الإدمان الإيجابي: ماهيته، وقيمته العلاجية

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المساعد، كلية التربية – جامعة دمنهور

أولاً- مقدمة:

لا شك أن إدمان المخدرات، الكحول، الأكل، التدخين، …الخ أمثلة لممارسات قهرية يكمن ورائها دافعية غير مسيطر عليها، تستنزف قوتنا وتبعدنا عن كل ما له قيمة وأهمية في الحياة.

وأفاد وليام جلاسر سنة 1965 بوجود أنشطة إدمانية أخرى تعطينا القوة والبهجة والاستمتاع بالحياة مثل: التأمل، كتابة المذكرات اليومية، ممارسة الاسترخاء، …الخ وسمى هذه الأنشطة بالإدمان الإيجابي.

ويحب كثير من الناس ممارسة هواية الطبخ، عزف الموسيقى، التأمل، الرقص، الحياكة knit…الخ، ويرون أن هذه الأنشطة طريقة ممتعة وسوية وفعالة في الترفيه عن الذات بعد يوم طويل وشاق. إذ أن مثل هذه الأنشطة توفر مجالاً لاستمتاع الشخص وسعادته، ولا يتوقف كثير من الناس عن وصفها بأنها أنشطة تثير البهجة في النفس وفقط، بل يعتبرون أنها تسيطر عليهم وتمثل نوعًا من الإدمانات الإيجابية positive addictions.

 

ثانيًا- تعريف الإدمان الإيجابي:

ويعد وليام جلاسر William Glasser أول من قدم مصطلح “الإدمان الإيجابي positive addiction” في أحد أهم كتبه التي تحمل نفس العنوان، وكان تركيزه على أنشطة الجري والتأمل، على الرغم من عرضه لأمثلة أخرى من خبرات الآخرين.

د. وليام جلاسر  طبيب نفسي عرف بصياغته لصيغة من صيغ العلاج النفسي تعرف باسم “العلاج بالواقع أو العلاج الواقعي Reality Therapy ” سنة 1965 وتستخدم في كثير من الممارسات الطب نفسية والإكلينيكية في جميع أنحاء العالم. ولد في سنة 1925 ونشأ في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية، بدأ حياته المهنية مهندسًا كيميائيًا  Chemical Engineer، لكن توجه إلى مجال الطب النفسي عندما اتضح له أنه يمثل اهتمامه الرئيسي في الحياة فالتحق بكلية الطب حيث تلقى تدريبًا في الطب النفسي في مستشفى قدامي المحاربين في غرب لوس أنجلوس ما بين سنة 1954 إلى سنة 1957، وأصبح عضوًا من العاملين فيها سنة 1961، ومارس العمل المهني الكلينيكي الخاص في عيادة نفسية من سنة 1957 إلى سنة 1986، وركز كثيرًا من جهده في التأليف ونشر أكثر من عشرين كتابًا في الطب النفسي والعلاج النفسي وعلم النفس الكلينيكي.

وتتمثل القاعدة المعرفية المركزية لمفهوم الإدمان الإيجابي في تصور وليام جلاسر في أن كثيرًا من الناس سواء كانوا أقوياء أو ضعفاء بإمكانهم مساعدة أنفسهم ليكون أكثر قوة وأكثر جدارة واقتدارً في الحياة، عبر مسار جديد ومهم لتحقيق هذه القوة، يتمثل في “الإدمان الإيجابي positive addiction”، وإذا حقق كثير من الناس القوة والجدارة والاقتدار سيكون العالم الذي نعيش فيه عالمًا أفضل مما هو عليه الآن”.

ورأي وليام جلاسر أن هذه الإدمانات الإيجابية “تقوي الإنسان وتجعل حياته مفعمة بالرضا والسعادة”، فضلاً عن أنها تجعل الإنسان يبحر في الحياة بثقة في ذاته، وبتوجه إبداعي، وسعادة بالغة، الأمر الذي ينعكس بصورة إيجابية على حالته الصحية، وعلى ذلك تختلف الإدمانات الإيجابية عن صيغ الإدمان السلبية.

وركز وليام جلاسر شأنه شأن اليس وكنوس Ellis and Knaus على الانفعالات الكامنة وراء السلوك والمقترنة به في نفس الوقت أو ما يعرف “بالحدث السلوكي في المستوى الثاني level II of behavior event، بالمستوى الأول يدور حول: أننا جميعًا نحب أن نكون محبوبين ومقدرين من الآخرين وأن نشعر بالجدارة والاقتدار، ويدور المستوى الثاني حول أننا من المفترض أنه عندما نخفق في الحصول على ما نريد، إما أن نمتلك الإرادة والقوة على المحاولة مرة أخرى أو أن نفقد هذه الإرادة وتلك القوة، ويمل الآلاف منا إلى التوقف وفقًا لرأي وليان جلاسر متذرعين بمقولة “لماذا نحاول؟ سأفشل بالضرورة؟ أو أنه هذا هو خطأ آبائي، أو غير ذلك من المسوغات.

وعندما نتوقف أو نقلع عن المحاولة أو نقدم أعذارًا ومسوغات لإخفاقنا في الحياة فإننا لا نزيل التعاسة أو الألم الشخصي ولا نحقق الحب أو الشعور بالجدارة، بل ربما تتخلق لديها الأعراض الطب نفسية المرضية مثل الاكتئاب، التمرد، نوبات النزق والغضب، الاستياء العام، الكرب، الشكاوى البدنية، أو الانجراف في مسار إدمان المخدرات، الخمور، أو الأكل.

ولا شك في أنه مثل هذه الآلام أخطر بكثير وأشد بكثير من الآلام التي يمكن أن تحدث لنا إن واجهنا ما نتعرض له من تحديات ومتاعب ومشاق وإخفاقات بطرق أخرى تعتمد على شعورنا بالجدارة والاقتدار وتؤدي بنا إلى الحصول على الحب والتقدير.

وعليه يوجد وجه آخر لعملة الإدمان، يتمثل في إدمان الأنشطة والمهام المبهجة السعيدة المريحة التي لا نشعر عند الاندماج فيه إلا بالاقتدار وحرية الإرادة، والترفيه الإيجابي عند الذات دون تموج في دوامات لومها وتأنيبها والتقليل من شأنها.

وبالتالي ما الحل الذي يقدمه وليام جلاسر؟ إنه الإدمان الإيجابي؟ من الصعب أن نصف شخصًا بأن لديه إدمانًا إيجابيًا إلا إذا دوام على أداء نشاط أو مهام ما إيجابية الطابع مثيرة لبهجته وسعادته بصورة سوية لمدة تتراوح من ستة أشهر إلى سنة لمدة ساعة يوميًا على أن ينتج عن هذا النشاط شعورًا بالقوة والجدارة والاقتدار وتحسن دالة في نوعية حياة الشخص، على أن يتميز هذا النشاط بإمكانية ممارسة بمفردك، ويمارس بيسر وسهولة وتلقائية دون مجهود مضني ولا سعي لتحقيق التفوق أو الامتياز على أحد، ولا يرتبط بنقد الشخص لذاته أو استيائه منها بل يرتبط بالراحة وتقبل الذات.

 

ثالثًا- محكات الإدمان الإيجابي:

عرض وليام جلاسر لستة محكات أساسية يجب أن ينجزها الشخص ليمتلك الإدمان الإيجابي في أي نشاط:

  • إنه نشاط غير تنافسي تختار ممارسته أنت بإرادتك الحرة، وتكرس له على الأقل ساعة كل يوم بصورة إرادية.
  • من الممكن أن تقوم بأدائه بسهولة ويسر، ولا يتطلب كمية كبيرة من المجهود العقلي لأدائه بصورة جيدة.
  • يمكن أن تقوم به بمفردك أو نادرًا مع آخرين، لكن لا يٌعْتمد فيه على الآخرين لتقوم بأدائه.
  • أن تعتقد أنت أن له فائدة وقيمة (بدنية، عقلية، أو روحية) لك.
  • أنّ تعتقد أن مثابرتك واستدامة قيامك به يؤدي إلى تحسين حياتك، وهذا أمر ذاتي تمامًا بمعنى أنك الوحيد معيار قياس التحسن الذي يطرأ على حياتك.
  • يجب أن يكون للنشاط طبيعة تفيد بأن بإمكانك القيام به واستدامة ومثابرة المجهود فيه بدون أن تنتقد نفسك أو تستاء من ذاتك، فإذا لم تقبل نفسك أثناء الوقت الذي تمارس فيه هذا النشاط، فلا يعد هذا النشاط إدمانًا إيجابيًا.

 

رابعًاخصائص الإدمان الإيجابي:

  • أن النشاط المبهج الذي تدمنه لا يسيطر على حياة الشخص، لأنه يظل محصورًا في نطاق ضيق ومحدد من الوقت لكن له طابع الاستقرار والدوام.
  • أن التداعيات أو النواتج الإيجابية لهذا النشاط الإدماني الإيجابي تطال كل جوانب حياة الشخص، لكن يكون النشاط الإدماني الإيجابي ذاته مرتبطًا بجانب محدود من شخصية الفرد.
  • أن يكون لدى الشخص اتجاهًا إيجابيًا نحو النشاط الإدماني يجعل الشخص في حالة من الإقبال الإرادي وليس القهري على النشاط، وفي الوقت إمكانية التوقف عن أدائه إن أراد.
  • إمكانية أن يتوقف الشخص تلقائيًا عن أداء هذا النشاط الإدماني إن تعارض مع جانب مهم جديد من حياته حتى وإن كان يحب هذا النشاط، بمعنى إذا جدت في حياة شخص مهما لها أولوية خاصة لحياته في الوقت الحاضر أو المستقبل وتتطلب تكريس الجهد ووقت إضافي يمكن للشخص بسهولة التوقف عن النشاط الإدماني الإيجابي وتخصيص وقته لهذه المهام الجديدة.

ومع ذلك لا يوجد شيء خطأ في توحد الشخص بصورة سوية مع نشاط أو سلوك ممتع ومبهج ويحسن من نوعية حياته ويحقق له الازدهار والارتقاء الشخصي، فكلما تمكن الناس من التوحد والاندماج الإرادي في مثل هذه الأنشطة كلما كانت حياتهم أفضل.

وعلى ذلك توفر محكات وليام جلاسر للإدمان الإيجابي طريقة جيدة للناس للتمييز بين الأنشطة المبهجة والأنشطة غير المبهجة، فضلاً عن توفيرها طريقة جيدة وملائمة لتقييم الأنشطة التي تسهم في الحياة الصحية والسعيدة، واستبعاد الأنشطة المثيرة للتعاسة والكرب والمشقة.

 

خامسًا- نقد مصطلح الإدمان الإيجابي:

ومع ذلك أتعجب! لماذا نسمى السلوكيات السوية التي تسهم في تحقيق السعادة إدمانًا إيجابيًا؟ ما الفائدة التي يمكن أن تتحقق من إقرار مثل هذه التسمية “إدمانات”؟! هل يوجد قيمة إيجابية ما من اعتبار الشخص الذي يمارس مثل هذه الأنشطة مدمن addict؟! وأرى أن هذه التسمية غير مناسبة وربما من الأفضل تسمية مثل هذه الظاهر بمسميات: التدفق النفسي الإيجابي Positive Psychological Flow، أو الاندماج الإرادي الإيجابي  Voluntary and Positive Engagement ، وذلك لتجنب الدلالات اللغوية السلبية لتعبير الإدمان والذي يستفاد منه سلب إرادة الشخص وإقباله القهري على المهام والأنشطة دون وعي بالزمن.

ومن الدراسات الحديثة التي تناولت مفهوم الإدمان الإيجابي من منظور أكثر تكاملية دراسات سي بليمير Darcy C. Plymire، ولعل دراساتها بعنوان “الإدمان الإيجابي: جريانه والإمكانيات البشرية في العقد السابع من القرن العشرين Positive Addiction: Running and Human Potential in the 1970s

خامسًا- المصدر:

  • William Glasser, W. (1985). Positive Addiction. New York: Harper Colophon Books.
  • O’Connor, P. (2014). Are There Positive Addictions? “Positive addiction” is a contradiction. https://www.psychologytoday.com/us/blog/philosophy-stirred-not-shaken/201411/are-there-positive-addictions
  • Goetzke, K. (2018). Is there Such a Thing as Positive Addiction? Dr. Glasser Thinks So, But Do You? https://blogs.psychcentral.com/adhd/2010/06/is-there-such-a-thing-as-positive-addiction-dr-glasser-thinks-so-but-do-you/
  • Plymire,D. (2004). Positive Addiction: Running and Human Potential in the 1970s. Journal of Sport History, 31(3): 297-315.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى