قراءة في كتاب ” تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير و الإجراء” للدكتور سعيد كاظم

 د. وهيبة سقاي | الجزائر

يُعدُّ النقد دراسة معمّقة للعمل الأدبي ، تقوم بإصدار أحكام على نصوصه، فتقديرها الصّحيح و تقييم أثرها الفنّي، مع بيان قيمتها مقارنة بسواها..هذا بالإضافة طبعا لتفسيرها و تسليط الضوء عليها من كافة النواحي.. فهو إذن، عملية مستقلة بذاتها، و لكنها مشتقة من العمل الأدبي، يرتبط من خلالها ذوق الناقد بفكره، في محاولة منهما للكشف عن جماليّة النص الأدبيّ، و نبش أرضيته، و استخراج العيوب التي من شأنها إضعاف العمل و طمس لمعانه.. وإذا كان الأديب مُطالب بالتعبير الإبداعي، فالناقد مُطالب بنقد ذاك التعبير بموضوعية وحيادية..و إذا كان الأدب إبداعا، فيفترض في هكذا حالة، أن يكون النقد إبداعاً هو الآخر.. هذا إن كان العمل المطروح للنقد و الدراسة، رواية أو قصّة أو حتى نصّاً مسرحياً..أمّا إذا كان هو نفسه بحثا نقديا، فسيترتب على من سوّل له قلمه الخوض في غمار هكذا حرب ضروس، تحتدم فيها المعركة بين مهارة الناقد و النّص، أن يعيد التفكير عدّة مرّات قبل أن يُقدم على هكذا خطوة خطيرة.. خطوة يصّح وصفها بالمجازفة الأدبية لا غير..و هذا ما سأقدم عليه من خلال قراءتي لعمل نقدي مميّز، لأديب و ناقد نشأ في مدينة تمتلك تاريخاً حضارياً متميّزًا، ناهيك عن ما تحتويه، من كم هائل حضاري و فكري لطالما عُرِف بالغزارة والثراء.. إنّها الحلة الفيحاء، التّي أضفى عليها نهر الفرات، طبيعة ساحرة، و ساهم في نبوغ أبنائها الذّين ارتووا من مياهه العذبة، فشبّوا على حّب النهل من ينابيع العلم و المعرفة.. “تجييل الكتابة الشعرية في العراق بين التنظير و الإجراء- دراسة في الجيل التسعيني”، إنّه عنوان الكتاب، الذّي سأتناول دراسة محتواه، لصاحبه الناقد الدكتور سعيد حميد كاظم.. باحث أكاديمي وناقد عراقي، دكتوراه في اللغة العربية وآدابها، من كلية التربية للعلوم الإنسانية بجامعة بابل.. الكتاب ذو المئتي و أربعين صفحة، يحتوي على ثلاثة فصول أساسية أو محاور، احتوى كّل فصل منها على ثلاثة مباحث، وهو عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد لسنة 2013م.


من أوّل وهلة، يبدو محتوى الكتاب معقّدا نوعا ما، و لكن مع مجرّد التوغّل في فصوله الأولى، و التّي أتقن الكاتب صياغتها و ربطها ببعضها البعض، يتضّح لنا العكس تماما..
و مع التعمّق في القراءة، تزول تلك الصعوبات التّي كنّا نخشاها، و تبرز لنا ملامح نّص شيّق ممتع للمطالعة، و أداة بحث نافعة متميّزة، في متناول كّل باحث أكاديمي..
سيسألني أحدهم..و هل نصوص النقد تجلب المتعة لقارئها، كما هو الحال بالنسبة للرواية أو القصّة؟..الجواب سيكون حتما بالجزم و التأكيد..فمتعة قراءة النّص النقدي لا يتوّصل إليها إلاّ من استوعب المعنى الحقيقي له، و هذا الأمر ليس بالهيّن البتة..فهنا يكمن السّر، وهذا ما يجعل دراسة النّص النقدي مُعقدة ومُمتعة في الوقت نفسه، و مصدرا للتأمل والجدل الغير المنتهيين، حيث تتنافس مشّقة الفهم مع الرغبة في فك العقد، و محاصرة الفكرة، المستقاة من النص نفسه، أو من كل ما يحيط به..فكرة أريدُ توصيلها للقارئ، و فّك طلاسمها، كي تبرز للعيان في شكل بسيط، واضح جميل..
من عنوان الكتاب، أريد أن أسلّط الضوء على كلمة وردت فيه، أراها تلّخص محتواه برّمته..إنّها كلمة “التجييل”..
و هي مسألة أدبية ذات إشكالات لا تنتهي، و محور مناقشات و جدال واسع بين الكتاب من مختلف الأجيال..فهناك منهم من يربطها بالاستناد للعمر الزمني وليس لعناصر المكونات الإبداعية ومدى تقاطعها فيما بينها، ومنهم من يرى عكس هذا، وهناك أراء كثيرة مخطئة أحيانا بشأنها..
و لكن قبل الخوض في هكذا مسالة، يجب قبل كّل شيء معرفة مفهوم التجييل ، وعلى أي أساس يتم تقسيم الأجيال وبأي معيار أو رؤية أو مفاهيم، وهل التجييل زمني أو فني، يعني هل يقاس بالفارق العمري الزمني وسنواته، أم الفارق الفني المتسّم بإبداعيته وجماليته وخلفياته ومرجعياته؟..
وفي هذه النقطة، لم يذّخر كاتبنا أي جهد لشرح هذه المعضلة، مستدلا بوجهات نظر مختلفة ومتباينة، أضاءت دهاليز ما خفي بالنسبة لهكذا موضوع نقدي بالغ الأهمية..
من فصول المؤلف، يتبادر لذهننا أنّ التجييل، مفهوم يستعمل في تحديد فئة اجتماعية أدبية، لمزيج من الأعمال الفكرية، قد ترك بصماته، على فترة تاريخية من المجتمع الذي ينتمي إليه، وأحيانا من المجتمع الإنساني عامة..
وهو مفهوم ارتبط أكثر بتعاقب الأجيال في الفن والمسرح والسينما والشعر والرواية والقصة والنقد والفلسفة، ذلك بالنظر إلى شرط السن، في علاقته طبعاً بأهم التحولات الاجتماعية والفلسفية الحاصلة في سيرورة هذا الجيل أو ذاك..
و هي المرادف الجديد لصراع الأجيال أو تصادمها، أي ما قد حدث وما قد يحدث بين جيل سابق وجيل آخر، سبقه إما زمنيا أو فكريا..وما يخلّف ذلك من استمرار أو قطيعة بينهما..فلا يختلف اثنان في تقسيم الجيلين وتباينهما إما زمنيا ، أو فكريا بقياس التباين الفكري..
و يعتقد د. سعيد حميد كاظم، أن كلمة جيل مرادف حقيقي لكلمة قطيعة وأن التجييل محاولة الجيلين لذلك، أي أنّ الأول ينكر وجود و كينونة الثاني، بينما يقدم هذا الأخير على قطع حبله السري الإنتمائي بالأول، و هي علاقة متوترة، أساسها المنافسة الغريزية للتواجد، والاستماتة في البقاء..
و لكي لا ابتعد عن موضوع الكتاب، سأرجع لعنوانه و الذّي هو بالنسبة لي، البوصلة التّي توّجهني نحو الدّقة في معالجة فصول الكتاب..الشطر الثاني من عنوان الكتاب يدور موضوعه حول الكتابة الشعرية في العراق الخاصة بالجيل التسعيني..الكاتب حدّد مساحة بحثه، لا عذر لي إذن لو ابتعدت و تهت في دروب نقدية وعرة..
و يستحسن في هكذا قراءة لمواضيع تمّس بالتاريخ الشعري لبلد كالعراق، أن أحصر ما تطرّق له الكاتب واضح المعالم و بسيط، لإبراز الفكرة من ناحية، و للابتعاد عن التطويل و الركاكة، من ناحية أخرى..
فالهدف من دراستي النقدية هاته، هي أن أقدّم الكتاب على طريقتي أنا، الأديبة التّي خاضت و لأوّل مرّة تجربتها في عالم النقد النقدي، إن صح التعبير، و التّي تسعى أن توَّفق في ذلك، و ليس على طريقة ناقد متمكن، لا يترك صغيرة و لا كبيرة إلا و يحللها تحليلا نقديا دقيقا مفصّلا..
و حسب ما تناوله الكتاب من معطيات، يجدر بي أن أشير، أنّ ظروفا عدة في العراق، قد أسهمت في تكريس ظاهرة الأجيال، فكان العهد الملكي في الأربعينات والخمسينات، والرخاء الذي شهدته الحياة الاجتماعية آنذاك، كفيلًا في بلورة رؤى من كتب وبرز فنيًّا في تلك المرحلة، لتجمعه مع أقرانه بعض الملامح المشتركة، ثم دخلت مرحلة الستينات بصخبها الأيديولوجي وعصر الهزائم القومية الكبرى، لتكتسب ملامح خاصّة ظلت مهيمنة على الساحة الإبداعية لعقود طويلة، ما زالت آثارها شاخصة حتى الآن، ليولد تحت ظلها جيل وقع تحت هيمنتها، وانمحت سماته، سُمي في العراق بجيل السبعينات المهزوم..
بعد ذلك نشبت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت على مدى ثماني سنوات، فنتج عنها أدب حربي تعبوي كان كافيًا لتجييل من ظهر في تلك الفترة..فأينعت تجاربه الفنيّة تحت لهيب النّار، ليسمى لاحقًا جيل الثمانينات، الذي ظل مهيمنا على الساحة الأدبية في العراق حتى سقوط بغداد تحت الاحتلال الأمريكي في العام 2003م..
و إذا كانت الأجيال السابقة قد نالت حظّا موفورا من البحث و الدراسة، في دراسات أكاديمية و غير أكاديمية، فالأمر يختلف جدّا مع الجيل التسعيني، فهو إما مغيّب لأسباب فنية جمالية بحّتة ، أو أنّ تجربته لم تنضج و لم تكتمل بعد، و لم يرافقها اهتمام أو نقد من شانه النهوض بها و نفض الغبار عن معالمها التّي لم تعد بارزة للعيان..أو ربّما لعدم توّفر المادة اللازمة عنه، بما يوازي ما توّفر من موّاد و أدوات دراسة، حظيت بها غيره من الأجيال الأخرى..
لتظهر في العراق، تجارب مختلفة ومتمردة وعصية على التجييل، تجاوزت فنيًّا كافّة الأجيال التي سبقتها، وهي ليست جيلا محدد الملامح أو متقاربا زمنيا، بل خليط من بقايا الأجيال السابقة واللاحقة كلها، وهذا دليل على أن قضية التجييل في الأدب والشعر و الفنون، ليست واقعية ولا تمتلك أرضية صلبة تمّكنها من الوقوف عليها..
و لقد استدّل صاحب الدراسة بنماذج عديدة من الساحة الشعرية لتلك الفترة..و لم يترك نقطة كان يستوجب الإشارة إليها، إلاّ و خاض فيها بكّل أمانة، معطيا لكّل عناصر من عناصر بحثه الأهمية التّي يستحقّها..
خلاصة القول، كاتبنا لم يكن يهدف من خلال مؤلفه، لأن يكشف لنا عن أي جيل أحسن و أيهما أساء، و لا أيّهما مؤهل لمقاربة إشكالية العلاقة بين جيل وآخر، ولكنه أراد لفت الانتباه و تصويب الأنظار إلى فضاءات جيل معيّن، من حقبة زمنية معينة، من أجل دراسته بجدية، كونه ارتبط بمفصلٍ هام من مفاصل ذاكرة الحركة الشعرية العراقية..خصوصاً وأن هذه الذاكرة، عانت أزمة حادة، كونها كانت عاجزة على تحديد متطلبات اللحظة المستقبلية، بل وغير واعية بأهمية التفاعل مع تعاقبية الفكر والإبداع بشكل عام..
ومن هنا فإثارة هكذا إشكالية يجب أن لا تمر بدون مناقشة تتداخل فيها الرؤى والأفكار، وتتبلور من خلالها خصائص الجيل التسعيني، بحقيقته وقابليته التّي كانت من المفترض أن تكون متواجدة، لمسايرة حركة ازدهار الأدب العراقي بصفة عامة، و الشعر بصفة خاصة، و إمكانية تطوّر هذا الأخير نحو الأحسن..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى