المثقف/ السلطة/ الجماهير الوعي بالوكالة وأوهام الناطقية

غسان علي عثمان | إعلامي ومفكر سوداني

 

الذهنية النقدية هي تلك التي تُعيد تدريب حاستها على استنطاق الأفكار وتجريدها من المحمولات الأيديولوجية.

النقد حالة ليس من بلاغة فلسفية قادرة على بناء سلطتها خارج وصاية النقد ذاته.

نعيش في مجتمع لا تزال قَوَّاهَ الْحَيَّة تستعذب ممالئة التيسير والخفض، واليقين بمطلق الهداية عند الصفوة.

نخبتنا واقعة بين إذعانين (السلطة والجماهير) وهي لا ترضي إلى نفسها.

 

الذهنية النقدية هي تلك التي تُعيد تدريب حاستها على استنطاق الأفكار وتجريدها من المحمولات الأيديولوجية والثقافية الرابضة تحت سطح الوعي، إذ تَحمل هذه الذهنية على كتفها تفريد كل شيء ناحية جعله خالياً من المعنى المسبق، وبذا فإن دور الذهنية النقدية تفكيك كل شيء، لا لأجل التفكيك بل لصالح بقاء عناصر كل فكرة بمعزل عن الأخرى ضماناً لفهم أكثر رعاية وشمول لأصل الوعي وضروراته، هذا وفي حالة غياب التقدير السليم لموقع كل بنية من بنى المعرفة حتماً تتسلل معاني خفية وتندرج في سيولة تمنح معها نفسها الحق في تلوين كل شيء بما يتوفر لها من أغراض، وهذا شغل السياسة لا الوعي المجرد، والنقد هنا لا يعني فعالية تمييزية وحسب، بل هي في اختبار مستمر لنفسها، وتملك القدرة على التخلص من ثمراتها قبل موسم الحصاد، النقد ضرورة للنقد ذاته، ولا يُفهم أن يكون النقد حالة من بلاغة فلسفية قادرة على بناء سلطتها خارج وصاية النقد ذاته.

ومَن يوصفون بطلاقة هذه المَلكة ليسوا في موقع أعلى من بقية المكونات الاجتماعية، وبسبب أن هذه العملية معقدة وبالغة الكشف عن مضامينها، فهي أكثر كلفةً في المجتمعات التي لا تزال قَوَّاهَا الْحَيَّة تستعذب ممالئة التيسير والخفض، واليقين بمطلق الهداية عند بناء المظاهر على وحي من الممكن والمعقول، وتفريغ شفاهتها في قوالب من مقولات وكلام، كما أن المكلفون بابتناء ذهنية كهذه يعانون من إنكارٍ مزدوج، فهم من ناحية موصوفون بالاستهلاك النظري هروباً من متطلبات الواقع، نعم، كونهم لا يزالون يستحفرون خطاهم بحساسية حذرة لا تريد أن تقول كل شيء دفعة واحدة، ومن ناحية أخرى هم مكلفون بالإذعان لحركة المجتمع التي لا تهدأ، وهذا يفيد أنهم واقعون بين إذعانين (السلطة والجماهير)، وهنا ينبغي أن لا يمارسون فضيلة ما يطلبه المستمعون، أو يخشاه القادرون على استخدام أدوات الدولة في مواجهة المعارضين، ولعلنا لا نعدو إذ قلنا بأن النقادون بهذه الشاكلة يمتنعون عن النشاط والفاعلية بسبب أنهم أقلية، وغير قادرون على إقامة توازن بين النظر وما يقع عليهم من تبعات ومسئولية كونهم الأعلى طلباً من الجماهير، وفي حالة غريبة تحدث كثيراً، تظل هذه الجماهير تعتقد فيهم دمامل وجوبية الوجود كفاً للأذى، ووجودهم ضروري كونهم صدارة يجب الاختباء خلفها مع الطرق باستمرار حول عجزها وقلة بضاعتها المنتجة للتغيير، ويبدو أن دور مثقف على هذه الشاكلة، أي وحيداً في مواجهة طبقة السلطة يكفي الجماهير ويخفف من وطأتها ويروي عطشها في صلاحية السكوت عن المظالم طالما لم يستطع الوكيل توفير البدائل، وكأن الجماهير تخضع لسيرورة خفية تريدها السلطة، فوجود ناطقون باسم المجموع يعني تقليل فرص الهجمة على السلطة، وحصر المعركة بين أفراد متشاكسون وفاقدون للقوة، وبين سلطة معبأة بأوهام التمثيل، وهنا فهي معركة غير متكافئة، أفراد مخذولون رغم حقهم في الكلام نيابة عن البقية، وبين سلطة تستمد معقوليتها من هذا الفراغ العريض المسمى “جماهير شعبنا”.  

ومن المسائل التي تتعلق بهذه القلة القليلة تلك الثنائية المسجة والتي تضع (المثقف) في مواجهة السلطة، وهي ثنائية أقل ما يسعنا وصفها بالغباء المهجن، فكون المثقف مالكاً لأدواته التي سَهِر على تكيَّفها حتى تنضج مقولات وأفكار، فهو بهذه الوضعية مثقف عمومي وظيفته أن يجيب عن كل شيء، وفي أي وقت، وفي هذه الحالة يبدو أن الطلب عليهم في المجتمع يقصد به تصويرهم ناطقين بالوكالة عن بقية أعضاء المجتمع، وهذه نظرة باتت من مخلفات العصر الوسيط، حين كان يكفي أن ينطلق أحدهم بعبارة “أنا أتهم” – (عنوان مقالة كتبها إميل زولا حول قضية دريفوس 1898م) فيصبح على البقية النزول من الحافلة عند أول محطة دون دفع الأجرة تهرباً من كلفة السير في طريق المواجهة، أما الآن فتعبير مثقف لم يعد حكراً على من يملكون حق التعبير، ففي عالم اليوم الكلمة حق الجميع، وبذا فوجود طبقة المثقفين محكومٌ عليها بالزوال إذ استمسك المجتمع بتعريفه الكلاسيكي لجماعة هم من أصحاب الإبانة والجاذبية، وفوق ذلك مُكَرهون على الامتثال لحق المجتمع عليهم يمَثُلون أمام محكمة السلطة المنعقدة دون رفع.

وكذلك ينبغي إعادة النظر في هذه الثنائية التي لطالما كلفتنا الكثير، إذ هي وباختصار تريد تحويل كل رصيد الجماهير من الوعي إلى بنك المتحدث بالكتب وأقوال الحكماء وتجارب الفلاسفة، وهذا يفسر لنا غياب طبقة من المثقفين مجتمعة على معنى واحد من فهم العالم والمجتمع، لأنهم لا يستطيعون حقاً إقامة أي نوع من الوحدة بينهم، طالما أن صلاحية وجودهم مرهونة لمسلك غير واعي ويفتقد للمراقبة والرصد، فالمجتمعات لا يُحركها وعي ثابت بسبب غلبة نوع رديء من النقد، هو النقد المماثل للهروب، إذ تتخلص من عبئها الذي تئن من شدة تجذره في حياتها اليومية عبر الصراخ بأن كل شيء لم يعد قابلاً للتغيير، وأن السبب في ذلك من يطلق عليهم مجازاً (الصفوة).

أما المواجهة مع السلطة تعني أيضاً نقل المعركة؛ معركة الوعي ضد الظلم من اعتبارها حق جماهيري أصيل إلى معركة محفوظة التفاصيل (عارض- واجه- أُسجن… إلخ) وبقية تفاصيل الدراما التاريخية، الحقيقة الآن باتت معركة الوعي لا تتصل بالضرورة بهذه الشاكلة من الصراع، ففي ظل هيمنة (الميديا) بات من المستحسن أو على الأقل لرفع الحرج أن تتولي الجماهير عبر صوتها النقي التعبير عن نفسها، بل عليها التخلص من جمودها وركونها المتقن في رفع المسئولية عن نفسها، وبيعها دون عقود لوكلاء يمارسون دورهم في التغيير بما يفتقرون إليه من معرفة صادقة بطبيعة التحولات الاجتماعية، وقد لا يدرك الكثير منا أن العالم قد تغيّر من كونه صراعٌ على السلطة بين طرفين، إلى معركة إثبات الحق في صلاحية الأفكار والطروحات المستخدمة في المواجهة.

لا يسع عالم اليوم أن يظل رهين القدرات الفردية أياً كانت فرادتها ليتم تشغيلها في مواجهة معائب السلطة وشهوة السياسيين، نحن اليوم أمام وجود مستقل للإنسان العابر للوكالة، إنسان بات يملك القدرة على تحقيق ذاته عبر ممارسة العنف الرمزين وتجفيف سطوة الممسك بمقاليد الثروة والأرض عبر فضحه بالنقد وبالتفاهة أحياناً، أما حكاية المواجهة ويالها من عبارة مُفتِنة وجنسية إلى حدٍ ما، فإن فكرة المواجهة الراهنة ما هي إلا بقايا صراع الفرسان على الفوز بقلب الأميرة، أو إرضاء شهوة الموت عند المقاتلين، وبات لزاماً في اعتقادنا طي صفحة مفاهيم السجن والاعتقال والمجابهة بين المثقف والسلطة، وتبييض صفحات أخرى يكون فيها للوعي الفردي القادر على المجابهة لا المواجهة أن يستلم زمام التعبير الجماهير التي تهرب من تعبات التعبير عن نفسها، ووجب عند ذلك نقض العهد مع الوعي المسنود إلى طبقة بعينها في المجتمع، طالما المعركة معركتها، والحياة حياتها، فالأولى أن تعمل على الحد من هيمنة السلطة عليها هذا من جانب، ومن الجانب الآخر تتخلص من وهم وجود طبقة ممتازة هي المسئولة عن لقاء السلطة في مكان قريب، ودفع تكاليف المعركة.

إن الواجب في نظرنا هو إعادة بناء قاموس الطبقة في الدراسات الاجتماعية، لم يعد ممكناً الركون إلى تقسيمات على شاكلة (صفوة- نخبة) إلى فهم جديد يُعَرّف المجتمع بأنه قوة فوق أي معنى آخر، وهذا يفيد بأن نشرع في محاولة بناء علم اجتماعي جديد نوظف فيه آخر ما جرى من نتائج التحولات في الوعي، وهذا سيتيح لنا التخلص من مُخلفات ظلت تهيمن علينا وتُقيم وجودها على تغييب طاقات نافذة في المجتمع وتحرك ساكنه، وتدفع بالمَهمة كلها إلى أقلية أثبتت وقائع التاريخ عجزها ونسبية قوتها بل واستئسادها على البقية بوهم الامتياز والناطقية، وكل ذلك بدون الذهنية النقدية لا نجد سبيلاً له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى