نوافذ: رباعية سرد

آلاء النفزي| المعهد النموذجي – تونس

 


نصّ مُتوّج ضمن الملتقى الوطني  للإبداعات الأدبية بالمدارس الإعدادية والمعاهد 2019

استهلال:

  • النافذة الأنثى بحروفها تُشبهني…
  • كلّما فتحت النّافذة تثاءب الطّريق

                                                   لينا شدود شاعرة ومترجمة سوريّة

(1)

فتحت نوافذ البيت وانهمكت كعادتها في عملها اليومي خادمة  تعمل في صمت ، كان عليها أن تنسى وصبها ولكنّ صيحات التلاميذ وضحكاتهم وهم في الطريق إلى المدرسة جعلتها تعود بالذاكرة حيث كانت مثلهم تماما تحمل محفظتها على ظهرها الصغير مرتدية ميدعتها متشوقة لباب يُفتح على الأنس والصفاء وقاعات تحتضن لقاء الصديق بالصديق ودروس كالترياق ووعود الشمس…

 تتذكر بهجة تأتيها صباحا في حصة العربية والفرنسية وتتذكر متعة الرياضيات وسائر العلوم وتهفو إلى وجه معلمتها الضحوك .

الآن تبتسم في انكسار وشقاء ثم تعود إلى عملها فتطوي الذكريات طيا وتطوي ثياب سيدتها على عجل لكنّ حزنها كان اكبر من أن تتحمله أو تتناساه ، كان الأسى أكبر من أن تكتمه فتسيل عبراتها لمّا تذكرت تلك الأيام التي أزهرت في ما مضى ثم ذبلت وذوت .

 كانت تُحاور معلمتها وتناقش أترابها ، تُحاججهم وتبادلهم الرأي والفكرة وتُبحر في عوالم المعرفة الجذلى ، تقرأ الشعر وتتلذّذه وتطالع القصص فتلج عبر بوابتها عوالم من خيال وعبر ، تؤدي عروضها المسرحية على خشبة من إصرار وشغف …

الآن يهجم على قلبها الصغير غيم الحزن فهي بعيدة عن عهود  مضت قريبة من خراب الوقت والامكنة لا قلم لها ولا كتاب ، مرت خمس سنوات على الطفلة “فرح” كأنها الدهر ، هو الفرح المقتول بلا سبب الموؤود بلا ذنب “ما أصعب ان يقسو القدر على الإنسان” فيسلبه لذة الحياة وأقمارها ” قالت ذلك ثم أرسلت نفسا عميقا لعلها تطفئ نيرانا في صدرها ، لعلها تنسى أن الذهاب إلى المدرسة صار أمنية تنكسر على جدار المستحيل . لم تُفق “فرح” من أسفار الذكرى إلا على صوت سيدتها القاسي ” فرح ، هيا، أين أنت ؟ أنجزي بقية عملك فلا وقت للكسل والخمول …” “لا وقت للأحلام والامنيات ” أضافت فرح تُخاطب ذاتها في صمت عميق .

كان على فرح أن تُطيع سيدتها وتلبي رغباتها وأوامرها ، تقدمت صاحبتنا إلى النافذة وأرسلت نظرها إلى السّماء فألفتها غائمة رمادية فلا ربيع ترجوه ولا خريف تودّعه، أنّى لها كل ذلك الوهن واليأس ؟ كيف تبتسم والسماء كئيبة ؟ هل كان يعلم إيليا أبو ماضي بحالي ” قالَ: السماءُ كئيبةٌ ! وتجهما** قلتُ: ابتسمْ يكفي التجهم في السما ! قال: الصبا ولّى! فقلت له: ابتــسم *ْلن يرجعَ الأسفُ الصبا المتصرما” !

بدت فرح تُناجي سماء أو كتابا  إلى أن قطعت السيدة تأملها مرة أخرى وهي تُناديها في غضب فركضت “فرح” مسرعة ولكنها حين حثّت الخطى نحو سيدتها ألقت نظرة  ثانية إلى النافذة المغلقة  وأودعتها فكرتها وأسئلتها : أليس الربيع بقريب ؟ أتسعفها النافذة بإشراقة غدها المنتظر؟”

(2)  

أليس الصبح بقريب ؟

” فتحت “فرح” نوافذ البيت وانهمكت في عملها اليومي ولكنّ ألما ألمّ بها فقطع سير أعمالها الرتيبة .

 لقد صار الوقت رخاما ولم يعد للوقت وقت ، لم تعد “فرح” تُميّز بين شمس الضّحى وضياء الفجر الذي لا فجر له ، تشابهت أيامها وفقد الوقت معناه ، “أعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة ؟”

 تساءلت الصبية  وهي تحمل دميتها وتتسلل إلى غرفة سيدتها …

جلست على الفراش الوثير وبجانبها دميتها الأثيرة تقاسمها الصمت والفراغ ، ظلت فرح شاردة الذهن إلى أن بادرتها دميتها بالسؤال ” كيف حالك؟” فأجابت فرح : “أتسألينني يا صديقتي عن حالي “وأنت جواب السؤال” ؟ إلى متى ؟ حتّى متى يكسرني هذا الظلم والظلام ؟

لقد أرهقني العمل المكرّر المُوقّع كسلسلة جهنمية بالحديد والنار ، غدت حياتي كما ترين يا دميتي: غسل وكيّ ، كنس وطبخ “… قالت  الدمية :”هوّني عليك يا فرح فلا بد للّيل أن ينجلي ولا بد – ذات يوم- للقيد أن ينكسر .

 أليس الصبح بقريب ؟”

 لكنّ الطفلة واصلت حديثها كأن ضيق العيش أكبر من فسحة الآمال ، كأنها لم تسمع وعود الغد أو تأمن انكسارات الحاضر :” آه ، لم يعد الكتاب خير جليس ولا الكراس نعم الأنيس ، الأعمال لا تنقطع وطلبات سيدتي لا تنتهي أما الجرح والندوب فهي شاهدة على مصائب صُبّت عليّ فلو أنّها “صُبّت على الأيام صرن لياليا ” .

ها قد صار البؤس يُلازمني في سجني .

صمتت فرح قليلا ثم حملت دميتها وخرجت من غرفة سيّدتها على عجل مخافة أن تراها ثم دخلت غرفتها الصغيرة المظلمة ، بحثت عن قلم وأوراق لتطلق صرختها على بياضها ” أيها الكبار دعوني أفرح”.

 سمعت باب المنزل يُفتح فعلمت ان أفراد العائلة قد عادوا ،مزقت الورقة كأنها تريد كتم صيحتها وفزعها ثم نظرت إلى النافذة المغلقة قبل أن تستأنف عملها في خدمة ربة البيت والعمل .

(3)   

فتحت “فرح” نوافذ البيت عسى أن تزور المكان نسائم يوم جديد ثم أغلقتها وتوجّهت خلسة إلى غرفتها بعد أن أحسّت بشوق يغمرها إلى الكتاب وكأنّها تستعدّ للقاء صديق لم تره منذ زمن .

 هي كلمات صديقتها الغائبة  التي لم تغب ، هي كلمات فدوى طوقان التي لطالما منحتها القوة والعنفوان بعد ان اطّلعت على سيرتها الذّاتيّة “رحلة جبلية ، رحلة صعبة ” ، فدوى طوقان تلك المرأة الفلسطينية التي سارت على درب الشعر والكفاح .

تجلس “فرح” على كرسي في ركن ركين من غرفتها  الصّاخبة بوحدتها وحنينها إلى الكاتبة والكتاب …

تتذكّر سيرة إمرأة  كم تمنّت ان تكونها …

 فلسطينية المنبت والأصل ، شعرية الهوى ، شامخة كالجبال ، رقيقة كالنسيم ، ها هي تتذكر الكاتبة والكتاب هي مثلها لم تنعم بمباهج المدرسة ورياضها ودروسها ، تستمد “فرح” قوتها من سيرة المرأة الشاعرة ، لقد ظلت فدوى منكسرة رهينة المحبسين : سجن البيت وسجن الرّوح لولا إشراقة أخيها إبراهيم طوقان المعلّم الذي علّمها “سحر” البيان والتّحدّي ، علّمها كيف تصنع الفرح بمفردات اللغة وكيف تصير بحور الشعر مياها تحملها إلى ضفاف الألق وموانئ السلامة والأمان .

 فدوى “المطوّقة” لم تسمح لها أسرتها بالاستمرار في التعليم لأنّ تعليم المرأة  ومشاركتها في الحياة العامة في ذلك الوقت، كان يُعد أمرًا غير مقبول. لكنّ فدوى طوقان استمرت في القراءة وتثقيف نفسها بنفسها وتتلمذت على يد أخيها الشاعر ابراهيم طوقان حتى صارت من أعلام الشعر العربي وامّ الشعر الفلسطيني.

طفقت فرح تُقلّب  الصّفحات تقليبا في لهفة لعلّها تجد الطمأنينة عبر السطور أو تصافح صديقتها في رياض الحبر بين دفتي الكتاب ، على هذه الصفحة بدت الشاعرة “وحيدة مع الأيام ” تماما كقارئتها ، هنا صديقتها فدوى طوقان “ضباب التّأمّل، أشواق حائرة وسنابل قمح” وهناك نداء الأرض وشعلة الحريّة … الشعر حرّيّة والكتاب قبس من نار وضياء ، هنا تغريدة سجين وقصيدة أخيرة عن ليلة ماطرة ، وهناك يوميات جرح فلسطيني وجرحها أيضا . تأخذ “فرح” كتابها بين يديها وتتلو ما تيسّر من اعترافات صديقتها الشاعرة” أم الشعر الفلسطيني” وأمّها التي تشتاق إليها وإليها يهفو القلب ويحنّ …

تنظر “فرح” إلى النّافذة المغلقة ثمّ تقرأ بصوت خافت كالنّور ، صاف كلذّة اللّقاء “

و  رُحت   بأشواقي  الجامحات

أشقّ السّحاب و أطوي السّماء

ورائي   تموت   ليالي   العذاب

أمامي   ترفّ    مجالي   الهناء

و نفسي سكرى  بحلم  اللّقاء

تُشعشع    من    فرح   باللّقاء

فما كنت أعلم  هل   أنا  ذاتي

أم    أنا  نجم    يجوب   الفضاء

و   إنّي    و   إيّاك    قصّة  حُبّ

يُخلّدها   الشعر    رغم   الفناء

كانت “فرح” كأرض جدباء لا خصب ولا ماء لولا مطر الشعر والشعراء …وكانت تشعر انّ الجدران منعت عنها عبق المدرسة ولكنّها لم تمنعها عبير الكتاب . فكّرت في كلّ ذلك ثمّ نظرت إلى النّافذة مرّة اخرى…

                                                                         (4) 

بعد يوم حافل بالعناء أغلقت “فرح” نوافذ البيت ثمّ دخلت غرفتها واتّكأت على سريرها تُريد ان تنام ،نظرت إلى السّماء فتراءى لها نجم وبدت لها صور تُحبّها وترضاها فأغمضت عينيها لتراها…

بعد لحظات تلاشت تلك المشاهد في الأفق الأزرق لمّا سمعت طرقا على الباب، قامت من نومها واتجهت سريعا إلى باب المنزل ، فتحته لكنها لم تجد احدا ، همّت بإغلاق الباب لكنها لمحت على عتبة الدار صندوقا ملوّنا كُتب عليه “هذا من اجلك ” ، حملت الهدية وعادت إلى غرفتها في حيرة وتساؤل وشيء من الفضول والشوق إلى ما لا تعرف .

كم كانت سعادتها عظيمة عارمة حين اخرجت من الصندوق هدية تلو الأخرى : محفظة كم اشتهت ان تكون لها ، ميدعة أنيقة ، فستان بل فساتين ، حذاء وكتب ، مقلمة وزي رياضي ..” “يا لهدايا المساء ، أجمل بها من عطايا وهبات ” ثم انهالت على الطفلة الأسئلة : هل تتحقق الأحلام ؟ كيف للحياة أن تكون كريمة لطيفة ؟ من تذكّر “فرح” التي لم يتذكرها أحد من قبل ؟ من زارها في سجنها وكيف  مُنحت الحرية وفسحة الآمال رغم ضيق العيش ؟ أيُعقل أن تعود إلى مقاعد الدّراسة ونعيمها ؟…

أشرق وجه فرح بشرا وأملا وظلت تتمعّن في الهدايا في انتظار أن ترتاد مدرستها عند حلول اليوم الجديد ، ستلقى معلّمتها وأصدقاءها وستواجه سبورة المعرفة بأسئلتها وصوتها واحلامها ، ستقرأ ما تشاء من الكتب وترتقي مدارج المتعلّمين  إلى “حياة ثانية” لتعيش مرّتين لعلّها  تلتقي شموسا مضيئة أو ترى في الكتاب نجما لا يأفل.

 تصغي “فرح” إلى صدى الحلم ” في أصواتهم  :  هذا محمود درويش يُخاطبها قائلا “سأحلم  ربما اتسعت بلاد لي”  … وذلك ” مارتن لوتر كينغ”  يُخاطب الجماهير “لدي حلم هذا هو أملنا. هذا هو الإيمان سنكون قادرين على شق جبل اليأس بصخرة الأمل”…  ثمّ يُرافقها  الشابي إلى مدرستها متوجهين معا «إلى النور ذلك العذب الجميل الى النور، إلى … ظل الاله”.

لم تشعر فرح قبل تلك الليلة  بالبهجة تسكنها وبالأنباء السارة تملأ غرفتها وقلبها لكنّ أمرا ما وقع فرُفعت السّتائر على الفجيعة والخسران لقد رنّ جرس المنبّه معلنا عن ساعات الصباح الأولى من يوم جديد ستكون فيه فرح مرّة أخرى بعيدة عن حلمها ، فالهدايا ، كل الهدايا سراب السراب فلا محفظة ولا ثياب ولا  كتب أو مقلمة ،العودة إلى المدرسة لم تكن غير حلم مات حين وُلد .

ها هي فرح تستيقظ من نومها لتشرع في عملها خادمة مطيعة وطفلة تُجهد نفسها وقد مُنعت كأطفال آخرين من العائلة والمدرسة   .

فتحت “فرح” نوافذ البيت وانهمكت كعادتها في عملها اليومي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى