الانطباع النفسي في نقد الشعر (4 – 5)

ثناء حاج صالح/ ألمانيا

وصلنا الآن إلى الحديث عن الانطباع السلبي القوي وتأثيره في تذوق النص الشعري ونقده، و كنا قد تكلمنا آنفا عن نظيره المعاكس له في القوة وهو الانطباع الإيجابي. ويتميز أحدهما عن الآخر بأن الإيجابي منهما يوافق الميول الأخلاقية والأيديولوجية (العقدية ) عند المتلقي، في حين يخالفها الانطباع السلبي. وهذا التمييز بينهما يدفعنا للمقارنة بين النصين المسببين لهما من حيث المحتوى الأيديولوجي، وهو ما لم نأتِ على ذكره في الحديث عن تشكيل الانطباعين الإيجابي القوي و العادي ( النمطي ) عندما انصب حديثنا بشكل خاص عن المثيرات الجمالية في النص .
لكننا في حال الانطباع السلبي سنشدد على دور المحتوى الأيديولوجي للنص انطلاقا من مفهوم (العامل المحدد) الذي يستخدم في العلوم الحيوية ، والذي يعني تحكُّم العنصر المفقود في مجرى العملية الحيوية بحيث يرتبط حدوثها بتوفره فقط، إذا كانت بقية العناصر متوفرة بمستوياتها المطلوبة. وقد لا يكون هذا العنصر مفقودا تماما ، لكن حتى توفره بشدة أقل مما هو مطلوب كذلك يجعله عاملا محددا ويسمى عندها ( منبها غير عتبوي ) أي أن شدته أقل من العتبة الدنيا المطلوبة ليتحول إلى منبه فعّال مؤثر.

فقياسا إلى ذلك نرى شرط التوافق الأيديولوجي بين المتلقي ومعطيات النص مهمل التأثير عند توفره في حالتي الانطباعين الإيجابي القوي والعادي . بينما يصبح عاملا محددا في حال افتقاده ويتحكم هو وحده بتشكيل الانطباع السلبي القوي .
وكلا النمطين من الانطباع القوي الإيجابي والسلبي يختلفان عن الانطباع النمطي العادي في امتلاكهما بذور التحريض التي تنتقل من النص إلى المتلقي، وغالبا ما تحرضه على الكتابة الإبداعية إثر القراءة إن كان يتعاطاها بوصفه ناقدا ً أو شاعراً. فالانطباع الإيجابي يحرض على الكتابة بسبب شحن شعور القارئ المتذوق بطاقة انفعالية إيجابية تلاحظ من خلال ارتفاع مستوى التمثل الجمالي والعاطفي أعلى من المعتاد .ويتجلى ذلك بتيقظ الوعي وتفتحه وزيادة حدة التركيز الذهني في استشفاف جماليات الصورة الفنية واستيعاب المعاني العاطفية أو النفسية المرتبطة بها . وفي هذه اللحظات يشعر المتلقي تماما بارتفاع مستوى التوتر العاطفي الذي أثاره النص حسب موضوع النص ..ولن نغالي في وصفنا له كشخص مشحون بعاطفة إيجابية. وهكذا فإن مشاعر المتلقي المثارة إيجابياً تشهد زيادة واضحة في درجة تمثل الشعور المثار نفسيا. فنرى المتلقي مثلاً بعد قراءته قصيدة في (الفخر بالشجاعة) أكثر إقداماً وأعظم شجاعة وأكثر اعتزازا بكرامته وبالمكارم التي حرضه النص على الفخر بها مما كان عليه قبل القراءة، في حين سنجده بعد قراءته قصيدة الحزن على فراق الحبيب أكثر رقة وشفقة مع الكائنات وأكثر تهذيبا وتفهما لمشاعر الحرمان وأكثر ميلا للتأمل في ضعف الإنسان ومعاناته وعذاباته وما إلى ذلك من معاني التوجع .

وعلى العكس من الانطباع الإيجابي فإن الانطباع السلبي يشحن شعور المتلقي بطاقة سلبية عالية تتجلى بالمشاعر السلبية كالشعور بالغيظ والغضب والظلم والإهانة ، وإن هذه المشاعر لا يمكن تحريكها إلا بتصادم أيديولوجية صاحب النص مع أيديولوجية المتلقي ، وعبر الوضوح الفكري البحت المجرد عن الأسلوب الفني للنص .

 فهكذا يثار الوعي عند المتلقي إثارة عاطفية قيمية (عقدية ) تضع الصور الشعرية الفنية التي يتضمنها النص جانبا ، وتتعامل معه على أساس أيديولوجي بحت ويتحفز المتلقي ذهنيا لإعادة قراءة النص قراءة معادية تعيد اكتشافه من جديد في ضوء مثيراته السلبية التي هي أفكار عقدية فاسدة عند صاحب النص – كما يراها المتلقي – والتي أثارت الشعور بالإهانة والظلم والغيظ وولدت الرغبة بالانتقام والرد عند المتلقي .

فشعور المتلقي في حالة الانطباع السلبي القوي يكون معزولاً ومعطلاً عن التأثر بجماليات النص التي يمكن أن يتأثر بها أي متلق آخر ذي أيديولوجية موافقة لصاحب النص .
وما ذكرناه عن عدم تأثر المتلقي بجماليات التعبير في النص الشعري لعدم توافقه مع أيديولوجيته في تشكيل الانطباع السلبي يضعنا وجها لوجه أمام جدلية العلاقة بين القيمتين الجمالية والأخلاقية وكيف يمكن تحقيق الموضوعية في تشكيل انطباع نفسي متوازن عند القارئ  ينصف من خلاله  النص، من حيث استيفاؤه للمعايير النقدية الأخرى (اللغوية والفنية والجمالية )، دون أن يخضع لتأثير انطباعه النفسي السلبي خضوعاً كاملاً .

 وبتعبير آخر: كيف يمكن للقارئ أن يفصل بين شعوره الجارف ضد الأطروحة الفكرية والأخلاقية للنص والتي أثارت غضبه  أو أشعرته بالإهانة، وبين مميزات النص الجمالية والإبداعية اللافتة والتي تستحق الإشادة بها وتقديرها ؟

 القارئ العادي الذي لا يتعامل مع النص عند قراءته بوصفه ناقداً يؤدي مهمة احترافية موضوعية، لن يستطيع على الأغلب أن يتخذ موقفاً متوازناً أو محايداً ، فهو غير معني بمحاكمة النص محاكمة أسلوبية بحتة (وفقاً لمنهج الأسلوبية في النقد )، وهو ليس مضطراً لأن يتقبل النص كموضوع عمل ، لذا فلن يطالب نفسه بتقييم معايير النص كلاً على حدة، بل سيتعامل مع النص بوصفه كلاً متكاملاً،ولن يستطيع تجاوز شعوره السلبي تجاه النص.

وحتى القارئ الناقد المحترف الذي يطالب نفسه بالالتزام بتحليل الأسلوب الأدبي والاعتناء بالمعايير الفنية، فمع غض النظر عن القيم الأخلاقية والفكرية في النص، فإن التحليل الأسلوبي سيدفعه أيضاً لأن يأخذ بعين الاعتبار مضمون الرسالة المعنوية التي يقدمها المرسل (صاحب النص ) إلى المرسل إليه ( المتلقي )، فكيف يمكنه الفصل عند قراءة هذه الرسالة، ما بين القيمتين الجمالية والأخلاقية ؟

 وهل هذا أمر ممكن فعلاً عند من يرى أن تعريف الجمال  مرتبط بالأخلاق ومستند إليها ؟

ومثل هذا السؤال سيصبح أكثر إلحاحا، ونحن نستعرض تلك المناهج النقدية التي لا تفصل بين النص وصاحبه، عند تحليل الرموز والدلالات التي يقدمها النص ، كالمنهج النفسي والمنهج السيميائي .

فعلى سبيل المثال : يتعامل المنهج النفسي مع النص بما يتضمنه من الرموز اللغوية (المثيرات الجمالية ) كما يتعامل الطبيب جراح العظام مع الصورة الشعاعية التي يعتمدها مرجعا لتشخيص مكان الإصابة وبالتالي فهو لا يحلل النص إلا بوصفه تحليلا نفسيا لصاحبه . وليس الأمر بعيداً عن هذا الاعتبار في المنهج السيميائي الذي يعمد إلى تحليل رموز النص ودلالاتها ليعيد ربطها بالواقع مرة أخرى.

وهكذا فإن النظر إلى القيمة الجمالية باعتبارها قيمة مجردة ومستقلة بذاتها في النص يبدو غير متاح في الواقع، وفي هذه المناهج النقدية.

 وبناءً على ذلك : لا يمكن للناقد أن يتحرر من انطباعه النفسي السلبي الذي ستيشكل ضد النص عند صدمته النفسية به، لا وهو يقرأ النص  المثير للجدل أخلاقياً وفكرياً ، ولا وهو يمارس تحليله النقدي له؟
لقد ذكرنا آنفا أن الخبرات الانفعالية الجمالية السابقة التي يختزنها اللاوعي ذات طبيعة مزدوجة (شعورية فكرية في آن واحد)  وذكرنا أن الانطباع الإيجابي القوي يثير المشاعر دون الأفكار. وسنقول الآن إن الانطباع السلبي – وما زلنا نتحدث عنه –هو الذي يثير تلك الأفكار المرتبطة بالخبرات الانفعالية السابقة.

ومثال ذلك: الانطباع السلبي القوي الذي يمكن أن يشكله في نفوسنا نص شعري يتضمن استخفافا بالقيم الفكرية والأخلاقية أو الرموز الدينية التي نعتقد بها (مثل قصيدة تروِّج للتطبيع مع العدو الإسرائيلي ). فهذا النص الذي يصطدم بدلالته المعنوية مع الميول الأخلاقية والفكرية العامة  لثقافتنا العربية والإسلامية سيهدد حاجاتنا الملحة لإرساء وتأييد ما لدينا من عقائد وسيشكل لدينا انطباعا سلبيا قويا يحفزنا على الوقوف ضده منذ اللحظات الأولى للاستثارة الحاصلة بتأثيره. وسنكون قد تَحيزنا نفسيا ضده ومنذ البدء، إلى درجة أننا نرغب برفضه رفضاً كاملاً ، ودون النظرفي ما يتصف به من مميزات فنية أسلوبية أو لغوية أو جمالية بالمنظور النظري المجرد عن القيمة الأخلاقية والفكرية .

فانطباعنا السلبي سيتحول إلى شعور واضح بالغيظ والغضب وشعور خفي بالقلق .وكل ذلك سيحملنا على محاربة النص ما أوتينا إلى ذلك من سبيل. ومقصدنا أن نؤكد أنه لا موضوعية مع الانطباع السلبي.

النصوص التي تحرِض قارئها تحريضاً نفسياً سلبياً ضد أطروحاتها الفكرية والأخلاقية ، تمسُّ هذا القارئ مسَّا شخصياً، على الرغم من أن الشاعر لا يعرف كل قرائه فرداً فرداً. وذلك لأن تعمُّد خدش القيمة الأخلاقية والدينية العامة المسلَّم بها من قبل الشاعر يطال كل معتنق لهذه القيمة وكل مؤمن بها. فالشعور بالإهانة يصبح حقيقياً وعلى المستوى الفردي والشخصي لكل قارئ للنص، على الرغم من أن الشاعر يعتبر نفسه غير مسيء ، كونه لم يفعل شيئاً سوى ممارسة حقه في التعبيرعن رأيه.

 

ومع ذلك فثمة من يحظر على القارئ أو الناقد أن يحاكم النص محاكمة أخلاقية أو فكرية، كي يضمن للشاعر حقه في ممارسة حرية التعبير عن رأيه.غير أن هذا المطلب يبدو غير ممكن التحقيق في الواقع وعند قراءة النص وتشكيل الانطباع النفسي السلبي تجاهه، إذ لا ينبغي تجاهل التأثير النفسي السلبي للنص، مادام النص نفسه يهدف إلى تحقيق هذا التأثير السلبي.

والادعاء بإمكانية تحقيق ذلك المطلب أو التزام الموضوعية عند قراءة النص يلغي بكل بساطة مسؤولية صاحب النص عن التأثير السلبي القوي لنصه على الرغم من أنه يتعمد ذلك إحداث ذلك التأثير، ويحمِّل المتلقي في الوقت نفسه مسؤولية التأثر بالنص، على الرغم من أنه لا يتعمد التأثر، وإنما يستجيب له فطريا وآليا.

 والأمر هكذا يشبه أن تعطي لشخصٍ ما حرية أن يصفع غيره في سبيل التعبير عن رأيه، ثم تمنع من تلقى الصفعة من حق التوجع  بدعوى ضرورة تقبل الرأي الآخر، وضرورة غضّ النظر عن الصفعة في سبيل الاهتمام بخصائص  الصفعة وصفاتها ومميزاتها، وحسن أدائها. والحق أن ألم الصفعة النفسي يؤثر تأثيراً طاغياً بحيث أنه يستحيل على من تلقاها أن يتجه بتفكيره إلى تحديد صفاتها ومميزاتها الأخرى.

وهذا ما يفعله بالضبط الانطباع النفسي السلبي القوي الذي يتشكل عند القارئ في إثر الصدمة النفسية التي تحدثها قراءة نص معين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى