بانوا بانوا على أصلكوا بانوا والساهي يبطل سهيانوا”!

تحسين يقين | رام الله – فلسطين

التراجيديا.. هل تطهرنا؟ هل تغير مسار الطريق إلى مستقبل أجمل؟! أكان دوما لا بد من الألم، والدموع، الدم؟ كيف تتكرر الآثام والخطايا بحق الأفراد والجماعات والأمم؟ وحين تتكرر التراجيديا فإنها، بالرغم من سخريتها، تظل تراجيديا مؤلمة، وهنا هل سيكون للكلمة دور حتى لا يتكرر كل ذلك الجنون؟ هل سننضج أفرادا وجماعات؟ أم هي الدنيا غابة وإن تحسنت أساليب العصر!.. ترى ماذا أراد علي بدر خان وشوقي عبد الحكيم وصلاح جاهين قوله في فيلم “شفيقة ومتولي”؟

مرة أخرى نحن إزاء تاريخ شخصي للوعي على الفيلم، من طفولة ابن 12 عاما، مرورا بتكرار المشاهدة فتى وشابا، وكهلا، لأحد الروائع. في الطفولة، بالرغم من المعنى المباشر، من وقوع المأساة على خلفية سلوك الأخت، فإنني شعرت بأن هناك أمرا آخر، له علاقة بعلية القوم المطربشين. وفيما بعد، حيث قرأنا سطورا عن قناة السويس، تذكرنا الفيلم، ثمة أمر إذن أبعد من سلوك شفيقة، إنه سلوك النخبة الحاكمة. صرت عندما أشاهد الفيلم أتذكر كل ذلك، وصولا لنقد الحاضر من خلال عرض الماضي رواية وفيلما.

ظهر الفيلم عام 1978، في فترة ليس سهلا حتى الآن تناولها، وقد كان من المفروض أن يقوم بالإخراج المرحوم يوسف شاهين، الذي أخرج فيلم “عودة الابن الضال قبل ذلك بعامين، أي عام 1967، ولكن بسبب ظروفه الصحية لم يستطع أن يواصل التصوير بعد أسبوع من العمل، فأوكل المهمة إلى المخرج الشاب علي بدرخان، تلميذه، والذي عمل معه مساعد مخرج من قبل،  فقام بدرخان بإعادة صياغة السيناريو مع صلاح جاهين، واكتفى شاهين بإنتاج الفيلم، إلا إننا رأينا رغم ذلك روح شاهين السينمائية والناقدة.

في “عودة الابن الضال”، كانت النهاية دموية تراجيدية، كذلك هنا في “شفيقة ومتولي”، حيث لربما، كان لا بد من التراجيديا في المكان والزمن المناسب، باتجاه كلاسيكي تنفيرا من الفساد في الحكم، الذي استمر فترة طويلة، من خلال “حدوتة” تم عرضها ضمن رمزية واقعية.

ترى ماذا أراده يوسف شاهين من قبل، وعلي بدر خان من بعد؟

ممم…وما الذي أريده وربما آخرون شاهدوا وما زالوا هنا وفي بلادنا العربية أو حتى من شاهدوا الفيلم مترجما؟

تلك فضاءات الفنون والآداب، وكل وما يشتبك به بما لديه من مواقف وأفكار، هدفها إنساني ووجودي التزاما بالمجتمعات والبشر. أي باختصار وصراحة: الحكم الرشيد، العادل، المستجيب لحاجات الناس وحقوقهم، والذي يعرفهم بواجباتهم، من خلال تداول السلطة، والتي تكون الانتخابات طريقا مسالما مقبولا.

لعل بدر خان أراد بحياء ما من خلال قصة شعبية تاريخية تقديم نقد سياسي لما بدأ يتكون من تحالف سياسي واقتصادي في بدايات الانفتاح الاقتصادي، الاهم الان هو ان الفيلم ما زال له دوره انه خلود الروائع..لقد أبدع المخرج وطاقم التمثيل.

في فيلم “شفيقة ومتولي” أكثر من جانب، أولا السياق التاريخي، ثم الدخل ووجود المرأة وسطوة الذكور عليها في ظل وجودها بلا سند، حيث اقتيد اخوها متولي للعمل في قناة السويس، وعلاقة الحياة الاجتماعية بمنظومة الحكم نفسها التي يتحالف فيها تاجر البشر بالأفندي السياسي الفاسد، والتي سخرت منها شفيقة في اغنية “بانو بانو” التي ابدعتها الراحلة سعاد حسني. والأهم في دلالات إسقاط ما كان أمس على اليوم (عندما عرض الفيلم آخر السبعينيات).

تستدعى السلطة عشرات الآلاف من الشباب للعمل سخرة في قناة السويس، يترك متولي شقيقته وحدها مع الجد، حيث تضطرها الظروف القاسية للاستجابة لإغراءات ابن شيخ البلد دياب، الذي يوهمها بالحب والزواج.  وتكتشف البلدة العلاقة الآثمة بينهما، فتضطر إلى الرحيل برفقة القوادة هنادي إلى أسيوط . في أسيوط يعجب الطرابيشي الذي يقوم بتوريد عبيد إلى شركة قناة السويس بشفيقة، وتصبح عشيقته، وتبدأ في كشف طبيعة عمله، ويسلمها الطرابيشي لأفندينا أحد رجال الخديوي كرشوة كي يضمن سلامته بعد إن ورد اسمه في لجنة التحقيق الدولية، فتضيق من بؤسها وهوانها، فتعود الى بلدها، رغم ما تتوقعه من نهاية دامية يوما على يد أخيها. وتنكشف فضيحة الطرابيشي في تجارة العبيد . يعود متولي إلى قريته، بعد أن يرى وشم صورة أخته على ذراع دياب، الذي يقتاد إلى العمل في القناة، بعد أن تم تسريح أبيه، فيعرف العلاقة بين أخته ودياب فيقتله ثم يهرب من عمله لغسل العار، ولكن قبل ذلك كله تسبقه رصاصات افندينا الذي يعدّ الشريك الأول مع الطرابيشى في تجارة العبيد، فقد قرر أفندينا التخلص من شفيقة حتى لا تفشى سره، وسر الطرابيشى، وتموت شفيقة برصاصات أفندينا، الذي يفاجأ بمعرفتها بما يدور في الصحراء، حين قلبت مشهد اللعب الدرامي الكوميدي لإحدى فرق الموالد، الى محاكاة تراجيدية حين تطلب منهم تمثيل مشاعر موتى الكوليرا والعطش من عمال حفر القناة.

وأظن أن أغنية بانوا بانوا، التي كتبها صلاح جاهين ولحنها الموسيقار كمال الطويل، كانت قمة النقد السياسي. ربما شاهدتها وسمعتها عشرات إن لم يكن مئات المرات، حتى إنني عدت لمشاهدة فيلم “شفيقة ومتولي”، لأجل رؤية الأغنية ضمن السياق الدرامي للفيلم، حتى أن قيل إن الأغنية الرئيسية في الفيلم “يانو بانو” كانت من أسباب شهرته. وانصح بتأمل سيميائي لأغنية بانوا لسعاد حسني لأنها فعلا تختصر كل الكلام، بل أنصح بمشاهدة هذه التراجيدية السينمائية كلها.

تبدأ الأغنية التي استغرقت سبع دقائق، بتناول شفيقة كأس نبيذ، ما أن تشربه حتى تطلب آخر، ترقص بنزق وبحركات الوجه واليدين والجسد احتقارا للطرابيشي الذي باعها، وضيوفه، (بمن فيهم روبير الطبيب المتورط في الفضيحة)، في حين يكون أفندينا ينظر من الشباك بشبق نحوها.

بانوا بانوا بانوا على أصلكوا بانوا والساهى يبطل ساهيانو

ولا غِنا ولا سيط دولا جنس غويط وكتاب ما يبان من عنوانه

جربنا الحلم المِتعايق ابو دم خفيف وبقينا معاه إخوه شقايق .. فاكرينه شريف

أتاريه مش كدا على طول الخط الطبع الرضى من جواه نط

خلاص بقى مهما إنشال وانحط مافيش دمعة حزن عشانه

هو نقد رمزي لرجال الحكم في فترة سابقة، من خلال نقد عشاقها الكاذبين، غير المأسوف على رحيلهم، بسبب ما هو كامن داخلهم من سوء. ثم تنتقل القصيدة إلى المرحلة الثانية من تحولات الحكم، حيث يتكرر الفساد نفسه، فتوجه النقد للطرابيشي وكل من سار على دربه في القرن العشرين والواحد والعشرين:

وعرفنا سيد الرجال عرفنا عين الأعيان

من بره شهامه وأصاله  تشوفوا تقول أعظم إنسان

إنما من جوه ياعيني عليه بياع ويبيع حتى والديه

وأهوا ده اللى اتعلمناه على إيديه القهر وقوة غليانه

وهنا، ثمة حزن مغلف بنفور، كأن شفيقة هنا مصر، أو أي بلد مورس عليه فعل الاستبداد، حيث تلجأ للهروب من واقعها عبر الشراب، وختمت ب: القلب على الحب يشابي والحب بعيد عن اوطانه في دلالة على النقد الحاد:

دوروا وشكوا عنى شويه كفاياني وشوش ده أكم من وش غدر بيا ولا ينكسفوش

وعصير العنب العنابي العنابي نقطه ورا نقطه يا عذابي يا عذابي

يكشفلي حبايبي وأصحابي يوحدني وانا فى عز شبابي

القلب على الحب يشابي والحب بعيد عن اوطانه

بانوا .. أيوه بانوا  أهو كدا بانوا على أصلكوا بانوا

ثمة خيط ايضا دقيق لم نكن ننتبه له من قبل، له علاقة ايضا ببطلة الفيلم، حتى أننا لا ندري الدمعة المترقرقة في عينها وهي تغني: “دوروا وشكوا عنى شويه كفاياني وشوش ده أكم من وش غدر بيا ولا ينكسفوش” أكانت رثاء لحظ شفيقها أم مصيرها هي، الذي يؤول أيضا الة نهاية دامية أمام إحدى عمارات لندن.

اليوم ونحن نتأمل السفينة الجانحة في قناة السويس، نتذكر القناة التي استغرق حفرها 10 سنوات (1859 – 1869)، من خلال سواعد مليون عامل مصري، مات منهم أكثر من 120 ألف أثناء عملية الحفر نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. لم يخف حزن المصريين إلا بعد أن قام الرئيس عبد الناصر بتأميمها عام 1956، بالرغم من الضريبة الباهظة التي تمثلت بالعدواني الثلاثي على مصر.

لعلنا لا نتطهر شعوريا فقط، بل أن نغيّر الحال بحال أفضل، ارتقاء لأنفسنا وأرضنا من خلال صلاح الحكم ونبله وشفافيته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى