صُنّـاع التاريخ

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

 

ابتعثته حكومته للدراسة في إحدى جامعات ألمانيا، ليدرس الميكانيكا العملية، فذهب يحمل حلمه بين طيات نفسه.. يحلم أن يصنع مُحركاً صغيراً. قرأ كل ما كُتب عن الميكانيكا حتى عرف نظرياتها كلها، ولكن شكل المحرك ما زال يداعب خياله، ويشغل ذهنه ويغمر كيانه، زار يوماً معرضاً للمحركات فوجد محركاً صغيراً يعادل في سعره راتب شهر كامل؛ فاشتراه على الفور وذهب إلى بيته سعيداً ليقضي أياماً وليالي لا ينام إلا قليلاً، ولا يأكل إلا الفُتات، حتى نجح في النهاية أن يفكك أجزاءه قطعة قطعة ليعيد تركيبها من جديد بنجاح. ثم عُرض عليه مُحرك مُتعطل، فظل أياماً يبحث في أجزائه حتى عرف أن عُطله يكمُن في قطعة تحتاج إلى صناعة، فصنعها بنفسه، فدبت الروح في المحرك من جديد ليعزف أعذب موسيقى سمعها في حياته. استمر في دراسته وتجاربه ونجاحاته تسع سنوات يعمل باستمرار لا يهدأ فيها ولا ينام، حتى استطاع آخر الأمر أن يعود لليابان لينشئ مصنع محركات متكامل، وقد استغرق ذلك تسع سنوات متواصلة في عمل لا يعرف الكلل، وكانت كل قطعة في هذا المصنع وكل جزء فيه مصنوع في اليابان.. إنه بطل الإرادة وناقل الحضارة تاكيو أوساهيرا.

إن تطور الأوطان يعتمد على الأبطال، والأبطال يصنعون الأحلام ويحققونها، فهم لا يعيشون دون جدوى، إنهم صُنَّاع التاريخ الذي لا يسرد إلا قصصهم، ولا يعترف إلا بإنجازاتهم. آمن أوساهيرا بشيء ما، وكان لديه ما يبعث على الأمل دائماً، كان يضحي بماله ووقته وطاقته وهو مستمتع، كان يسرع الخطى نحو أحلامه التي رآها واقعاً، وعينه لا تفارق خط النهاية الذي تهون من أجله الصعاب؛ موقناً أنه لن يحصل من هذه الحياة إلا على قدر ما يحمل من أحلام، وما يتحلى به من إرادة. إنها العبقرية الحقيقية التي تكمن في قدرة الإنسان غير المحدودة على بذل الجهد واحتماله وتذليل عقباته.

لقد اعتبر أوساهيرا المحرك حلم حياته، ورغم إعجابي الشديد بمن يكتشف حلم حياته ويحدده؛ إلا أنه لم يكتف بذلك وإنما ناشد المزيد؛ فقد أحدث توافقاً وانسجاماً بين حياته الداخلية وحياته الخارجية، ليتحول حلم الحياة إلى حياة الحلم، بل أصبحت الحياة المصاغة خارجياً عند أوساهيرا حياة حالمة.

علينا أن نكتشف أحالمنا داخل نفوسنا الفريدة، واكتناه كياننا الحقيقي، وأن نعيش وفقه، لتتشبع حياتنا بأحلامنا.. وما هي إلا خطوات حتى تتحقق الأحلام والأمنيات. إنها بحق الكنز الحقيقي للنمو البشري والذي يبرق ويضيء من حين لآخر كومضات لامعة في سماء حياتنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى