المطالعة عند أبنائي منذ كانوا أطفالا، فكنت أقرأ لكلّ منهم ـ وأوّلهم ابني البكر قيس والد لينا ـ عندما يبلغون الثّالثة من أعمارهم، وأشعر بالرّضا عن نفسي، بل كنت ولا أزال أفاخر بذلك، لأنّ سنّ الثالثة مبكّر لا يعرف فيه الأطفال الأبجدية ولا يتعلّمونها. وأذكر أنّني كتبت وقرأت واستمعت وحاضرت حول “كيفيّة نشر ثقافة المطالعة في بلداننا نحن العربان” لكن هذه هي المرّة الأولى التي أسمع فيها أنّ تنمية ثقافة الطفل حول المطالعة تبدأ من ساعة ولادته، فشكرا  للينا “حبيبة جدّها” التي علّمت جدّها لأبيها شيئا لم يكن يعلمه أو يعرفه…وسأردّ لها هذا الجميل في العام القادم، عندما سأزورها ومعي مجموعة كتب للأطفال بالّلغة العربيّة هديّة لها…وسأقرأ لها هذه الكتب بلسان عربيّ مبين…وأتمنى أن يطول بي العمر لأفي بوعدي للينا.

      وأعتذر لحفيديّ الحبيبين كنان وبنان ابني ابنتي الغالية أمينة لجهلى بمعلومة القراءة للأطفال منذ ولادتهم، ولو كنت أعرفها لفعلتها معهما.

4 تمّوز 2014

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى