غريق في شِبر مَيّه !

صبري الموجي – نائب رئيس مجلس إدارة جريدة عالم الثقافة

 لم يبق إلا سوادُ الليل، وتنطلق رحلتُنا المدرسية إلي مدينة الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط؛ للاستمتاع بشواطئها الذهبية، وبيوت الرمال – التي يأتي الموج فيدك حصونها وتصير أثرا بعد عين، بل ويزول الأثر أيضا – ومداعبة الأمواج و(وشوشة الأصداف) دون أن نعرف ماذا نقول لها، وتأجير قوارب مطاطية تحملنا علي صفحة الماء إلي داخل البحر بعيدا عن الضوضاء والبشر لننعم بزرقتي الماء والسماء، وسقوط الشمس عند الغروب في صفحة مياه البحر الواسعة.

وحيث إنها سويعاتٌ قليلة بيني وبين تلك الأُمنية المرومة، فأسرعتُ إلي (حصالة) نقودي، التي هي عبارة عن كوز من الصفيح به فتحة من أعلي، اعتدتُ أن أسقط فيها ما أدخره من نقودي انتظارا لهذا اليوم الحافل، وأخرجت ما فيها بعد تحطيمها بـ( أجَنَة) وشاكوش، وأسرعت لشراء: (البيض، وبعض عُلب الجبن، والحلاوة الطحينية، وأحضرت مع هذا خبز الفينو الذي كنت قد حجزته قبلها بيوم مخافة أن ينفد، وساعتها سأُرغم آسفا علي خبز الفرن البلدي).

في محل البقالة أنفقتُ كل نقودي ثقةً بأنني سآخذ مصروف جيبي من والدي، ثم أعود في خلسة وآخذه من أمي أيضا، بعدما تُوصيني قائلة : (لا تُعرِف أبوك وأخواتك)، وبهذا أضمنُ رحلة سعيدة أشتري كل ما أشتهيه، ولا أحرم نفسي من أي لعبة مادام الجيب عامرا.

أحضرت كل مُستلزماتي، ودفعتها لأختي (ثناء) لتجهيز السندوتشات، وجلست أراقبها حتي لا تطيش يدها وتأكل مما اشتريتُ شيئا، فكنت أشبه بحارس نوبتجي جلس يُكافح النعاس مخافة هروب اللص، أعدتْ أختي الطعام ولفته في أكياس من (النيلون) ودستها بحقيبة ملابسي، وتأكدتُ بنفسي من إحكام غلق الحقيبة، ووضعتُها تحت سريري مخافة أن تعبثَ بها يدُ عابث.

في حجرة النوم مكثتُ أكافح من أجل أن تغفو عيناي ولو ساعة واحدة، وهيهات لي أن أنام، إذ إن الفرحة والانتظار طيرا النوم من عيني، وظللت أترددُ بين السرير والنافذة أُراقب طلوع الفجر الذي طال انتظاره، فتمنيت أن أكون جراحا أخرج الفجرَ من رحم الليل الأسود البهيم.

وبطيئا انجلي الليل، فقمتُ في عجل واستبدلت ملابسي، وصليت الفجر وحملت حقيبتي علي ظهري، وقرعت باب حجرة نوم والديّ لأودعهما وأخواتي قبل الخروج، خاصة أنها المرة الأولي التي سأغيبُ فيها عن البيت أسبوعا كاملا.

وبعد مصافحة الأهل والاستماع إلي توصيات الوالدين، التي لا أنكرُ أن شرود ذهني ولهفتي للخروج جعلاني أتلقي نصائحهم بـ(ودن من طين وأخري من عجين) فلم يعلق بذهني منها شيء، وقصدتُ الشارع أُوسع الخطي لأصل إلي مكان انتظار (الباص) بجوار المدرسة الابتدائية في مدخل قريتنا من الجهة الغربية، وفي الموعد المُحدد حضر الباص، ومشرف الرحلة من المدرسين، الذي نادي علي المشتركين من كشف بيده، وأجلس كلا في مقعده، وانطلق أتوبيس الرحلة يُسابق الريح، وشرعنا في ترديد أغنيات تُعبر عن فرحتنا، التي عكرها صوت المشرف (النشاز)، الذي أخذ يُغني بصوت مبحوحٍ كرّهنا في الغناء والطرب، إذ أخذ يُردد كلماتٍ تفتقر للمعني والذوق تقول: ( أنا الوابور، أنا الوابور اسود وغطيس، واللي أدوسه يموت فطيس حتي ولو كان شيخ البلد، فيرد (الكورال من التلاميذ مُرغما) : (حتي ولو كان شيخ البلد)، ويستمر في ترديد كلمات الأغنية التي نتظاهر بالإعجاب بها، فيظن في قرارة نفسه أنه أوتي صوتا نديا وحسا مُرهفا ينافسُ بهما عبد الوهاب والعندليب، بينما نحن نقول في أنفسنا  ليته سكت.

وصل الباص إلي عروس البحر المتوسط، فأدهشني اتساعُ البحر وزرقة مياهه، وامتدادُ صفحته، التي عانقت مِظلة السماء عند نهاية الأفق، ليؤكد هذا التصافحُ والعناق معني السلام الذي أفسده العالمُ بصراعاته وحروبه.

وسريعا دخلنا نُزل الإقامة والمعيشة، فعرف كلٌ منا حجرته و(دولاب) ملابسه، الذي وضعنا به متعلقاتنا، وشرعنا في إعداد وجبة الغداء لنستريح قليلا قبل الاستجابة لنداء البحر ومغامرات السباحة والعوم الذي كنا نجهله تماما !

كان شاطئ الشاطبي هو أول علاقتي بعروس البحر، ويبدو أن بركة هذا الولي هي التي أنقذتني والكثيرين من غرقٍ مُحقق، إذ لمس فينا حارسُ المنطقة جهلنا بالسباحة والعوم، وأننا لا نعرف من البحر إلا اسمه، فأوصي (مُشرف) الرحلة ذي الصوت الندي، بأن نبقي في مكانٍ حدّده، حيث إن مستوي الرمال فيه مُرتفع، ولا تتجاوز أمواجُه مجرد الرُكب، فامتثلنا للتوجيه إيمانا بأن( أهل مكة أدري بشعابها)، وأخذنا نجري ونلعب، نداعب الموج في حذر وثقة معا؛ لأن المكان بعيدٌ عن الغرق.

ظللنا هكذا حتي جاءتنا من حيث لا ندري كرةُ قدم، وجاء صبيٌ لأخذها، فدار حوارٌ بينه وبين مُشرفنا (العندليب)، جعل الصبي يتأخر عن أمه،  التي هرولت تتساءل عن سبب تأخيره، وليتها لم تأتِ، إذ كانت في إقدامها: هيفاء مُقبلة عجزاء مُدبرة.. لا يُشتكي قصرٌ منها ولا طول.

ونادت علي ابنها بصوت فيه غُنج: ( اتأخرت ليه يا مايكل)، وقالت للمشرف بعدما أسبلت له أهدابها، ونغَّمت صوتها، وأرجفت كلماتها، وسلطتْ عليه نظرة طويلة أسلبته لبه، وخلعت قلبه : أعطه الكرة يا حضرة، ففغر صاحبُنا فاه، وتلعثمت كلماتُه، ورمي الكرةَ لابنها دون أن يُحرك ساكنا، بعدما طعنته بخنجرها الماضي الفتاك.

انصرف مايكل وأمه، إلي مكان لعبهم، والذي يبعدُ عنا بمسافة قليلة، ولكن منسوب الرمال به كان منخفضا، ومن ثم لا يناسبنا، فساقنا المشرفُ إلي ذلك المكان المشئوم سوقَ النعاج، التي سارت أمام الراعي تهزُ أعناقها، وتُرخي آذانها، ولا تملك مقدرة مراجعته أو الاعتراض عليه ، ضاربا بتوجيهات حارس الشاطئ عرض الحائط؛ رغبة في اللعب مع مايكل، كما أظهر، ولكن الباطن يقول: ( من أجل الورد ينسقي العُليق).

أخذ المشرف بض الجسم يلعب ويلهو مع مايكل الذي لم يتجاوز (ركبته)، ويختلقُ المواقف ليظفر من أمه بغمزة عين، أو حركةِ رمش، أو ابتسامة وجه، أو كلمة حانية تطفئ نار فؤاده المضطرمة .

وفي غمرة اللهو واللعب، إذا بصافرات التنبيه تنطلق، وإذا بالبحر يُعلن عن غضبه فيرتفع موجه، ويشتد مده وجزره، كما لو كان يعترضُ علي سلوك ذلك المشرف، وبعد أن كان الموج لا يتجاوز الرُكب، ارتفع وبلغ الرقاب، بل غطاها، فخرج المصطافون منه انتظارا لهدأة صولته، وبقينا نحن ومشرف رحلتنا يعبث بنا الموج، فنفرح حينما يدفعنا للشاطئ مده، ونصرخ حين يسحبنا للداخل جزره، وصار غرقُنا وشيكا نحن ومشرفنا (صريع أم مايكل)، الذي ارتمي جانبا بجسده الممتلئ، وجسمه البض، فكان أشبه بفرس النهر لولا جسمه الأبيض، إلي أن أدركته عناية الله ويد الحارس.

وبقيت أنا أتأرجح بين المد والجزر أشبه بكرة يتقاذفها لاعبان، وفي إحدي مرات الجزر غطي الماءُ رأسي، فأدركتُ أنني هالكٌ لا محالة، فأخذ عقلي الباطن يُقلب شريط الذكريات فتذكرتُ أبي وأمي وأخواتي وأصدقائي والسندوتشات التي (دفعتُ فيها دم قلبي)، وغيرَ ذلك، وبينما أنا أكابدُ خوفَ مُفارقة الحياة في البحر لأصير طعاما للسمك، الذي كنتُ أتلذذ بتناوله بالأمس، استندتُ براحة يدي علي صديقٍ كان يُعاني الغرق مثلي، فاستقمتُ واقفا رافعا يدي لأعلي، فبدت أنامل أصابعي، التي كانت طوق نجاة، بعدما لمحتها عينُ حارس الشاطئ، فجاء وحملني إلي قُرب الشاطئ ليُنقذ غيري، فأعادني الجزرُ إلي داخل البحر، إذ كنتُ خائر القوي بعدما أشرفتُ علي الغرق، فأدركني الحارسُ من جديد، وهم بإلقائي في نفس المكان فرجوته أن يُلقيني بالرمال الجافة؛ خشية الرجوع للمرة الثالثة، إذ كان يصدق عليّ آنذاك: (يغرق في شبر ميه)، وانتهي اليوم بسلام، وقطعنا العهدَ بألا يتجاوز ماءُ البحر كعوبَنا بقية أيام الرحلة، وشققنا عصا الطاعة علي المُشرف الذي أفسدته علينا أم (مايكل).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى