نحن وإيران والتاريخ

د. خضر محجز | فلسطين

يقول إدوارد سعيد: (إن الكيفية التي بها نصوغ الماضي، أو نمثله، تصوغ فهمنا للحاضر، ووجهات نظرنا فيه).

انتهى كلام سعيد. فأقول: إن الصراع بيننا وبين المختلفين دوماً ينطلق من هذه الفكرة: كيف نرى إلى ما تم، وكيف يرون إليه.

وهذا أقوله لمن يطالبوننا بأن نتوقف عن دراسة التاريخ، لنتأمل المستقبل. والحقيقة أن ذلك مستحيل. فلا أمام إلا من خلال الخلف. فكل ما وراءك يدفعك في طريق محدودة فيه خياراتك.

فمثلاً، قد رأينا إيران تحتفظ باستقلالها القومي عنا، بتغيير دينها، حتى صار غير ديننا. وإن شئت فقل: بالحرص على قراءة التاريخ بصورة مختلفة عن العرب.

فإن قالت اليوم بأنها ترغب فيما تقول إنه “وحدة الأمة” فهي ترغب فيها بالفعل، ولكن وفق قراءتها لمفهوم “وحدة الأمة” في التاريخ.

وهي تطمع في أن نقبل قراءتها، بإهمال قراءتنا، وتسمي ذلك وحدة، فيما هو في الحقيقة احتواء.

لقد احتويناها يوماً، فهي لا تنسى هذا التاريخ، وترى إلى احتوائنا إياها ذاك خطيئة تاريخية يجب التكفير عنها، في الوقت المناسب. وها هو الوقت المناسب.

لا بأس، فالتاريخ هو: “فعل الدنيا بشروط الدنيا”. ولإيران أن تسعى إلى تحقيق طموحاتها، ولنا أن نمنعها من تحقيقها بالصورة التي تضر بنا. ولو كنا أقوياء لسعينا سعيها.

هذا المفهوم للتاريخ، هو الذي ينبغي أن يكتب حركة المستقبل. وبهذا كان التاريخ فاعلاً للمستقبل ولا بد.

التاريخ ـ بهذا المفهوم ـ يستقرئ جهد البشر في الحياة، ولا يقدم أحكاماً كلية. إنه يقول: إن نظرية معاوية في الحكم انتصرت، لا لأنها أكثر عدالة، بل لأنها أكثر موافقة للناس في زمنها، ربما بما يعيد مساءلة مفهوم العدالة.

ولنا أن نسأل: أليس وفق هذه الطريقة أخذ قصي بن كلاب زعامة مكة؟

هكذا يجب أن نقرأ التاريخ. وهكذا يتبدى لنا معاوية وعلي بطلين يتصارعان على صياغة وعي الأمة، وقد سبقهما تاريخٌ، ألزمهما بقراءته في كل موقعة وحركة.

لم يكن لعثمان بن شيبة ألا يرى أن مفتاح الكعبة من حقه. ولم يناقشه رسول الله في كيفية وراثته هذا الحق، وكيف تأتّى لجده أن ينال هذا الحق أول مرة، بل سلمه المفتاح وقال بأنه لا ينزعه من سلالته إلا ظالم.

1: وبعد قليل من السنوات قال أبو بكر: أنا سأحكم وفق ما قالته السماء، مما رأيت السماء تقوله على لسان حبيبي.

2: ثم قال عمر: أنا سأحكم وفق ما قالته السماء، مما يناسب الأرض في زمني، دون أن أخالف حبيبي.

3: ثم قال علي: أنا سأحكم كما كان يحكم أبو بكر، إلا أني سأجعل الخلافة في نسلي.

4: ولما كان الناس قد تغيروا، فقد رأى ذلك معاوية فقال: أما أنا فسأحكم كما كان سيحكم عمر، لو كان في زمني.

لقد كانت فكرة التوريث عند معاوية متأخرة أكثر من ثلاثين سنة عن علي، وبعد أكثر من عشرين سنة من توليه الحكم. أي أن فكرة التوريث عند معاوية نشأت تاريخياً بعد خمسين سنة من استقرارها في وعي عليٍّ.

لقد نضج عند معاوية ما كان خداجاً عند علي.

ولقد كانت عند معاوية حكم التاريخ، فيما كانت عند عليٍّ حكم السماء.

وهذا يضيئه قوله: أيها الناس، قد أعلم أني لست خيركم، ولكني أرجو أن أكون الأنكى لكم في عدوكم. وقد كان بيني وبين بعضكم إِحَنٌ أنا اليوم جاعلها دَبر أُذني، إن لم تكشفوا عنها النوايا.

فلا تحاكموا معاوية على فكرة نبتت في رأسه، بعد خصمه بخمسين سنة. فالتاريخ يحاكم الحركة على الأرض، ولا يلتفت إلى النوايا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى