العالَم بين العمى والجنون من هربرت ويلز إلى توفيق الحكيم

أ. د. يوسف حطيني | أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


الأدب تجربة إنسانية مشتركة، يأخذ بعضه عن بعض، وليس ثمة نص يولد من فراغ؛ ولا نريد هنا أن نذهب بعيداً في التمييز بين التأثّر بالأدب والسرقة الأدبية؛ فقد أشبع ذلك دراسة وتمحيصاً، ومهاترة في بعض الأحيان. غير أننا سنشير بداية على أنّنا نؤمن بأنّ التأثر بالآخر دليل إيجابي على حيوية الأدب والثقافة. وقد أخذنا عن غيرنا، وأخذ غيرنا عنّا، وما في ذلك ضير ولا حيف.
وبسبب شدة التداخل بين الآداب والثقافات صرنا نجد مرجعيات تناصية فرعية، وأحياناً جوهرية، متداخلة في نص واحد، كما صرنا نلتقط خيطاً مرجعياً، ونضيع خيوطاً أخرى. وما ذلك إلا لأنّ الثقافة الإنسانية أوسع من أن يحاط بها، ولأنّ الإنسان المثقف يقرأ وتصبح قراءته جزءاً من مرجعيته الفكرية التي ينسى مصادرها في بعض الأحيان.
أقول هذا الكلام وأنا بصدد إجراء مقارنة موضوعية وفنية بين قصة “أرض العميان” لهربرت ويلز ومسرحية نهر الجنون لتوفيق الحكيم؛ حيث نجد أنفسنا أمام كثير من التقاطعات التي تذكّرنا برؤية نيتشه للجنون الجماعي؛ وبرؤية المتنبي للعقل؛ إذ قال قبل أكثر من ألف عام:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

ورأخو  الجهالة  بالشقاوة  ينعمُ
تحكي قصة “أرض العميان” لهربرت ويلز عن شاب متسلّق يسقط في وادي العميان، بينما كان يتسّلق جبال الأنديز، وإذ يكتشف عمى أهل الوادي جميعاً يتوقع بأنه سيكون ملكاً عليهم بسبب ميزة البصر التي يتمتّع بها، غير أنه يخفق ويكتشف فلسفتهم ودقة تنظيمهم؛ بينما يجدونه غير مكتمل النمو؛ لأنّ له في وجهه فتحتين لا داعي لهما. وحين يعشق الشاب فتاة منهم يكون عليه أن يرضى باقتلاع عينيه، حتى يكون جديراً بالرجولة والحبيبة معاً، ويوافق على إجراء العملية الجراحية “البسيطة” التي “ستشفيه”، لكنه في اللحظة الأخيرة يتسلّق هارباً؛ لأنّ نعمة البصر التي يرى بوساطتها السماء والعصافير أغلى من أن يضحي بها.
وتحكي مسرحية “نهر الجنون” حكاية مشابهة عن مملكة يشرب جميع سكانها من نهر الجنون باستثناء الملك والوزير، فيصبحان بذلك العاقلين الوحيدين في مملكة المجانين. وإذ تتحدث الملكة التي شربت من النهر مع الملك، تشفق عليه بسبب “جنونه”، وتبشره بأن علاجه الذي اكتشفه الأطباء هو أن يشرب من ماء النهر. وإذ يعود الوزير إلى القصر يخبر الملك أن جميع الناس يظنون أنفسهم عقلاء، ويظنون أن الملك ووزيره هما المجنونان الوحيدان؛ فيقرران الشرب من ماء النهر حفاظاً على انتمائهما إلى المجموع.
ولا نريد أن نعطي حكماً متسرّعاً حول تأثر الحكيم بقصة ويلز التي نشرها أول مرة عام 1904، على الرغم من وجود تشابهات كثيرة، لا تتعلق بالخط الحكائي فقط؛ لأنّ بعض مرجعيات مسرحية الحكيم أسطوري وموغل في القدم إلى درجة تجعلها مرجعيات لويلز نفسه.
°°°
على صعيد فلسفة العملين الإبداعيين ورؤيتهما، تمكن إعادتهما معاً إلى منبع الاغتراب الذي كان الكاتبان يشعران به في مجتمعهما؛ فقد صوّر ويلز اغتراب المبصر في مجتمع العميان، بينما صور الحكيم اغتراب العاقل في مجتمع المجانين. وغنيّ عن القول أن فكرة الاغتراب محرك أساسي من محركات الإبداع لدى أي مبدع حقيقي، حتى وإن بدا محاطاً بالبشر؛ ذلك أن العزلة الحقيقية هي تلك التي يشعر بها الفرد حين يكون محاطاً بالآخرين، وليس من الشرط أن ينظّر المبدع فلسفياً حتى نتبين اغترابه عمّن حوله. ولو عدنا إلى حياة الرجلين وإنتاجهما الأدبي للاحظنا ما يؤكد اغترابهما.
فلقد اهتم روبرت ويلز بالخيال العلمي الذي أراه في أساسه اغتراباً عن واقع متخلّف، وثورة ضدّه؛ من أجل نقله إلى واقع سحري لا يطاله العقل المجتمعي القاصر في ظرفه الآني؛ لذلك كتب ويلز روايات من مثل “آلة الزمن” وجزيرة الدكتور مورو” و “الرجل الخفي”، وغيرها.
أمّا قصته القصيرة “أرض العميان”، التي تمّت إعادة صياغتها لاحقاً؛ لتصبح قصة طويلة؛ فقد هرب فيها الكاتب من الواقع إلى الأسطورة، ليقدّم رؤيته للاغتراب، وهذا أمر يشترك به مع الحكيم الذي صاغ مسرحيته نهر الجنون اعتماداً على أسطورة، أو أساطير مختلفة، ولا سيّما أنه اطّلع اطّلاعاً جيّداً على المسرح الروماني واليوناني ومرجعياتهما الأسطورية في أثناء دراسته في باريس.
كما اشترك كلٌّ من الرجلين في موقفهما من التجمعات والأحزاب، لأنّ كلاً منهما كان يمتلك نظرية في ذهنه، لا يجد مقاربة معقولة لها على أرض الواقع، فلم يجد ويلز في الجمعية الفابية ضالته المنشودة، ولا ما يعبّر عن طموحاته؛ إذ إنه سرعان ما تركها بعد اختلافه مع قادتها (ومنهم برنارد شو)، أمّا الحكيم فإن انصرافه عن الأحزاب، على الرغم من ميوله الوطنية الليبرالية، يجسد اغتراباً نيتشوياً، وهرباً من واقع يرفض ثقافة القطيع، إذ رأى نيتشة أنّه “من النادر أن يصاب الأفراد بالجنون، ولكن ليس من النادر أن تصاب به الجماعات والأحزاب والعصور”، وعليه فقد اختار توفيق الحكيم ألا ينتسب إلى أي حزب، مغترباً عن الجنون الجماعي الذي جسّده واقعاً درامياً في مسرحية “نهر الجنون”.
كما أنّ انصراف الحكيم إلى المسرح الذهني بشكل عام يشير إلى إيمانه بأن أفكاره لن تصل إلى المتلقي بوساطة تلقٍ سريع عبر خشبة المسرح، بل تحتاج إلى قراءة وتمحيص، وهذا بحدّ ذاته يشير إلى اغتراب فكري عن مجتمع لا يفهم مبدعيه.
ولا بدّ من الإشارة أن فكرة الاغتراب التي جسّدها العملان الإبداعيان عبر المبصر في مجتمع العميان، والعاقلَيْن في مجتمع المجانين، لها نظائر كثيرة في الأدب والفن؛ ولعلّنا نشير هنا إلى رواية “صورة دوريان غراي” لأوسكار وايلد التي جسّدت اغتراب البطل زمنياً عن مجتمعه؛ إذ كبُر جميع أصدقائه وبقي شاباً، ثمّ اغترابه عن ذاته، وصولاً إلى الانتحار، عبر طعن صورته المشوهة التي حملت عنه كلّ جرائمه.
°°°
من حيث الشكل الفني اتّخذتْ كلٌّ واحدة من الحكايتين المتشابهتين شكلاً أدبيّاً مختلفاً؛ فقد اختار ويلز لحكايته قالب القصة الطويلة، بينما اختار الحكيم قالب المسرحية القصيرة. وقد ترتّب على ذلك مجموعة من التباينات البنائية، أظهرُها للقارئ اعتمادُ السرد لدى ويلز مقابل اعتماد الحوار لدى الحكيم، إضافة إلى أنّ شَغلَ مساحة أكبر للفضاء الطباعي عند ويلز سمح له بتفصيلات سردية لم تتح للحكيم الذي كان محتفياً بالمقولة الذهنية أكثر من احتفائه بالتمهيد للحبكة أو نمو الحكاية أو قيادتها بسلاسة نحو نهايتها.
لقد بدأ ويلز قصته بتحديد مكاني لأرض العميان، حيث يقع ذلك الوادي الجبلي الغامض المنعزل عن البشر “في أشدّ جبال الأنديز الإكوادورية وعورة”، ص143، ومن ثمّ قرّب الصورة نحو الوادي نفسه، فبدا أشبه بالفردوس: “ولم تنمُ بأرض الوادي أية أشجار أو عُلّيق، كما لا توجد حشرات ضارة، ولا حيوانات متوحشة، ما عدا تلك الحيوانات الوديعة الرقيقة (اللاما)، والتي قاموا بتربيتها واستئناسها”، ص ص146ـ147؛ لذلك “كان “نونيز” يستمتع بكل الأشياء الجميلة، فبدا له أن التألق الذي يعلو حقول الثلج والأنهار الجليدية الممتدة إلى أعلى من كل جانب حول الوادي لهو أروع ما شاهده في حياته”، ص ص162ـ163.
وفي المقابل فإننا لا نجد أي تحديد إطاري في مسرحية “نهر الجنون”؛ إذ ليس ثمة إشارة زمانية ولا مكانية. وهذا ما يؤشر إلى الرغبة في تعميم الرؤية؛ فالجنون في نظر الحكيم ليس مقتصراً على زمن معين ولا على مكان معين، وهو أيضاً لا يؤشر فقط إلى العصاب الذهني المعروف الذي لا يسيطر المصاب به على عقله وسلوكياته، بل يؤشر إلى كثير من العقلاء الذين تتحكم بهم غريزة القطيع.
ويشار هنا إلى أنّ مجتمع العميان عند ويلز بدا أكثر تماسكاً فكرياً وفلسفياً من مجتمع المجانين عند الحكيم؛ إذ يبدون عند الحكيم مجرد مجانين؛ أما عميان ويلز فيعيشون في مجتمع ذي تنظيم ودقة، ويعتقدون أن نهاية الكون عند الصخور التي ترعى فيها حيوانات اللاما، وأن سقف الكون سماء ملساء تسقف واديهم، ويقسمون اليوم إلى دافئ (النهار) وبارد (الليل) ويعملون في الليل ويرتاحون في النهار، وينظمون أعمالهم كافة؛ بالإضافة إلى امتلاكهم نظرية خاصة في نشوء “الكون”:
[°]”وشرح له شيخهم الكبير أسرار الفلسفة وأصول الدين، فبيّن له كيف كان هذا العالم (وكان يقصد واديهم) في عصور موغلة في القدم مجرّد تجويف فراغ في الصخور، ثم نشأت الجمادات التي ليست لها موهبة اللمس، وبعدها جاءت حيوانات اللاما وبعض الكائنات الأخرى التي تتمتع ببعض الحس، ثم ظهر الناس، وأخيراً الملائكة الذين تُسمع أناشيدهم وأصوات زقزقاتهم. لكن لا يمكن لأحد أن يلمسهم على الإطلاق”، ص161
°°°
على مستوى تقديم الحكاية يتأنى ويلز في صناعة حبكته، قبل أن يضعنا في “أرض العميان”، بينما يضعنا الحكيم في “أرض الجنون” من اللحظة الأولى، وهذا هو الفرق الأساسي في الحبكة؛ فالأول يصنع أزمته، والثاني يضعك أمامها. وقد لجأ ويلز إلى تمهيدين حكائيين شمل أولهما حديثه عن تاريخ أرض العميان؛ إذ ثمة عائلات من بيرو فرّت إلى ذلك الوادي من بطش ملك إسباني، ثم حدث بركان وتغيرات جيولوجية عزلت أرضهم إلى الأبد، ثم انتشر بينهم مرض خطير يؤدي إلى ضعف البصر، ثم إلى فقدانه. ولم تستطع دعوات رجال الدين أن تهزمه، فعمّ بلاء العمى، ولم يَترك للجيل الأول سوى ذكريات بصرية. وأما جيل العميان الخامس عشر الذي تبدأ معه الحكاية فقد ألف العمى حتى ظنّه القاعدة، لا الاستثناء، ووجد أساليب عيش جديدة، ووضع طقوساً وتعاليم أخلاقية وعبادات وعقائد، تتناسب مع حالة انعدام البصر، حيث سقف السماء في أعلى الوادي، والعصافير هي الملائكة التي لا تطال.
أمّا التمهيد الثاني فقد تعلّق بـ “نونيز” الذي كان واحداً من فريق متسلّقين، اختفى من بينهم ساقطاً على عمق بعيد، مرتطماً بمنحدر من الجليد، منجرفاً وسط انهيار ثلجي. وحين حاول أصدقاؤه استطلاع المكان الذي سقط منه لم يجدوا سوى ضبابٍ ورؤوسِ أشجار وعمقٍ لا يطاله النظر. أمّا الشاب الذي سقط على عمق أكثر من ألف قدم؛ فقد حمته الوسادة الثلجية التي سقط عليها من الموت؛ ليجد نفسه بعد قليل من التجول قريباً من أرض العميان.
أما حكاية الوصول إلى أرض الجنون أو مملكة الجنون عند توفيق الحكيم فغير واضحة، وكأن تلك الأرض موجودة في كل مكان، لا يحدّها حدّ، والوصول إليها ليس معقّداً، كما في حالة ويلز؛ إذ يكفي أن تلتفت حولك، أو تعيش تفاصيل حياتك، لتكتشف أنواعاً مختلفة من الجنون الذي يمارسه الجميع على غير صعيد.
ينفتح السياق الابتدائي لدى الحكيم على الأزمة مباشرة، من خلال حوار بين الملك ووزيره:
“الملك: ما تقصُّ عليّ مريع.
الوزير: قضاء وقع يا مولاي.
الملك: (في دهش وذهول) الملكة أيضاً؟
الوزير: (مطرقاً) واحزناه!
الملك: هي أيضاً شربت من ماء النهر؟
الوزير: كما شرب أهل المملكة أجمعين”. ص1.
هنا يحرّض الحكيم القارئ على التفكير، وعلى ملء فراغات الحكاية، ولا يترك له ما يضيء تاريخها، فليس ثمة استذكارات تملأ الفراغ، باستثناء استذكار واحد؛ إذ يتحدّث الملك مع وزيره حول كابوس كان قد رآه قبل أيام:
“الوزير: ألم يرَ مولاي في تلك الرؤية الهائلة ما يُنبئ بالخلاص؟
الملك: (يحاول أن يتذكّر) لستُ أذكر.
الوزير: تذكّر يا مولاي.
الملك: (يحاول التذكّر) لستُ أذكر أكثر مما قصصت عليك.. رأيت النهر أول الأمر في لون الفجر، ثم أبصرتُ أفاعيَ سوداء قد هبطت فجاة من السماء، وفي أنيابها سمٌ تسكبه في النهر، فإذا هو في لون الليل. وهتف بي من يقول: حذار أن تشرب من ماء النهر”، ص1.
إذاً، هكذا يجد قارئ العملين السابقين نفسَهُ، وبطريقتين مختلفتين تماماً، أمام أزمة الشخصيات الرئيسية؛ فالقصة تتكشف تدريجياً عن أزمة “نونيز” حين قرّر، على دفعتين، أنه قد وصل فعلاً إلى أرض العميان:
[°]حين اقترب من المنازل وجدها مطلية بخليط من الجص والرمل والماء رمادياً أو بنياً فاتحاً أو داكناً: “لا بدّ أن الرجل الطيب الذي قام بطلاء المنزل كان أعمى كالخفاش”، ص153.
[°]”وأخيراً بعد الكثير من الصيحات والغضب الشديد عبر نونيز النهر على جسر صغير ونفذ من بوابة في الجدار ودنا منهم. عندئذ تأكد أنهم فاقدو البصر، وأيقن أنّ هذه هي أرض العميان التي تناقلتها الأساطير”، ص154.
وفي مقابل حدثين حكائيين رئيسيين وأحداث ثانوية مختلفة تقود الأحداث نحو ذروتها في “أرض العميان”، يستعيض توفيق الحكيم عن ذلك كله باللغة الإخبارية المباشرة التي تجري على لساني الملك ووزيره، وهناك سياقات إخبارية تجسّد الأزمة، منها قول الملك:
[°]”أجل. إنها لكارثة شاملة، ليس لها من نظير لا في التواريخ ولا في الأساطير، مملكة بأسرها قد أصابها الجنون دفعة واحدة، ولم يبق بها ناعم بعقله غير الملك والوزير”، ص2.
[°]ومثلما اتجهت الحبكتان إلى تسليط الضوء على تأزيم الحدث عبر البلاء العام الذي أحاط بالمجتمعين، فقد اتجهتا أيضاً إلى تعليله، وإلى البحث عن علاجه. ويمكن أن نلاحظ بينهما اشتراكاً في غموض أسباب البلاءين، وفي طرق البحث عن علاجهما؛ فكلا البلاءين: العمى والجنون يعودان إلى أسباب غامضة، فثمة مرض غامض سبب ضعف البصر في الجيل الأول من مجتمع القصة، ثم سبّب العمى للأجيال التالية، وثمة رؤية/ كابوس في المسرحية يتحدّث عن الأفاعي التي سمّمت مياه النهر، دون إتاحة إمكانية التساؤل في هذه الأجواء العجائبية عن كيفية وصول السم من الكابوس إلى مياه النهر.
°°°
ومثلما اتفق ويلز والحكيم على غموض الأسباب التي أدت إلى المرض العام؛ فقد اتفقا أيضاً على طريقتي علاجه؛ إذ رأى كل منهما في رجال الدين والأطباء ملاذين، سرعان ما يخفقان في إيجاد العلاج، كما صوّرا بطريقتين مختلفين مظاهر العمى والجنون، وكان كل منهما مخلصاً للخيار الفني الابتدائي الذي ارتضاه لعمله الأدبي؛ فقد صور ويلز مظاهر العمى من خلال مواقف وأحداث حكائية، بينما قدّم الحكيم، باستثناء موقف حكائي واحد، تلك المظاهر عبر الإخبار الذي يميّز لغته في هذه المسرحية.
لقد أشار هربرت ويلز في قصة “أرض العميان” إلى مظاهر العمى عبر مواقف حكائية وأحداث متعددة، ومن بينها أن العميان يصبغون بيوتهم بألوان مختلطة، ويستخدمون الآذان للتعرف على صاحب الصوت بدل أن ينظروا إليه، بينما تبدو أجفانهم مطبقة وغائرة، وهم يمشون متلاصقين عندما يشعرون بخطر ما، ويتعرفون إلى ملامح الشخص من خلال اللمس، وتبدو بعض هذه المظاهر في السياقين التاليين اللذين يدوران حول كيفية تعاملهم مع “نونيز” المبصر:
[°]”ثم أمسكوا به، وأخذوا يتحسسونه”، ص156.
“وجرى إلى ثغرة متسعة بين أجسامهم المتراصة، وما أن أحس الرجلان على جانبي الثغرة باقتراب خطواته حتى اندفع كل منهما في اتجاه الآخر، يريدون إلقاء القبض عليه”، ص170.
[°]وفي المقابل يُبرز الحكيم جنون مجتمع المملكة من خلال الحديث المباشر عن الملكة في حوار بين الملك ووزيره:
“الملك: قل لي كيف علمتَ أنها شربتْ من ماء النهر؟
الزير: سيماؤها، حركاتها.
الملك: أحادثتك؟
الوزير: لم أكد أقبل عليها حتى ازورّت عني في شبه روع، كذلك فعلت وصائفها وجواريها”. ص1.
وفي سمة مشتركة أخرى يتفق الكاتبان في رصد نظرة شخصيات المجتمع الموبوء إلى الشخصيات التي لم تتعرض للابتلاء، فتراها مبتلاةً، بل تشفق عليها في بعض الأحيان. ولعلنا نشير هنا إلى نظرة العميان نحو “نونيز” في السياق التالي:
“قال كوريا مندهشاً: ترى؟
أجاب نونيز: نعم.
قال الرجل الكفيف الثالث: إن حواسه لم تكتمل بعد”، ض157.
وتتطابق نظرة مجتمع العميان نحو “نونيز” مع نظرة مجتمع المجانين نحو الملك ووزيره:
“الملك: ماذا يقولون؟
الوزير: يزعمون أنهم هم العقلاء، وأنّ الملك والوزير هما المصابان”، ص5.
كما أنّ النظرتين تتفقان في الحلّ أيضاً؛ إذ يقرر مجتمع العميان انتزاع عيني “نونيز”، حتى يكون جديراً بالزواج من حبيبته ميدينا ساروتي؛ وهذا ما نلاحظه في الحوار التالي بين الطبيب ووالد ميدينا:
[°]”استطرد الطبيب الكفيف قائلاً: أعتقد أنه يمكن أن أقول بثقة إننا في حاجة إلى إجراء عملية جراحية بسيطة وسهلة؛ لإزالة هذه الأجسام الغريبة. وهكذا يشفى تماماً.
فقال ياكوب: أشكر السّماء على نعمة العلم”، ص171.
[°]وهذا الحل بانتزاع عيني “نونيز” يتطابق مع الحلّ الذي تقترحه الملكة على زوجها الملك، في حوارهما الذي تعلن فيه عن فرحها بإيجاد الدواء، وهو أن يشرب الملك من ماء النهر:
“الملكة: (في فرح): لقد وجدنا الدواء.
الملك: وجدتم الدواء؟ متى؟
الملكة: (في فرح) اليوم.
الملك: (في حرارة) وا فرحتاه..!!
الملكة: نعم، وافرحتاه! إنما ينبغي لك أن تصغي لما أقول، وأن تعمل بما أنصح لك به. يجب عليك أن تقلع من فورك عن شرب النبيذ، وأن تشرب من ماء النهر.
الملك: (ينظر إليها وقد عاد إليه يأسه وحزنه) ماء النهر!”، ص4.
°°°
وعلى الرغم هذه المشترَكات الحكائية فإنّ النهايتين تأتيان متغايرتين، بل إنّ طريقتي صياغتيهما متضادتان تماماً؛ إذ انتقل “نونيز” من الاستسلام إلى التمرّد، بينما انتقل الملك من التمرّد إلى الاستسلام؛ فقد استسلم “نونيز” بعد أن تمّ حصاره مرتين، مرة بقوة العميان، ومرّة بقوة العشق، فخضع في الأولى لسطان الجوع، وفي الثانية لسلطان الحب:
[°]”وسألاه عمّا يوجد فوقنا. قال: يوجد سقف صخري ناعم للغاية يظلل العالم ويبعد نحو مئة قدم. ثم انفجر في البكاء من جديد، وصاح قائلاً: قبل أن تسألوني ثانية أدركوني ببعض الطعام، وإلا مت جوعاً”، ص172.
[°]”وأشرقت الشمس في بهاء فوق القمم الذهبية للجبال والصخور، وبدأ آخر أيامه وهو متمتع بنعمة الإبصار، وتحدث إلى مدينا ساروتي لعدة دقائق، قبل أن تذهب للنوم.
قال لها: غداً لن أرى شيئاً.
فصاحت وهي تضغط يديه بكل قوتها: أيها الحبيب الغالي! إنه لن يسببوا لك إلا ألما بسيطاً”، ص179.
غير أنّه في نهاية الأمر، يتّخذ قرار الهرب، ويتسلّق الجبال مؤكّداً لنفسه أن نعمة البصر أثمن من أن تتم التضحية بها على يد هؤلاء الجاهلين، وقد كان سعيداً حين رأى مدينة العميان وقد أصبحت بالغة الضآلة، بينما يأتي السياق الأخير؛ ليؤكّد أنّ سماء “نونيز” غير سماء أولئك العميان:
[°]”وهبط الليل، وما زال نونيز في وداعة ورضا تحت النجوم الباردة”، ص183
[°]وعلى العكس تماماً بدأت شخصية الملك في مسرحية “نهر الجنون” من مقاومة فكرة الاستسلام، وهي مقاومة نظرية لا فعلية، قبل أن يسقط في مستنقع اليأس، بعد أن يقنعه وزيره بأنّ العقل لا قيمة له في وسط مملكة من المجانين، ويمكن أن نستشهد هنا بسياق حواري قصير يكون سبباً مباشراً لخيار الملك الأخير:
“الملك: وأنت، ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير: عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إنّ شهادة مجنون لمجنون لا تغني شيئاً”، ص6.
ثم يأتي السياق النهائي الذي يجسّد استسلاماً تاماً وأخيراً للعقل أمام سطوة الجنون:
“الملك: إذن، فمن الجنون ألّا أختار الجنون.
الوزير: هذا عينُ ما أقول.
الملك: بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون.
الوزير: هذا لا ريب عندي فيه.
الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون!
الوزير: (وقد بوغت) انتظر… (يفكّر لحظة) لستُ أتبين فرقاً.
الملك: (في عجلة) عليّ بكأس من ماء النهر!”، ص6.
°°°
وإذا كان نصّا “أرض العميان” و”نهر الجنون” قد اقتصرا على تصوير آفتين إحداهما جسدية والأخرى نفسية فإن من الواضح أنّ هربرت ويلز وتوفيق الحكيم كانا يهدفان إلى تعميم رؤية نصّيهما؛ لتشمل جميع مناحي الحياة، ولتشير ـ ربّما ـ إلى عالم أعمى ومجنون نعيش فيه، ولا نستطيع إلا أن نكون جزءاً منه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى