200 متر: سردية الوجع الفلسطيني باستفهامات سينمائية

نورة البدوي | إعلامية – تونس

ينسج لنا المخرج الفلسطيني أمين نايفة في فيلمه الروائي الطويل ” 200 متر ” حكايات من نبض الواقع الفلسطيني بعيدة عن مشهدية الرصاص و القنابل ، معتمدا في ذلك على قصص إنسانية أنابعة من مشكل جدار الفصل العنصري الممتد على مسافة 200كلومتر.
حيث يقدم لنا “نايفة” في فيلمه قصة شخصيته “مصطفى” الذي لا يبعد عن عائلته سوى 200 متر و الذي عمق هذه المسافة جدار الفصل العنصري فهو لا يزورهم في كل مرة إلا بتصريح.مخرجنانطلاقا من تجربمريرة
يبدأ الفيلم بلقطة مفتحية مقربة من وجه الشخصية مصطفى  “يجسد دوره الممثل الفلسطيني علي سليمان”، و التي لا تظهر عليه غير تعابير الألم، ترافق هذه التعابير نظرة منكسرة إلى الأفق ” الوطن ” جسدته لقطة عامة.
و كأن مخرجنا يضعنا منذ الوهلة الأولى في حوار صامت بين الشخصية و علاقتها ” بالوطن”، القائمة أساسا بلغة الدلالة البصرية على الوجع .
وجع جعله “نايفة” في تسلسل يومي لأحداث تحياها شخصيتنا بين آلام الظهر و البحث عن العمل و الابتعاد عن الزوجة و الأبناء.

سردية الوجع و التيه:
ينطلق الوجع من أنا “أمين نايفة” حكاية ليبثه في الفيلم مشهدية، و كأن في ذلك اعتراف منه بمبدأ السينما في نقل خبايا الواقع و كشفه أمام الكاميرا .
في حديث إلى جريدة عالم الثقافة يقول مخرجنا:” يمكن القول أن وعيي تمّ تكوينه في سنوات الانتفاضة، فأنا من مواليد 1988، و مع بداية الانتفاضة الثانية كنت في بداية مراهقتي، هكذا تبلور وعيي على الانتفاضة و الجدار و الاجتياح، خاصة مع الاجتياح الأمريكي للعراق.
من خلال هذه الأحداث الكبيرة التي واكبتها في طفولتي، كانت لي عدة أسئلة أبرزها: لماذا ما يحدث في العالم العربي و فلسطين، لا يراه العالم؟ نحن إلى اليوم شعوب مضطهدة” .
ويكمل نايفة: ” هكذا راودتني فكرة أن أحكي قصص، ففي الانتفاضة عشنا كثيرا من فترات منع التجول، فكان الملجأ للهروب من هذا المنع حضور الأفلام ، فالسينما كانت هي المفرّ للخروج من الأزمة التي كنا نعيشها، كما أنها الوسيلة التي سأحكي بها حكايتنا للعالم”.
حكاية اختار مخرجنا أن يسردها عبر شخصية مصطفى صاحب العائلة البعيدة عنه و التي يفصلها عنها جدار إسمنتي و لا يزورها إلا بتصريح، تنقل لنا الكاميرا مشاعر التوتر و القلق للشخصية، خاصة عندما يجري حوار بينه و زوجته سلوى التي جسدت دورها “الممثلة الفلسطينية لنا زريق”:
“تقول له: أنت ترفض أن تتحصل ع الجنسية ” الإسرائيلية ” كي نستقر جميعا معا ” فيجيبها: “ما بدّي إياها الجنسية.”
رفض للجنسية و تشتت للعائلة إضافة إلى بحث مصطفى اليومي عن عمل، ليخفف من وطأة هذا العبء تدخل أحد اصدقائه له و حصوله على عمل في مجال بناء إسرائيلي.
نجد مصطفى يمر كل يوم كغيره من الفلسطينين العاملين في هذا المجال بإجراءات مشددة، يرافقها مرورهم اليومي عبر ممر ضيق كله قضبان حديدية.
في هذا الممر الذي تحتله القضبان الحديدية من كل مكان لا نعرف من الشخصيات غير مصطفى التي تبرزه الكاميرا في لقطة مقربة ثم تبتعد لتمر إلى لقطة كبيرة و بطيئة صحبة الشخصيات العابرة معه و التي لا يجمع بينهم غير الانتماء إلى فلسطين، و ذهول أخرس تجاه ما يمارس عليهم يوميا .
يحضر الصمت في هذا المشهد بقوة ليجعل الصورة ناطقة أكثر بل و مستحضرة لكل الأسئلة تجاه حياة الكائن الفلسطيني التي جعلتنا الكاميرا نتأملها و نشعر بألمها من هكذا حياة منزوعة بكل الأساليب.
فحسب تعبير مخرجنا ” الفيلم قائم على مواقف من الحياة ومن الوجع اليومي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني و ما يسرده الفيلم هو من صميم الواقع”.

تيمة الرحلة :
ينتقل بنا مخرجنا من وضع الصمت و الإجراءات إلى تصعيد في الأحداث، حيث يطرد مصطفى من العمل و في الآن نفسه تتصل به زوجته لتخبره أن احد أبنائه دخل المستشفى و يجب أن يكون بجانبه، فيلتجأ إلى الفلسطينيين العاملين في مجال التهريب لتنطلق رحلة جديدة .
يغوص بنا أمين نايفة في الحياة اليومية للفلسطيني من خلال علاقته بذاته و الأسرة و بالآخر الفلسطيني و بالمحتل، ليكشف لنا عن قتل آخر يضاهي القتل المادي الملموس و هو القتل المعنوي من خلال الحصار بكل أنواعه و ما يعيشه الفلسطيني من تشتت جراء الجدار.
تشتت عمل نايفة على تجميعه من خلال شخصيات الفيلم في رحلة داخل سيارة مهرب، حيث يوحد بينهم هدف مشترك و هو تجاوز الجدار من أجل الحضور إما “لحفل زفاف أو البحث عن عمل أو زيارة عائلة “، و إن اختلفت الحكايات فالمعاناة واحدة.
معاناة عبرت عنها تعابير الوجه أو القطع المفاجئ للاستمرارية البصرية بصورة سوداء و كأنها صرخة قاتمة للوضع و عمق الأحزان .
في الرحلة نجد كل المتناقضات حاضرة من غناء و رقص و مشاحنات، فهي لا تستمد حضورها إلا “من أجل خلق أجواء الدراما في القصة، إضافة إلى اعتبارها جسرا متينا لإبراز واقع الفلسطينيين و جعله أكثر حقيقة و مباشرتية للمشاهد” حسب نايفة.
في هذه التيمة أيضا كان هناك حضور لشخصية المرأة الأجنبية حيث جعلها مخرجنا حاملة لكاميرا من أجل أن توثق كل اللحظات لانجاز فيلمها الوثائقي، و كأنها رغبة من نايفة في اقحام البعد التوثيقي في الفيلم لنقل مسارات مختلفة للحكاية.
يصل مصطفى و بقية الشخصيات إلى الجدار فيريدون تسلقه إلا أنهم يهاجمهمون من قبل فسلطنيين يقرون بامتلاكية جانب منه، و بلغة التلصص البصري للكاميرا نشاهد عبارة مكتوبة على جدار مقابل بها كلمة “فتح”، ليفتح أمامنا بذلك لقطات من “النكسات البصرية” ربما أو مجالا لإعادة طرح الأسئلة..

نكسات بصرية :
يضعنا نايفة أمام لقطات و مشاهد و كأنه يصر على ابتلاعنا في مواجهة بيننا و الكاميرا ، باحثة في صمتنا عن الخلل في العلاقات بين الفلسطيينين ذاتهم قسمتهم السياسة هي الأخرى ، فيجعل صمت اللقطة ثرثرة للسؤال فينا عن واقع العلاقة بين حركتين فلسطينيتين غير متفقتينن، خاصة عندما يتم الشجار على ملكية جهة من الجدار؟
و بلغة اللقطة المقربة الثابتة أو الحركة البطيئة يواصل الشخصيات طريقهم ليصدمنا نايفة لاحقا بصفقة القرن، و كأنه يصر على وضعنا أمام مقارنة بين الشجار الفلسطيني من ناحية و صورة لمصافحة بين نتنياهو و بوش من ناحية أخرى.
من خلال هذه اللقطات و المشاهد يقول نايفة ” أنا وظيفتي أن اعكس الظروف التي تحدث فيها هذه القصة ، و هذه حقيقتها بعيدا عن المبالغات و الشعارات، و هذه الصور التي في الفيلم لم تكن ديكور ، كانت فعلا موجودة في مواقع التصوير بهذا الشكل”.

رمزية الإضاءة :
إن هذه الأحداث اصطبغت في النهاية بوصول “مصطفى” إلى المستشفى و رؤية ابنه و زوجته ،ثم العودة إلى حيث يقطن، و لا يتواصل معهم إلا عبر الهاتف و حركة رمزية باطفاء و إشعال النور فالمكان لا يبعد سوى 200 متر و لكن الجدار عمق و ضاعف هذه المسافة.
و في رمزية العتمة و النور يتجلى الكيان الفلسطيني الذي لا يحيا بين صوت القنابل و الرصاص فقط و إنما بين قضبان أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى