كلما وضع خطوته على أرضٍ صارت قريةً

خالد جمعة | فلسطين

كان يدور في الهواء مثل قطٍّ يلاحق ذيله، والمساء أيضاً كان يرقص معه، هالةٌ من الخشخاش وعطر الكلمنتينا يتناثران حوله، ولم يعرف أحد منّا ـ على اعتبار أننا في السادسة ـ كيف تتحول الحركةُ معه إلى كلام، وتقاطع الضوء مع جسده النحيل يصير قصصاً، وكان الوحيدُ الغريب الذي استثنته أمهاتنا من مقولة “لا تكلموا الغرباء”، مع أنهن لم يعرفن من يكون، وكلما وضع خطوته على أرضٍ صارت قريةً بسكانها ومزارعها وحيواناتها وأشجارها وأنهارها وأعراسها، وكلما نظر إلى السماء قفز قوس قزح من نظرته إلى الغيم، وفي الوقت الذي بكى فيه ـ وهذا كان نادراً ما يحدث ـ توقف الكون مثل صورةٍ في مجلة، لم يكن يسألُ أحداً شيئاً، وكنا نظنّه يخبئ ذهباً تحت عباءته المهلهلة، وغيوماً في مخلاته التي من خيش، وصندوق حكايات لا ينتهي تحت عمامته، وفوق ذلك، كنا نظن أنه لا يموت.

[][][][][][][][]

تبعناه يوماً لنعرف بيته الذي تصورناه محاطا بالضحك والغابات، لم يلتفت خلفه، لكنه كان يضحك وينادينا بأسمائنا واحدا واحدا، وفجأةً اختفى، كأنه صار هواءً، بقينا مذهولين وحزانى، وعلى الأرض بقايا خطوات تدل على مسيره، لكنها خطوات بلا جسد، لم تكن دهشتنا نابعةً من تبخُّره، بل من غيابه ذاته، فككل الأطفال كان حضوره فرحنا في أوقات خيباتنا الصغيرة، غير أنه لم يغب طويلاً، فقد وجدناه تحت شجرة الكينا الوحيدة بعد أيام، يحمل ناياً قصيراً إلى حد أن كفّاً واحدةً كانت تخفيه، والأنغام تسير على الطرقات لم يقتنع أحد أن كل هذه الموسيقى تسيل من قطعة القصب تلك، ورحنا ننظر إلى السماء باحثين عن ملائكة تآمرت معه لتوهمنا بأنه من يعزف، ولم يكن هناك أي ملاك في السماء، وكان هو يضحك بسعادة بين عزفين، ويملّس على رؤوسنا وفي النهاية يُخرِجُ ـ كأنه ـ قطعة حلوى من آذاننا، ويقشرها لنا ويطلب أن نغمض أعيننا قبل أن يذيقنا حلواه، كلنا اعتقدنا أنه سرقها من الجنة.

[][][][][][][][]

كأن الكون ناقص دونه [وكأننا كنا نعرف الكون]، كل خلل في الأرض امتلك طريقة لإصلاحه، ينسل خيطاً من أكمامه لتكمل الحمامة عشها، يركِّبُ من قلادة العظام حول عنقه ناباً ناقصاً لكلبٍ مشرَّدٍ، يزيح الشمس قليلاً كي تناسب الزرع الضعيف في أول إنباته، يقلبُ خنفساءً كادت تختنق وهي على ظهرها، حتى ظننا أنه يحمل إلينا الأحلام في النوم، وحين يأتينا الخوف في مناماتنا، نقول بثقة العارفين: لقد أغضبناه دون أن ندري.

[][][][][][][][]

منذ عقود طويلة، اختفى الدرويش صاحب الناي، مما يعني أننا كبرنا، واشترينا أكواماً من حلوى الجنة، ولم يكن طعمها سحرياً كحلواه، تعلمنا العزف على كل الآلات، ولم تخرج معنا نغمة واحدة مثل تلك النغمات التي كانت تزركش الهواء حولنا، سمعنا وقرأنا آلاف القصص، ولم تسحرنا قصة واحدة كقصص أميراته التي كان يجبلها بالرقص والأغنيات.

[][][][][][][][]

يا أيها العالمُ الخفيُّ الذي أخذ سحره من رملنا وبحرنا، ارسم لنا مكانه بتشكيلة الطيور تلك التي تأتي أسرابها في موعد غيابه كل سنة، أو اجعلنا ـ على الأقل ـ نصدق أننا لم نكن نحلم بوجوده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى