تشكيل الحكومة اللبنانية و أجراس الخارج

توفيق شومان | مفكر وخبير سياسي لبناني
أوردت صحيفة “النهار” اللبنانية بتاريخ 24ـ 9ـ 1975، بيانا صادرا عن “لجنة الحوار الوطني” تضمن التالي:
“قامت لجنة الحوار الوطني بنشاط متواصل، فاجتمعت برئيس الحكومة السيد رشيد كرامي، وبالأحزاب وبالقوى الوطنية والتقدمية برئاسة السيد كمال جنبلاط، كما أجرت حوارا طويلا مع ممثلين عن المكتب السياسي لحزب الكتائب برئاسة الشيخ بيار الجميل، وترى لجنة الحوار أن ثمة نقاط التقاء في شروط الطرفين الرئيسيين المتصارعين وأن بالإمكان البدء بالحوار حول النقاط المشتركة الآتية : الإلتزام بوقف إطلاق النار والتعهد بعدم استخدام العنف ـ الإلتزام بتحديث لبنان وجعله دولة عصرية مع الحفاظ على كيان لبنان والصيغة اللبنانية ـ الإلتزام بتعديل الأنظمة والقوانين بما يكفل قيام ديمقراطية حقيقية يتساوى فيها جميع المواطنين في الحقوق والواجبات “.
ثلاثة التزامات لم يلتزم “الملتزمون” بها لم يلتزموا لأن “الثقة الوطنية والنفسية” كانت أسقطتها الأهواء والظنون و “ما يضمرون”، ولأن كل طرف رأى في الطرف الآخر” تأبط شرا “.
استعرت الحرب بعد ذلك وانتظرت القوى السياسية اللبنانية حتى العام 1989، حين “صرخ” بها الخارج واستدعاها استدعاء إلى السعودية، فتوافقت تلك القوى على صيغة الخروج من الحرب وأسموا تلك الصيغة ـ وربما أسماها غيرهم ـ “اتفاقية الطائف ” .
خمسة عشر عاما انتظرت القوى السياسية اللبنانية حتى تسالمت وتصالحت ـ أوحتى ـ أسقط غيرهم ” السلام والصلح ” عليها.
بعد لجنة ” الحوار الوطني ” في عام 1975 ، أعلن الرئيس سليمان فرنجية في الرابع عشر من شباط / فبراير 1976وبالتوافق مع الرئيس رشيد كرامي و”المبادرة السورية” عن “الوثيقة الدستورية” وجاء فيها: ـ “التأكيد على العرف القاضي بتوزيع الرئاسات الثلاث ـ توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبيا ضمن كل طائفة ـ انتخاب رئيس مجلس الوزراء من قبل المجلس النيابي بالأكثرية النسبية ـ إزالة الطائفية في الوظائف واعتماد مبدأ الكفاية مع المحافظة على المساواة في وظائف الفئة الأولى ـ إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ـ تعزيز استقلال القضاء وإنشاء محكمة دستورية عليا للنظر في دستورية القوانين والمراسيم ـ تعزيز اللامركزية في العمل الإداري ـ إصدار جميع المراسيم ومشاريع القوانين بالإتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وتحمل توقيعهما ما عدا مرسومي تعيين رئيس الوزراء وقبول استقالة الوزارة أو إقالتهم “.
هذه الوثيقة رفضها أهل اليمين وأهل اليسار ، ومن يعيد قراءة ” وثيقة الطائف ” أو “دستور الطائف ” ، سيستقر على قناعة مفادها أن روح “الوثيقة الدستورية” حلت في جسد “وثيقة الطائف”  ومع ذلك استمرت الأحزاب اللبنانية في حروبها العبثية وفي تدمير لبنان لأربع عشرة سنة متعاقبة .
الصوت العاقل كان متهما ، ودعاة الحوار كان مدعى عليهم ، فآنذاك ، كان فريق من اللبنانيين يردد ما ردد عمرو بن كلثوم في أزمان الجاهلية :
لنا الدنيا ومــن أمســى عليهـا

ونبطش حين نبطش قادرينا.
فيرد عليه فريق لبناني آخر مكملا ومتمما ما قاله الشاعر في القصيدة نفسها والواقعة ذاتها :
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما

تخر له الجبابر ساجدينا .
لم تكن القوى السياسية اللبنانية بحاجة إلى البحث عن قصيدة مضادة أو شاعر مضاد، فالقصيدة الواحدة المتنازع عليها تلبي أدوات الحرب الواحدة وحاجاتها التعبوية، وهو واقع الحال مع أثير وإذاعات تلك الأيام وأحوالها ، فأغنية ” بحبك يا لبنان” لفيروز كانت تتنازعها الإذاعات المتحاربة ، إذاعة صوت لبنان “الكتائبية” وإذاعة “صوت لبنان العربي ” الناصرية ” ، وتدعي كل منها وصلا بليلى وليلى لا تقر لهما بذاك.
لم يعترف المتصارعون بأن واجب الوجوب البحث عن وفاق وحل عنوانهما على الأقل كما كان يقول ميشال شيحا: العيش فوق سوء تفاهم متفاهم عليه .
في عام 1978، أصدر باسم الجسر ، أحد أهم المقربين من رئيس الجمهورية الأسبق فؤاد شهاب كتابا بعنوان ” ميثاق 1943 لماذا كان وهل سقط ؟” ، دعا في خاتمته إلى  ميثاق جديد” شديد الشبه ب ” الوثيقة الدستورية ” ، إلا أن أحدا من أطراف الحرب لم يعر انتباها لهذا الكتاب المدرج في مصاف الكتب الأكثر نضوجا والصادرة في المراحل الأولى لحروب الأحزاب اللبنانية على اللبنانيين ، فشهية الحرب كانت طغت على شهية الوفاق ، وباتت قيمة الحرب تسموعلى قيمة الترفع عن الحرب .
قبل باسم الجسر ، كتب الوزير والنائب الأسبق عن الكتلة الأرمنية خاتشيك بابكيان في عدد مجلة “الآداب” الصادر في أول كانون الثاني/ يناير 1977تحت عنوان : “دستور جديد للبنان الحديث” فقال : “مهما كانت أشكال دستور الغد ، لا بد أن يتضمن فصلا خاصا يعبر عن المفهوم الحديث لحقوق المواطن الإقتصادية والإجتماعية ، إذ لا قيمة لتلك الأشكال إذا لم تستند إلى حد أدنى من الرخاء والرفاهية ، يؤمن عند السواد الأعظم من المواطنين شعور الإنتماء والتضامن الوطني “.
كثيرون من رموز تلك المرحلة ، داسوا فضيلة الوفاق وهاموا غراما في رذيلة الخناق ، فأكثر من كانوا في ساحات الوغى ، يمينا ويسارا ، لم يكن قد وصل إلى مسامعهم قول وحكمة أحد كبار الحقبة السوفياتية اندريه غروميكو : عشر سنوات من المفاوضات أفضل من عشر ساعات من الحرب.
مضى عقد السبعيينات اللبناني حربا وحقدا ، وتبعته سنوات الثمانينيات الأولى بمنسوب أعلى من الموت والخراب، وحين ذهب أهل الحل والربط إلى مدينة لوزان السويسرية في عام 1984 ، كتب طلال سلمان ” ثرثرة فوق بحيرة ليمان ” فقال : “إن المناقشات الجارية تدفعك دفعا لأن تخرج بالإستنتاج المنطقي الوحيد، حتى لو كان غير مفرح ، لا مكان لأن يعطي المجتمعون في لوزان علاجا للأزمة الخطيرة التي تثقل لبنان واللبنانيين”.
فعلا … هكذا كان ، فالحرب صارت فضيلة، وصار لكل العالم خنادقه وبنادقه في لبنان بمن في ذلك الشيطان الحقير المسمى ” اسرائيل ” .
بعد خمس سنوات جاءت الدعوات والإستدعاءات إلى “الطائف” ، وقيل ـ كما يقال ـ لمن حضر : لا عودة إلا بإتفاق ولا رجوع إلا بوفاق، فكانت “اتفاقية الطائف” .
خمس عشرة سنة حتى أدرك المتصارعون والمتقاتلون أن السلم الأهلي فضيلة، وقيمة هذا السلم تعلو على كل القيم .
هل سينتظراللبنانيون عقدا ونصف العقد حتى يجنح أهل الصراع والنزاع الحاليون، إلى السلم الأهلي والسلام الداخلي ؟ تلك كارثة لو وقف اللبنانيون على قارعة انتظار السنوات العشر السوداء ، ذلك أن :
ـ حين عبث العابثون بإستقرار لبنان عام 1975 ، لم يتحدث أحد عن مجاعة ولا عن جوع زاحف مثل جراد ” سفربرلك “.
ـ منذ انهار لبنان ماليا واقتصاديا في العام الماضي (2019) ، صار حديث المجاعة مثل حديث الموت أقرب من حبل الوريد .
مع ذلك ليس هناك من يعمل على رؤية للحل وليس هناك من يسعى إلى فتح ثغرة في جدار ، فلا طرف سياسيا يملك برنامجا أو تصورا أو خطة إنقاذية ، الجميع يراهن على الخارج، وكل ذلك يعيد مشاهد اليوم إلى مشاهد الأمس في مدينة لوزان السويسرية ، وإلى ما كتبه طلال سلمان ، إذ يقول :
” يتحدثون هنا في أمور كثيرة، الحكومة ومن سيُكلف بتشكيلها، خصوصا إذا استمر رشيد كرامي على تردده الناجم، في ما يقول البعض ، عن خوفه من الفشل ، وهل تكون حكومة موسعة أم مصغرة كما يفضلها ” الأفندي ” ، وهل تكون تمثيلية ؟ وهل تستطيع حكومة أقطاب أن تحسم حين يتطلب الأمر الحسم ؟ “.
صورة الأمس يظهر فيها اليوم بعناوينه وتفاصيله ، أو كأن اليوم هو الأمس والأمس هو اليوم، والنقاش يدور حول جنس الملائكة ، فيما أسوار القسطنطينية تدكها مقذوفات المدافع وأحجار المقالع ، ولا أحد يعرف حتى هذا الحين جنس الحكومة وما الفرق بين حكومة تكنوقراط او حكومة تكنو ـ سياسية، وما الفرق إذا كانت الحكومة حزبية أو سمت الأحزاب وزراء غير حزبيين ، أو أخذت هذه الجهة تلك الوزارة أو نالتها جهة أخرى .
من يدلنا إلى الفرق؟
من يرشدنا إلى الفارق بين لون الليل واللون الأسود؟
من يصارح “الجماهير” بالقول: سيطول جوعكم حتى يأذن “الخارج” بحل جديد وسلم جديد وعقد جديد وحكومة جديدة!!.
عشتم وعاش لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى