رحلتي من الموت إلى الحياة

محمود محمد زيتون |،مصر

في سنوات طفولتي، كانت فكرة الموت تهيمن على فكري ونفسي وتلاحقني مشاهد الموت بكرة وعشيٱ.!
كنت أشعر أن عمري قصير، وأن الموت يسد أمام ناظري أفق الحياة.!
كان الموت حديث نهاري، ورؤيا ليلي، وهواجس نفسي آناء الليل وأطراف النهار.!
فإذا أرخى الليل سدوله، والتقى كل خليل خليله، وتبادل الندمان والسمار أحاديث الجوى، كان الموت يسري بي إلى عالم أكثر سكينة، وأعظم طهرٱ، هو عالم الموتى؛ لأكون معهم في أول منازل الآخرة من حياتهم البرزخية.!
كنت أتفقدهم بملامحهم النورانية واحدٱ تلو الآخر وأعرفهم بصورهم التي سجلها عقلي الباطن لهم في حياتهم الدنيا.
كان استقبالهم لي حافلٱ، كأني ملك عاد من رحلة، فاصطف محبوه مهنئين بعودته، فرحين بأوبته  مهللين بصحبته.

وأنا أرفل في حلتي البيضاء القشيبة مستبشرٱ بحياتي الجديدة معهم بعد استخراج شهادة ميلاد جديدة لي في عالم الأموات.!
كانت أصوات تراتيلهم تملأ الآفاق ،فتؤنس وحشتي،وتذهب روعتي، وهي تتلو آيات ربي :
«تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوٱ في الأرض ولا فسادٱ ، والعاقبة للمتقين»
وعندما تبدأ تباشير الصباح، تعود إلي روحي فأسترد حياتي وألقي برأسي على صدر أمي-رحمها الله- وأقصص عليها رؤياي في رحلتي من الموت إلى الحياة فتمسح على رأسي وتقول وهي تغالب دمعها:
«لا تبتئس حبيبي إن روحك الطيبة تسمو بك إلى عالم الأرواح حيث لا موت ولا فناء».!
وتتعدد رحلاتي إلى عالم الموتى..إنه عالم ينبض بالسمو والكمال..فلا حقد ولا بغضاء..ولا غل ولاشحناء ، وإنما إخاء ومساواة.!
ومن العجيب أن كثيرٱ من المشاهد كانت تختفي وتمحى من ذاكرتي عندما أحاول استرجاعها.. مشاهد أقراني وأترابي الموتى لا تلتقطها عدسات ذاكرتي ولا تسجل صورهم وملامحهم..فلم أر بشرٱ لهم أجساد ، ولا أجسادٱ تصور بشرٱ على النحو الذي نعرفه.
بل كنت أرى هالات من نور تسبح في فضاء سرمدي تعرفت عليها روحي لأناس عشت معهم ردحٱ من الزمن ثم رحلوا وبقيت صورهم في عقلي ووجداني.. هالات من قبس الرحمن تسكن أجسادٱ شفافة تروح وتغدو في عالمها اللاكوني حيث لا موت ولا فناء.!
رأيت هذه الهالات أو الأرواح النورانية بعضها تقف على أفنية قبورها. وبعضها تتنعم في فراديس كالتي وعد الله بها عباده المتقين..وأخرى تحوم حول أبواب مؤصدة لحدائق غناء لا تفتح لها.!
وظلت هذه الرؤى ملء سمعي وبصري ووجداني.. وكلما غيب الموت حبيبٱ، ووارى الثرى صديقٱ، عادت إلي بمشاهدها وجلالها، فهدأت من روعي وخففت من حزني على من رحل وغادر حتى يأتيني اليقين.. ولعله يكون قريبٱ.!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى